اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ} (34)

قوله تعالى : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ } : يجوز أن يكون " عِيسَى " خبراً ل " ذلك " ويجوز أن يكون بدلاً ، أو عطف بيان ، و " قَوْلُ الحقِّ " خبره ، ويجوز أن يكون " قَوْلُ الحقِّ " خبر مبتدأ مضمرْ ، أي : هو قولُ ، و " ابْنُ مَرْيَم " يجوز أن يكُونَ نعتاً ، أو بدلاً ، أو بياناً ، أو خبراً ثابتاً .

وقرأ{[21603]} عاصمٌ ، وحمزةُ ، وابنُ عامر " قَوْلَ الحقِّ " بالنَّصب ، والباقون بالرفع ، فالرفع على ما تقدَّم ، قال الزمخشري - رحمه الله- : " وارتفاعه على أنَّه خبرٌ ، بعد خبرٍ ، أو بدلٌ " . قال أبو حيَّان : " وهذا الذي ذكرُهُ لا يكُونُ إلاَّ على المجازِ في قولِ : وهو أن يراد به كلمةٌ اللهِ ، لأنَّ اللفظ لا يكُونُ الذَّات " .

والنَّصْبُ : يجوزُ فيه أن يكون مصدراً مؤكَّداً لمضمُون الجملة ؛ كقولك : " هُوَ عَبْدُ الله الحقَّ ، لا الباطِلَ " أي : أقولُ قول الحقِّ ، فالحقُّ الصِّدقُ ، وهو من إضافةِ الموصوف إلى صفته ، أي : القول الحقَّ ؛ كقوله : { وَعْدَ الصدق } [ الأحقاف : 16 ] أي : الوعد الصِّدق ، ويجوز أن يكون منصوباً على المَدْحِ ، إن أريد بالحقِّ الباري تعالى ، و " الَّذِي " نعتٌ للقول ، إن أريد به عيسى ، وسُمِّي قولاً كما سُمّي كلمةً ، لأنه عنها نشأ .

وذلك أنَّ الحق هو اسمُ الله تعالى ، فلا فرق بين أن نقول : عيسى هو كلمة الله ، وبين أن نقول : عيسى قولُ الحقِّ .

وقيل : هو منصوبٌ بإضمار " أعْنِي " وقيل : هو منصوبٌ على الحالِ من " عيسَى " ويؤيِّد هذا ما نُقِلَ عن الكسائيَّ في توجيهِ الرفعِ : أنه صفةٌ لعيسى .

وقرأ الأعمشُ " قالُ " برفع اللاَّم ، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً ، وقرأ الحسن " قُولُ " بضم القاف ، ورفع اللام وكذلك في الأنعام { قَوْلُهُ الحق } [ الأنعام : 73 ] ، وهي مصادر لِ " قالَ " يقالُ يَقُولُ قَوْلاً وقُولاً ؛ كالرَّهْبِ ، والرّهَبِ والرُّهْب ، وقال أبو البقاء : " والقَالُ : اسمٌ للمصدر ؛ مثلُ : القِيلِ ، وحُكِيَ " قُولُ الحقِّ " بضمّ القاف ؛ مثل " الرُّوحِ " وهي لغةٌ فيه " . قال شهاب الدين : الظاهرُ أنَّ هذه مصادرُ كلُّها ، ليس بعضها اسماً للمصدر ، كما تقدَّم تقريره في الرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْبِ .

وقرأ طلحةُ والأعمشُ " قالَ الحقُّ " جعل " " قَالَ " فعلاً ماضياً ، و " الحَقُّ " فاعلٌ ، والمرادُ به الباري تعالى ، أي : قَالَ الهُ الحَقُّ : إنَّ عيسى هو كلمةُ الله ، ويكونُ قوله { الَّذِي فيهِ يَمْتُرُونَ } خبراً لمبتدأ محذوف .

وقرأ عليُّ{[21604]} بنُ أبي طالب- كرم الله وجهه- والسلميُّ ، وداودُ بنُ أبي هندٍ ، ونافعٌ ، والكسائيُّ في رواية عنهما [ " تَمْتَرُونَ " بتاء ] الخطاب ، والباقون بياءِ الغيبة ، وتَمْتَرُون : تَفْتَعِلُون : إمَّا من المريةِ ، وهي الشَّكُّ ، وإمَّا من المراء ، وهو الجدالُ .

وتقدَّم الكلامُ على نصب " فَيَكُونَ " .

فصل فيما تشير إليه " ذلك "

" ذَلِكَ " إشارةٌ إلى ما تقدَّم .

قال الزَّجَّّاج {[21605]}- رحمه الله- ، أي : ذلك الذي قال : { إِنِّي عَبْدُ الله } عيسى ابن مريم إشارةٌ إلى أنَّه ولدُ هذه المرأة ، لا أنَّه ابنُ الله [ كما زعمت النصارى ]{[21606]} .

وقوله : { الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ } ، أي : يختلفوُن ، وأما امتراؤهُم في عيسى ، فقائلٌ يقُولُ : هو ابنُ الله ، وقائلٌ يقولُ : هو الله ، وقائل يقُولُ : هو ساحرٌ كاذبٌ ، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آل عمران .

ورُوِيَ أن عيسى - صلوات الله عليه- لمَّا رفع ، حضر أربعةٌ من [ أكابر ]{[21607]} علمائهم ، فقيل للأوَّل : ما تُقولُ في عيسى ؟ قال : هو الله هبط إلى الأرض ، خلق ، وأحيى ، ثم صعد إلى السَّماء ، فتبعهُ على ذلك خلقٌ ، وهم اليَعْقُوبيَّةُ ، وقيل للثاني : ما تقوُلُ ؟ قال : هو ابنُ الله ، فتابعهُ على ذلك ناسٌ ، وهم النسطورية ، [ وقيل للثالث : ما تقول ؟ قال : هو إله ، والله إله ، فتابعه على ذلك أناس ، وهم الإسرائيلية ]{[21608]} ، وقيل للرابع : ما تقولُ ؟ فقال : عبدُ الله ورسولهُ ، وهو المؤمنُ المُسْلم ، وقال : أما تعلمُونَ أنَّ عيسى كان يطعمُ ، ونيام ، وأنَّ الله تعالى لا يجُوزُ ذلك عليه ، فخصمهم .


[21603]:ينظر في قراءتها: السبعة 409، والنشر 2/318، والحجة 443، والنيسير 149 والحجة للفراء السبعة 5/201، وإعراب القراءات 2/18، والإتحاف 2/236 والشواذ 84، والبحر 6/178، 179.
[21604]:ينظر: الإتحاف 2/236، والقرطبي 11/72، والبحر 6/179، والكشاف 2/16، والدر المصون 4/506.
[21605]:ينظر: معالم التنزيل 3/195.
[21606]:سقط من أ.
[21607]:سقط من أ.
[21608]:سقط من أ.