الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ} (34)

قوله تعالى : " ذلك عيسى ابن مريم " أي ذلك الذي ذكرناه عيسى بن مريم فكذلك اعتقدوه ، لا كما تقول اليهود إنه لغير رِشْدَة وأنه ابن يوسف النجار ، ولا كما قالت النصارى : إنه الإله أو ابن الإله . " قول الحق " قال الكسائي : " قول الحق " نعت لعيسى أي ذلك عيسى [ ابن مريم ]{[10837]} " قول الحق " وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله ، والحق هو الله عز وجل . وقال أبو حاتم : المعنى هو قول الحق . وقيل : التقدير هذا الكلام قول الحق . قال ابن عباس : ( يريد هذا كلام عيسى صلى الله عليه وسلم قول الحق ليس بباطل ، وأضيف القول إلى الحق كما قال : ( وعد الصدق الذي كانوا يوعدون{[10838]} ) [ الأحقاف : 16 ] أي الوعد والصدق . وقال : " وللدار الآخرة{[10839]} خير " [ الأنعام :32 ] أي ولا الدار الآخرة . وقرأ عاصم وعبدالله بن عامر " قول الحق " بالنصب على الحال ، أي أقول قولا حقا . والعامل معنى الإشارة في ( ذلك ) . الزجاج : هو مصدر أي أقول قول الحق لأن ما قبله يدل عليه . وقيل : مدح . وقيل : إغراء . وقرأ عبدالله " قال الحق " وقرأ الحسن " قول الحق " بضم القاف ، وكذلك في " الأنعام " {[10840]} " قول الحق " والقول والقال والقول بمعنى واحد ، كالرهَب والرهْب والرهب . " الذي " من نعت عيسى . " فيه يمترون " أي يشكون ، أي ذلك عيسى بن مريم الذي فيه يمترون القول الحق . وقيل : " يمترون " يختلفون . ذكر عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى ( ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) قال : اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر ، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع ، فقال أحدهم : هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية . فقالت الثلاثة : كذبت . ثم قال اثنان منهم للثالث : قل فيه ، قال : هو ابن الله وهم النسطورية ، فقال الاثنان : كذبت ، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه ، فقال : هو ثالث ثلاثة ، الله إله وهو إله ، وأمه إله ، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى . قال الرابع : كذبت بل هو عبدالله ورسول وروحه وكلمته وهم المسلمون ، فكان لكل رجل منهم أتباع - على ما قال - فاقتتلوا فظهر على المسلمين ، فذلك قول الله تعالى : ( ويقتلون الذين يأمرون بالقسط{[10841]} من الناس ) [ آل عمران :21 ] . وقال قتادة : وهم الذين قال الله تعالى فيهم : ( فاختلف الأحزاب من بينهم ) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فهذا معنى قول ( الذي فيه تمترون ) بالتاء المعجمة من فوق وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وغيره قال ابن عباس : فمر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه ، ذكره الماوردي .

قلت : ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت ، وجاء في الإنجيل الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا وأن الله تعالى أوحى إلى يوسف النجار في الحلم وقال له : قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك ، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه وامتثل أمر ربه وأخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر ، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البلسان التي بظاهر القاهرة{[10842]} وغسلت ثيابه على ذلك البئر ، فالبلسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض{[10843]} ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى ؛ ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم ، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا ، وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر وفي تلك السفرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الأشمونين{[10844]} وقسقام{[10845]} المعروفة الآن بالمحرقة{[10846]} فلذلك يعظمها النصارى إلى الآن ، ويحضروا إليها في عيد الفصح من كل مكان ؛ لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر ، ومنها عاد إلى الشام . والله أعلم .


[10837]:زيادة يقتضيها المقام.
[10838]:راجع جـ 16 ص 195 فما بعد.
[10839]:راجع جـ 10 ص 100 فما بعد.
[10840]:راجع جـ 7 ص 17 فما بعد.
[10841]:راجع جـ 4 ص 46.
[10842]:بضاحية المطرية.
[10843]:في ك: ذلك المكان.
[10844]:الأشمونين: إحدى قرى مركز ملوي.
[10845]:قسقام: هي القوصية الآن إحدى قرى مركز منفلوط.
[10846]:المحرقة: وتعرف اليوم بالدير المحرق بمركز منفلوط.