{ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا } لأنه قد أزف مقبلا ، وكل ما هو آت فهو قريب .
{ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي : هذا الذي يهمه ويفزع إليه ، فلينظر في هذه الدنيا إليه{[1347]} ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } الآيات .
فإن وجد خيرا فليحمد الله ، وإن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، ولهذا كان الكفار يتمنون الموت من شدة الحسرة والندم .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا الإِنذار البليغ فقال : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً } .
والإنذار : الإِخبار بحصول شئ تسوء عاقبته ، فى وقت يستطيع المنذر فيه أن يجنب نفسه الوقوع فى ذلك الشئ . أى : إنا أخبرناكم - أيها الناس - بأن هناك عذابا قريبا ، سيحل بمن يستحقه عما قريب .
وذلك العذاب سيكون أشد هولا ، وأبقى أثرا ، يوم القيامة ، { يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أى : يوم يرى كل إنسان عمله حاضرا أمامه ، ومسجلا عليه . .
{ وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً } أى : ويقول الإِنسان الكافر فى هذا اليوم على سبيل الحسرة والندامة ، يا ليتنى كنت فى الدنيا ترابا ، ولم أخلق بشرا ، ولم أكلف بشئ من التكاليف ، ولم أبعث ولم أحاسب .
فالمقصود بالآية قطع أعذار المعتذرين بأبلغ وجه ، من قبل أن يأتى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
وقوله : إنّا أنْذَرْناكُمْ عَذَابا قَرِيبا يقول : إنا حذْرناكم أيها الناس عذابا قد دنا منكم وقرُب ، وذلك يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ المؤمن ما قَدّمَتْ يَدَاهُ من خير اكتسبه في الدنيا ، أو شرك سَلَفَ ، فيرجو ثواب الله على صالح أعماله ، ويخاف عقابه على سيئها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن مبارك ، عن الحسن يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ ما قَدّمَتْ يَدَاهُ قال : المرء المؤمن يحذَر الصغيرة ، ويخاف الكبيرة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن محمد بن جَحّادة ، عن الحسن يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ ما قَدّمَتْ يَدَاهُ قال : المرء المؤمن .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن جحادة ، عن الحسن ، في قوله : يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ ما قَدّمَتْ يَدَاهُ قال : المرء المؤمن .
وقوله : وَيَقُولُ الكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا يقول تعالى ذكره : ويقول الكافر يومئذٍ تمنيا لما يلقى من عذاب الله الذي أعدّه لأصحابه الكافرين به : يا ليتني كنت ترابا ، كالبهائم التي جُعِلت تُرابا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عديّ ، قالا : حدثنا عوف ، عن أبي المغيرة ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : إذا كان يوم القيامة ، مدّ الأديم ، وحشر الدوابّ والبهائم والوحش ، ثم يحصل القصاص بين الدوابّ ، يقتصّ للشاة الجَمّاء من الشاة القَرْناء نَطْحَتها ، فإذا فُرِغ من القِصاص بين الدوابّ ، قال لها : كوني ترابا ، قال : فعند ذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر قال : وحدثني جعفر بن بُرْقان ، عن يزيد بن الأصمّ ، عن أبي هريرة ، قال : إن الله يحشرُ الخلق كلهم ، كل دابة وطائر وإنسان ، يقول للبهائم والطير كونوا ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا المحاربيّ عبدُ الرحمن بن محمد ، عن إسماعيل بن رافع المدَنيّ ، عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يَقْضِي اللّهُ بَينَ خَلْقِهِ الجِنّ والإنْسِ والبَهائِمِ ، وإنّهُ لَيَقِيدُ يَوْمَئِذٍ الجَمّاءِ مِنَ القَرْناءِ ، حتى إذَا لَمْ يَبْقَ تَبِعَةٌ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لأُخْرَى ، قالَ اللّهُ : كُونُوا تُرَابا ، فَعِنْدَ ذلكَ يَقُولُ الكافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ ما قَدّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا وهو الهالك المُفْرِط العاجز ، وما يمنعه أن يقول ذلك وقد راج عليه عَوْراتُ عمله ، وقد استقبل الرحمن وهو عليه غضبان ، فتمنى الموت يومئذٍ ، ولم يكن في الدنيا شيء أكره عنده من الموت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن أبي الزّناد عبد الله بن ذَكْوان ، قال : إذا قُضِي بين الناس ، وأمر بأهل النار إلى النار قيل لمؤمني الجنّ ولسائر الأمم سوى ولد آدم : عُودُوا ترابا ، فإذا نظر الكفار إليهم قد عادوا ترابا ، قال الكافر : يا ليتني كنت ترابا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، في قوله : وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا : قال : إذا قيل للبهائم : كونوا ترابا ، قال الكافر : يا ليتني كنت ترابا .
