{ 37 - 40 } { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا }
أي : الذي أعطاهم هذه العطايا هو ربهم { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الذي خلقها ودبرها { الرَّحْمَنِ } الذي رحمته وسعت كل شيء ، فرباهم ورحمهم ، ولطف بهم ، حتى أدركوا ما أدركوا .
ثم ذكر عظمته وملكه العظيم يوم القيامة ، وأن جميع الخلق كلهم ذلك اليوم ساكتون لا يتكلمون و { لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ،
وقوله : { رَّبِّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن . . . } قرأه بعضهم بجر لفظ " رب " على أنه بدل " من ربك " وقرأه البعض الآخر بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف .
أى : هذا الجزاء العظيم للمتقين هو كائن من ربك ، الذى هو رب أهل السموات وأهل الأرض ، ورب ما بينهما من مخلوقات لا يعلمها إلا هو ، وهو - سبحانه - صاحب الرحمة الواسعة العظيمة التى لا تقاربها رحمة . .
وقوله : { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } مقرر ومؤكد لما قبله ، من كونه - تعالى - هو رب كل شئ . أى : أهل السموات والأرض وما بينهما ، خاضعون ومربوبون لله - تعالى - الواحد القهار ، الذى لا يقدر أحد منهم - كائنا من كان - أن يخاطبه إلا بإذنه ، ولا يملك أن يفعل ذلك إلا بمشيئته .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وقوله - سبحانه - : { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }
وقوله : رَبّ السّمَواتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما الرّحْمَنِ يقول جلّ ثناؤه : جزاء من ربك ربّ السموات السبع والأرض وما بينهما من الخلق .
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة : «رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما الرّحْمَنُ » بالرفع في كليهما . وقرأ ذلك بعضُ أهل البصرة وبعضُ الكوفيين : رَبّ خفضا «والرّحْمَنُ » رفعا ولكلّ ذلك عندنا وجه صحيح ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب ، غير أن الخفض في الربّ ، لقربه من قوله جَزَاءً مِنْ رَبّكَ : أعجب إليّ ، وأما الرّحْمَنُ بالرفع ، فإنه أحسن ، لبعده من ذلك .
وقوله : الرّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطابا يقول تعالى ذكره : الرحمن لا يقدر أحد من خلقه خطابه يوم القيامة ، إلا من أذن له منهم ، وقال صوابا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خطابا قال : كلاما .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لا يَمْلِكُونَ مِنْه خِطابا : أي كلاما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطابا قال : لا يملكون أن يخاطبوا الله ، والمخاطِب : المخاصم الذي يخاصم صاحبه .
وقرأ نافع وأبو عمرو والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأهل الحرمين : «ربُّ » بالرفع ، وكذلك «الرحمنُ » ، وقرأ ابن عامر وعاصم وابن مسعود وابن أبي إسحاق وابن محيصن والأعمش «رب » وكذلك «الرحمن » وقرأ حمزة والكسائي «ربِّ » : بالخفض و «الرحمنُ » بالرفع وهي قراءة الحسين وابن وثاب وابن محيصن بخلاف عنه ووجوه هذه القراءات بينة ، وقوله تعالى : { لا يملكون } الضمير للكفار أي { لا يملكون } من أفضاله وأجماله أن يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها ، وهذا في مواطن خاص .
{ رَّبِّ السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن } .
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر برفع { ربُّ } ورفع { الرحمنُ } ، وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بخفضهما ، وقرأه حمزة والكسائي وخلف بخفض { رب } ورفع { الرحمنُ } ، فأما قراءة رفع الاسمين ف { رب } خبر مبتدأ محذوف هو ضميرٌ يعود على قوله : { من ربك } [ النبأ : 36 ] على طريقة حذف المسند إليه حَذفاً سماه السكاكي حذْفاً لاتباع الاستعمال الوارد على تركه ، أي في المقام الذي يجري استعمال البلغاء فيه على حذف المسند إليه ، وذلك إذا جرى في الكلام وصف ونحوه لموصوف ثم ورد ما يصلح أن يكون خبراً عنه أو أن يكون نعتاً له فيختار المتكلم أن يجعله خبراً لا نعتاً ، فيقدر ضمير المنعوت ويأتي بخبر عنه وهو ما يسمى بالنعت المقطوع .
والمعنى : إن ربك هو ربهم لأنه رب السماوات والأرض وما بينهما ولكن المشركين عبدوا غيره جهلاً وكفراً لنعمته . و { الرحمنُ } خبر ثان .
وأما قراءة جر الاسمين فهي جارية على أن { رب السموات } نعت ل { ربك } من قوله : { جزاء من ربك } [ النبأ : 36 ] و { الرحمن } نعت ثان .
