أي : ذلك الموصوف بتلك الصفات ، عيسى بن مريم ، من غير شك ولا مرية ، بل قول الحق ، وكلام الله ، الذي لا أصدق منه قيلا ، ولا أحسن منه حديثا ، فهذا الخبر اليقيني ، عن عيسى عليه السلام ، وما قيل فيه مما يخالف هذا ، فإنه مقطوع ببطلانه ، . وغايته أن يكون شكا من قائله لا علم له به ، ولهذا قال : { الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ْ } أي : يشكون فيمارون بشكهم ، ويجادلون بخرصهم ، فمن قائل عنه : إنه الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عن إفكهم وتقولهم علوا كبيرا .
ثم ختم - سبحانه - هذه القصة ببيان وجه الحق فيها ، وأنذر الذين وصفوا عيسى وأمه بما هما بريئان منه بسوء المصير . فقال - تعالى - : { ذلك عِيسَى . . . }
اسم الإشارة { ذلك } فى قوله : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ } إشارة إلى ما ذكره الله - تعالى - قبل ذلك لعيسى من صفات حميدة ، ومن أخبار صادقة وهو مبتدأ ، وعيسى خبره ، وابن مريم صفته .
ولفظ : { قَوْلَ } فيه قراءتان سبعيتان إحداهما قراءة الجمهور بضم اللام ، والثانية قراءة ابن عامر وعاصم ، بفتحها .
وعلى القراءة بالرفع يكون { قَوْلُ الحق } خبر لمبتدأ محذوف . فيكون المعنى : ذلك الذى أخبرناك عنه بشأن عيسى وأمه هو قول الحق - عز وجل - وهو قول لا يحوم حوله باطل ، ولا يخاطله ريب أو شك . فلفظ { الحق } يصح أن يراد به الله - سبحانه - لأنه من أسمائه ، ويصح أن يراد به ما هو ضد الباطل ، وهو الصدق والثبوت .
وعلى قراءة النصب يكون لفظ { قَوْلَ } مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة ، أى : ذلك الذى قصصناه عليك - أيها الرسول الكريم - من شأن عيسى ابن مريم ، هو القول الثابت الصادق . الذى أقول فيه قول الحق .
والإضافة من باب إضافة الموصوف إلى صفته أى : القول الحق ، كقوله - تعالى - { وَعْدَ الصدق } أى : الوعد الصدق .
وقوله : { الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ } بيان لموقف الكافرين من هذا القول الحق الذى ذكره الله - تعالى - عن عيسى وأمه . و { الذي } صفة للقول . أو للحق . و { يَمْتُرُونَ } يشكون من المرية بمعنى الشك والجدل . . .
أى : ذلك الذى ذكرناه لك من خبر عيسى هو القول الحق ، الذى شك فى صدقه الكافرون ، وتنازع فيه الضالون ، فلا تلتفت إلى شكهم وكفرهم بل ذرهم فى طغيانهم يعمهون .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : هذا الذي بيّنت لكم صفته ، وأخبرتكم خبره ، من أمر الغلام الذي حملته مريم ، هو عيسى ابن مريم ، وهذه الصفة صفته ، وهذا الخبر خبره ، وهو قَوْلَ الحَقّ يعني أن هذا الخبر الذي قصصته عليكم قول الحقّ ، والكلام الذي تلوته عليكم قول الله وخبره ، لا خبر غيره ، الذي يقع فيه الوهم والشكّ ، والزيادة والنقصان ، على ما كان يقول الله تعالى ذكره : فقولوا في عيسى أيها الناس ، هذا القول الذي أخبركم الله به عنه ، لا ما قالته اليهود ، الذين زعموا أنه لغير رِشْدَة ، وأنه كان ساحرا كذّابا ، ولا ما قالته النصارى ، من أنه كان لله ولدا ، وإن الله لم يتخذ ولدا ، ولا ينبغي ذلك له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقّ قال : الله الحقّ .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يقولون في هذا الحرف في قراءة عبد الله ، قال : الّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ، قال : كلمة الله . ولو وُجّه تأويل ذلك إلى : ذلك عيسى بن مريم القول الحقّ ، بمعنى ذلك القول الحقّ ، ثم حذفت الألف واللام من القول ، وأضيف إلى الحقّ ، كما قيل : إنّ هَذَا لَهُوَ حَقّ اليَقِينِ . وكما قيل : وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ، كان تأويلاً صحيحا .