والضمير الذي هو الكاف والميم في { أنذركم } هو لجميع العالم وإن كانت المخاطبة لمن حضر النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار ، و «العذاب القريب » : عذاب الآخرة ، ووصفه بالقرب لتحقق وقوعه وأنه آت وكل آت قريب الجمع داخل في النذارة منه ، ونظر المرء إلى { ما قدمت يداه } من عمل قيام الحجة عليه ، وقال ابن عباس { المرء } هنا المؤمن ، وقرأ ابن ابي إسحق : «المُرء » بضم الميم وضعفها أبو حاتم ، وقوله تعالى : { ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } قيل إن هذا تمنٍّ أن يكون شيئاً حقيراً لا يحاسب ولا يلتفت إليه ، وهذا قد نجده في الخائفين من المؤمنين فقد قال عمر بن الخطاب : ليتني كنت بعرة ، وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر : إن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول لها من بعد ذلك : كوني تراباً ، فيعود جميعها تراباً ، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله ، قال أبو القاسم بن حبيب : رأيت في بعض التفاسير أن { الكافر } هنا إبليس إذا رأى ما حصل للمؤمنين من بني آدم من الثواب قال : { يا ليتني كنت تراباً } ، أي كآدم الذي خلق من تراب واحتقره هو أولاً .
{ إِنَّآ أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً } .
اعتراض بين { مئاباً } [ النبأ : 39 ] وبين { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } كيفما كان موقع ذلك الظرف حسبما يأتي .
والمقصود من هذه الجملة الإِعذار للمخاطبين بقوارع هذه السورة بحيث لم يبق بينهم وبين العلم بأسباب النجاة وضدها شُبهةٌ ولا خفاء .
فالخبر وهو { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } مستعمل في قطع العذر وليس مستعملاً في إفادة الحكم لأن كون ما سبق إنذاراً أمر معلوم للمخاطبين . وافتُتح الخبر بحرف التأكيد للمبالغة في الإِعذار بتنزيلهم منزلة من يتردد في ذلك .
وجُعل المسند فعلاً مسنداً إلى الضمير المنفصل لإفادة تقوّي الحكم ، مع تمثيل المتكلم في مَثَل المتبرىء من تبعه ما عسى أن يلحق المخاطبين من ضرَ إن لم يأخذوا حذرهم مما أنذرهم به كما يقول النذير عند العرب بعد الإِنذار بالعدوّ « أنا النذير العريان » .
والإِنذار : الإِخبار بحصول ما يسوء في مستقبل قريب .
وعُبر عنه بالمضي لأن أعظم الإِنذار قد حصل بما تقدم من قوله : { إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين مئاباً } إلى قوله : { فلن نزيدكم إلا عذاباً } [ النبأ : 21 30 ] .
وقرب العذاب مستعمل مجازاً في تحققه وإلا فإنه بحسب العرف بعيد ، قال تعالى : { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } [ المعارج : 6 ، 7 ] ، أي لتحققه فهو كالقريب على أن العذاب يصدق بعذاب الآخرة وهو ما تقدم الإِنذار به ، ويصدق بعذاب الدنيا من القتل والأسر في غزوات المسلمين لأهل الشرك . وعن مقاتل : هو قَتْل قريش ببدر . ويشمل عذاب يوم الفتح ويوم حنين كما ورد لفظ العذاب لذلك في قوله تعالى : { يعذبهم اللَّه بأيديكم } [ التوبة : 14 ] وقوله : { وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك } [ الطور : 47 ] .
{ يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا } .
يجوز أن يتعلق بفعلِ : { اتخذ إلى ربه مئاباً } [ النبأ : 39 ] فيكون { يوم ينظر } ظرفاً لغْواً متعلقاً ب { أنذرناكم } .
ويجوز أن يكون بدلاً من { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } [ النبأ : 38 ] لأن قيام الملائكة صفّاً حضور لمحاسبة الناس وتنفيذ فصل القضاء عليهم وذلك حين ينظر المرء ما قدمت يداه ، أي ما عمله سالفاً فهو بدل من الظرف تابع له في موقعه .
وعلى كلا الوجهين فجملة { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } معترضة بين الظرف ومتعلقه أو بينه وبين ما أبدل منه .
والمرء : اسم للرجل إذ هو اسم مؤنثُه امرأة .
والاقتصار على المرء جَريٌ على غالب استعمال العرب في كلامهم ، فالكلام خرج مخرج الغالب في التخاطب لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شؤون ما كان خارجَ البيت .
والمراد : ينظر الإِنسان من ذكر أو أنثى ، ما قدمت يداه ، وهذا يعلم من استقراء الشريعة الدال على عموم التكاليف للرجال والنساء إلا ما خُص منها بأحد الصنفين لأن الرجل هو المستحضَر في أذهان المتخاطبين عند التخاطب .
وتعريف { المرء } للاستغراق مثل { إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ العصر : 2 3 ] .