والرب : المالك المتصرف بالتدبير ورعي الرفق والرحمة ، والمراد بالسماوات والأرض وما بينهما مسماها مع ما فيها من الموجودات لأن اسم المكان قد يراد به ساكنه كما في قوله تعالى : { فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها } في سورة الحج ( 45 ) ، فإن الظلم من صفات سكان القرية لا صفة لذاتها ، والخواء على عروشها من أحوال ذات القرية لا من أحوال سكانها ، فكان إطلاق القرية مراداً به كلا المعنيين .
والمراد بما بين السماوات والأرض : ما على الأرض من كائنات وما في السماوات من الملائكة وما لا يعلمه بالتفصيل إلا الله وما في الجو من المكونات حية وغيرها من أسحبة وأمطار وموجودات سابحة في الهواء .
و { ما } موصولة وهي من صيغ العموم ، وقد استفيد من ذلك تعميم ربوبيته على جميع المصنوعات .
وأتبع وصف { رب السموات } بذكر اسم من أسمائه الحسنى ، وهو اسم { الرحمن } وخص بالذكر دون غيره من الأسماء الحسنى لأن في معناه إيماء إلى أن ما يفيضه من خير على المتقين في الجنة هو عطاء رحمان بهم .
وفي ذكر هذه الصفة الجليلة تعريض بالمشركين إذ أنكروا اسم الرحمن الوارد في القرآن كما حكى الله عنهم بقوله : { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] .
{ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خطابا } .
يجوز أن تكون هذه الجملة حالاً من { ما بينهما } لأن ما بين السماوات والأرض يشمل ما في ذلك من المخلوقات العاقلة ، أو المزعوم لها العقل مثل الأصنام ، فيتوهم أن مِن تلك المخلوقات من يستطيع خطاب الله ومراجعته .
ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً لإبطال مزاعم المشركين أو للاحتراس لدفع توهم أن ما تشعر به صلة رب من الرفق بالمربوبين في تدبير شؤونهم يسيغ إقدامهم على خطاب الرب .
والمِلك في قوله : { لا يملكون منه خطاباً } معناه القدرة والاستطاعة لأن المالك يتصرف فيما يملكه حسب رغبته لا رغبة غيره فلا يحتاج إلى إذن غيره .
وقوله : { منه } حال من { خطاباً } . وأصله صفة لخطاب فلما تقدم على موصوفه صار حالاً .
وحرف ( مِن ) اتصالية وهي ضرب من الابتدائية فهي ابتدائية مجازية كقوله تعالى : { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من اللَّه من شيء } [ الممتحنة : 4 ] ف ( مِن ) الأولى اتصالية والثانية لتوكيد النص ، ومنه قولهم : لستُ منك ولستَ مني وقوله تعالى : { ومن يفعل ذلك فليس من اللَّه في شيء } [ آل عمران : 28 ] ، أي لا يستطيعون خطاباً يبلغونه إلى الله .
وضمير { لا يملكون } عائد إلى ( ما ) الموصولة في قوله : { وما بينهما } لأنها صادقة على جميعهم .
والخطاب : الكلام الموجّه لحاضر لدى المتكلم أو كالحاضر المتضمن إخباراً أو طلباً أو إنشاء مدح أو ذم .
وفعل { يملكون } يعمّ لوقوعه في سياق النفي كما تعمّ النكرة المنفية . و { خطاباً } عام أيضاً وكلاهما من العام المخصوص بمخصص منفصل كقوله عقب هذه الآية { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } [ النبأ : 38 ] وقوله : { يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه } [ هود : 105 ] وقوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة : 255 ] وقوله : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] .
والغرض من ذكر هذا إبطالُ اعتذار المشركين حين استشعروا شناعة عبادتهم الأصنام التي شهَّر القرآن بها فقالوا : { هؤلاء شُفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] ، وقالوا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"رَبّ السّمَواتِ والأرْضِ وَما بَيْنَهُما الرّحْمَنِ "يقول جلّ ثناؤه: جزاء من ربك ربّ السموات السبع والأرض وما بينهما من الخلق...