وقد اختفلت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الحجاز والعراق : «قَوْلُ الحَقّ » برفع القول ، على ما وصفت من المعنى ، وجعلوه في إعرابه تابعا لعيسى ، كالنعت له ، وليس الأمر في إعرابه عندي على ما قاله الذين زعموا أنه رفع على النعت لعيسى ، إلا أن يكون معنى القول الكلمة ، على ما ذكرنا عن إبراهيم ، من تأويله ذلك كذلك ، فيصحّ حينئذٍ أن يكون نعتا لعيسى ، وإلا فرفعه عندي بمضمر ، وهو هذا قول الحقّ على الابتداء ، وذلك أن الخبر قد تناهى عن قصة عيسى وأمه عند قوله ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ثم ابتدأ الخبر بأن الحقّ فيما فيه تمتري الأمم من أمر عيسى ، هو هذا القول ، الذي أخبر الله به عنه عباده ، دون غيره . وقد قرأ ذلك عاصم بن أبي النّجُود وعبد الله بن عامر بالنصب ، وكأنهما أرادا بذلك المصدر : ذلك عيسى ابن مريم قولاً حقا ، ثم أدخلت فيه الألف واللام . وأما ما ذُكر عن ابن مسعود من قراءته : «ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم قالُ الحقّ » ، فإنه بمعنى قول الحقّ ، مثل العاب والعيب ، والذام والذيم .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا : الرفع ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وأما قوله تعالى ذكره : الّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ فإنه يعني : الذي فيه يختصمون ويختلفون ، من قولهم : ماريت فلانا : إذا جادلته وخاصمته : وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ذلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقّ الّذِي فيهِ يَمْتَرُونَ امَتَرت فيه اليهود والنصارى فأما اليهود فزعموا أنه ساحر كذّاب وأما النصارى فزعموا أنه ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وإله ، وكذبوا كلهم ، ولكنه عبد الله ورسوله ، وكلمته وروحه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : الّذِي فيهِ يَمْتَرُونَ قال : اختلفوا ، فقالت فرقة : هو عبد الله ونبيه ، فآمنوا به . وقالت فرقة : بل هو الله . وقالت فرقة : هو ابن الله . تبارك وتعالى عما يقولون علوّا كبيرا . قال : فذلك قوله : فاخْتَلَفَ اْلأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ والتي في الزخرف . قال دِقْيوس ونسطور ومار يعقوب ، قال أحدهم حين رفع الله عيسى : هو الله ، وقال الاَخر : ابن الله ، وقال الاَخر : كلمة الله وعبده ، فقال المفتريان : إن قولي هو أشبه بقولك ، وقولك بقولي من قول هذا ، فهلمّ فلنقاتلهم ، فقاتلوهم وأوطؤوهم إسرائيل ، فأخرجوا منهم أربعة نفر ، أخرج كلّ قوم عالمهم ، فامتروا في عيسى حين رُفع ، فقال أحدهم : هو الله هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا ، وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء ، وهم اليعقوبية ، فقال الثلاثة : كذبت ، ثم قال اثنان منهم للثالث ، قل أنت فيه ، قال : هو ابن الله ، وهم النسطورية ، فقال الاثنان : كذبت ، ثم قال أحد الاثنين للاَخر : قل فيه ، قال : هو ثالث ثلاثة : الله إله ، وهو إله ، وأمه إله ، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى قال الرابع : كذبت ، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ، وهم المسلمون ، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال ، فاقتتلوا ، فظهر على المسلمين ، وذلك قول الله : وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يأْمُرُونَ بالقِسْطِ مِنَ النّاسِ قال قتادة : هم الذين قال الله : فاخْتَلَفَ الأحْزَابُ اختلفوا فيه فصاروا أحزابا .
اعتراض بين الجُمل المقولة في قوله : { قال إني عَبْدُ الله } [ مريم : 30 ] مع قوله : { وإن الله ربي وربكم } [ مريم : 36 ] ، أي ذلك المذكور هو عيسى ابن مريم لا كما تزعم النصارى واليهود .
والإشارة لتمييز المذكور أكمل تمييز تعريضاً بالرد على اليهود والنصارى جميعاً ، إذ أنزله اليهود إلى حضيض الجناة ، ورفعه النصارى إلى مقام الإلهية ، وكلاهما مخطىء مبطل ، أي ذلك هو عيسى بالحق ، وأما من تصفونه فليس هو عيسى لأن استحضار الشخص بصفات غير صفاته تبديل لشخصيته ، فلما وصفوه بغير ما هو صفته جُعلوا بمنزلة من لا يعرفونه فاجتلب اسم الإشارة ليتميز الموصوف أكمل تمييز عند الذين يريدون أن يعرفوه حق معرفته . والمقصود بالتمييز تمييز صفاته الحقيقية عن الصفات الباطلة التي ألصقوها به لا تمييزُ ذاته عن الذوات إذ ليست ذاته بحاضرة وقت نزول الآية ، أي تلك حقيقة عيسى عليه السلام وصفته .
و { قَوْلُ الحقّ } قرأهُ الجمهور بالرفع ، وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب بالنصب ؛ فأما الرفع فهو خبرٍ ثانٍ عن اسم الإشارة أو وصف لعِيسى أو بدل منه ، وأما النصب فهو حال من اسم الإشارة أو من عيسى .
ومعنى { قَولَ الحقّ } أن تلك الصفات التي سمعتم هي قول الحق ، أي مَقول هو الحق وما خالفها باطل ، أو أن عيسى عليه السلام هو قول الحق ، أي مقول الحق ، أي المكون من قول ( كُن ) ، فيكون مصدراً بمعنى اسم المفعول كالخلق في قوله تعالى : { هذا خلق الله } [ لقمان : 11 ] .
وجَوّز أبو علي الفارسي أن يكون نصب { قَولَ الحقّ } بتقدير : أحُقُّ قولَ الحق ، أي هو مصدر مؤكّد لمضمون الجملة قبله منصوب بفعل محذوف وجوباً ، تقديره : أحُقّ قولَ الحق . ويجوز أن يكون { قَولَ الحقّ } مصدراً نائباً عن فعله ، أي أقول قول الحق . وعلى هذين الوجهين يكون اعتراضاً . ويجوز أن يكون { قَولَ } مصدراً بمعنى الفاعل صفة لعِيسَى أو حالاً منه ، أي قائل الحق إذ قال : { إنِّي عَبْدُ الله ءاتانِي الكِتابَ إلى قوله : { أُبْعثُ حَيّاً } [ مريم : 30 33 ] .
و { الَّذي فيهِ يمْتَرُونَ } صفة ثانية أو حال ثانية أو خبر ثان عن { عيسى ابنُ مريمَ } على ما يناسب الوجوه المتقدمة .
والامتراء : الشكّ ، أي الذي فيه يشكون ، أي يعتقدون اعتقاداً مَبناه الشك والخطأ ، فإن عاد الموصول إلى القول فالامتراء فيه هو الامتراء في صدقه ، وإن عاد إلى عيسى فالامتراء فيه هو الامتراء في صفاته بين رافع وخافض .