وقوله: "الرّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطابا" يقول تعالى ذكره: الرحمن لا يقدر أحد من خلقه خطابه يوم القيامة، إلا من أذن له منهم، وقال صوابا... عن مجاهد، قوله: "لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خطابا" قال: كلاما.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فالرب: المالك، فذكر أنه مالك السماوات والأرض وما بينهما ليعلموا أنه لم يمتحن أحدا بعبادته لحاجة تقع له أو لمنفعة تصل إليه، بل هو الغني، وله ما في السماوات وما في الأرض، وان ما امتحنوا به من العبادات راجعة إلى أنفسهم إذا وفوا بها كان النفع راجعا إليهم، وإذا لم يقوموا بأدائها كان الضرر راجعا إليهم. وقوله تعالى: {الرحمن} بين أنه رحمن ليرغبوا في رحمته، ويتسارعوا إلى طلب مغفرته. وقوله تعالى: {لا يملكون منه خطابا} هيبة من الله تعالى وتعظيما لحقه، فلا يملكون من هيبته {خطابا} بالشفاعة أو بالخصومة أو بأي شيء كان...
الضمير في قوله: {لا يملكون} إلى من يرجع؟
(الأول): نقل عطاء عن ابن عباس إنه راجع إلى المشركين يريد لا يخاطب المشركون أما المؤمنون فيشفعون يقبل الله ذلك منهم.
(والثاني): قال القاضي: إنه راجع إلى المؤمنين، والمعنى أن المؤمنين لا يملكون أن يخاطبوا الله في أمر من الأمور، لأنه لما ثبت أنه عدل لا يجور، ثبت أن العقاب الذي أوصله إلى الكفار عدل، وأن الثواب الذي أوصله المؤمنين عدل، وأنه ما يخسر حقهم، فبأي سبب يخاطبونه، وهذا القول أقرب من الأول لأن الذي جرى قبل هذه الآية ذكر المؤمنين لا ذكر الكفار.
(والثالث): أنه ضمير لأهل السموات والأرض، وهذا هو الصواب، فإن أحدا من المخلوقين لا يملك مخاطبة الله ومكالمته. وأما الشفاعات الواقعة بإذنه فغير واردة على هذا الكلام لأنه نفى الملك والذي يحصل بفضله وإحسانه، فهو غير مملوك، فثبت أن هذا السؤال غير لازم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والرب: المالك المتصرف بالتدبير ورعي الرفق والرحمة، والمراد بالسماوات والأرض وما بينهما مسماها مع ما فيها من الموجودات لأن اسم المكان قد يراد به ساكنه كما في قوله تعالى: {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها} في سورة الحج (45)، فإن الظلم من صفات سكان القرية لا صفة لذاتها، والخواء على عروشها من أحوال ذات القرية لا من أحوال سكانها، فكان إطلاق القرية مراداً به كلا المعنيين. والمراد بما بين السماوات والأرض: ما على الأرض من كائنات وما في السماوات من الملائكة وما لا يعلمه بالتفصيل إلا الله وما في الجو من المكونات حية وغيرها من أسحبة وأمطار وموجودات سابحة في الهواء. و {ما} موصولة وهي من صيغ العموم، وقد استفيد من ذلك تعميم ربوبيته على جميع المصنوعات. وأتبع وصف {رب السموات} بذكر اسم من أسمائه الحسنى، وهو اسم {الرحمن} وخص بالذكر دون غيره من الأسماء الحسنى لأن في معناه إيماء إلى أن ما يفيضه من خير على المتقين في الجنة هو عطاء رحمان بهم. وفي ذكر هذه الصفة الجليلة تعريض بالمشركين إذ أنكروا اسم الرحمن الوارد في القرآن كما حكى الله عنهم بقوله: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن} [الفرقان: 60] ....
والخطاب: الكلام الموجّه لحاضر لدى المتكلم أو كالحاضر المتضمن إخباراً أو طلباً أو إنشاء مدح أو ذم. وفعل {يملكون} يعمّ لوقوعه في سياق النفي كما تعمّ النكرة المنفية. و {خطاباً} عام أيضاً وكلاهما من العام المخصوص بمخصص منفصل كقوله عقب هذه الآية {لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً} [النبأ: 38] وقوله: {يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه} [هود: 105] وقوله: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255] وقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28]. والغرض من ذكر هذا إبطالُ اعتذار المشركين حين استشعروا شناعة عبادتهم الأصنام التي شهَّر القرآن بها فقالوا: {هؤلاء شُفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]، وقالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]...
لأن الحق سبحانه وتعالى حينما خلق الدنيا جعل فيها أسباباً هو الذي خلقها أيضاً، ولكن الإنسان قد يغفل بالسبب عن المسبب؛ لأنه لا يرى أمامه دائماً إلا هذه الأسباب.
ولكن هذه الأسباب ممنوعة في الآخرة، فيكون الإنعام كله من المسبب سبحانه وتعالى مباشرة، فأصبحت المسألة بغير وسائط بين الحق سبحانه وتعالى وبين العباد من أسباب، بل أصبحت في القدرة المباشرة.. أصبحت في (كن)، وما دامت المسألة هكذا فلا يملك أحد خطاباً.