وفعل { ينظر } يجوز أن يكون من نظر العين أي البصر ، والمعنى : يوم يرى المرء ما قدمته يداه . ومعنى نظر المرء ما قدمت يداه : حصول جزاء عمله له ، فعبر عنه بالنظر لأن الجزاء لا يخلو من أن يكون مرئياً لِصاحِبِه من خير أو شر ، فإطلاق النظر هنا على الوجدان على وجه المجاز المرسل بعلاقة الإِطلاق ونظيره قوله تعالى : { ليروا أعمالهم } [ الزلزلة : 6 ] ، وقد جاءت الحقيقة في قوله تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً } [ آل عمران : 30 ] الآية ، و ( ما ) موصولة صلتها جملة { قدمت يداه } .
ويجوز أن يكون مِن نظر الفكر ، وأصله مجاز شاع حتى لحق بالمعاني الحقيقية كما يقال : هو بخير النظرين . ومنه التَنظُّر : توقُع الشيء ، أي يوم يترقب ويتأمل ما قدمت يداه ، وتكون ( ما ) على هذا الوجه استفهامية وفعل { ينظر } معلقاً عن العمل بسبب الاستفهام ، والمعنى : ينظر المرء جوابَ من يسأل : ما قدمت يداه ؟
ويجوز أن يكون من الانتظار كقوله تعالى : { هل ينظرون إلاَّ تأويله } [ الأعراف : 53 ] .
وتعريف { المرء } تعريف الجنس المفيد للاستغراق .
والتقديم : تسبيق الشيء والابتداء به .
و { ما قدمت يداه } هو ما أسلفه من الأعمال في الدنيا من خير أو شر فلا يختص بما عمله من السيئات فقد قال تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء } [ آل عمران : 30 ] الآية .
وقوله : { ما قدمت يداه } إما مجاز مرسل بإطلاق اليدين على جميع آلات الأعمال وإما أن يَكون بطريقة التمثيل بتشبيه هيئة العامل لأعماله المختلفة بهيئة الصانع للمصنوعات بيديه كما قالوا في المثل : « يَداك أوْكَتا » ولو كان ذلك على قول بلسانه أو مشي برجليه .
ولا يحسن أن يجعل ذكر اليدين من التغليب لأن خصوصية التغليب دون خصوصية التمثيل .
وشمل { ما قدمت يداه } الخير والشر .
وخُص بالذكر من عموم المرء الإِنسانُ الكافر الذي يقول : { يا ليتني كنت تراباً } لأن السورة أقيمت على إنذار منكري البعث فكان ذلك وجه تخصيصه بالذكر ، أي يوم يتمنى الكافر أنه لم يخلق من الأحياء فضلاً عن أصحاب العقول المكلفين بالشرائع ، أي يتمنى أن يكون غير مدرك ولا حسّاس بأن يكون أقل شيء مما لا إدراك له وهو التراب ، وذلك تلهف وتندم على ما قدمت يداه من الكفر .
وقد كانوا يقولون : { أئذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون } [ الإسراء : 98 ] فجعل الله عقابهم بالتحسر وتمني أن يكونوا من جنس التراب .
وذكر وصف الكافر يفهم منه أن المؤمن ليس كذلك لأن المؤمن وإن عمل بعض السيئات وتوقع العقاب على سيئاته فهو يرجو أن تكون عاقبته إلى النعيم وقد قال الله تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً } [ آل عمران : 30 ] وقال : { ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [ الزلزلة : 6 8 ] ، فالمؤمنون يرون ثواب الإيمان وهو أعظم ثواب ، وثواب حسناتهم على تفاوتهم فيها ويرجون المصير إلى ذلك الثواب وما يرونه من سيئاتهم لا يطغى على ثواب حسناتهم ، فهم كلهم يرجون المصير إلى النعيم ، وقد ضرب الله لهم أو لمن يقاربهم مثلاً بقوله : { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون } [ الأعراف : 46 ] على ما في تفسيرها من وجوه .
وهذه الآية جامعة لما جاء في السورة من أحوال الفريقين وفي آخرها رد العجز على الصدر من ذكر أحوال الكافرين الذين عُرِّفوا بالطاغين وبذلك كان ختام السورة بها براعة مقطع .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا) يقول: إنا حذّرناكم أيها الناس عذابًا قد دنا منكم وقرُب، وذلك (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ) المؤمن (مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) من خير اكتسبه في الدنيا، أو شرّ سَلَفَهُ، فيرجو ثواب الله على صالح أعماله، ويخاف عقابه على سيئها... وقوله: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) يقول تعالى ذكره: ويقول الكافر يومئذ تمنيا لما يلقى من عذاب الله الذي أعدّه لأصحابه الكافرين به، يا ليتني كنت ترابًا كالبهائم التي جُعِلت ترابًا... حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرظيِّ، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَقْضِي اللهُ بَينَ خَلْقِهِ الجِنِّ والإنْسِ والبَهائم، وإنَّه لَيَقِيدُ يَوْمَئِذٍ الجَمَّاءَ مِنَ القَرْناءِ، حتى إذَا لَمْ يَبْقَ تَبِعَةٌ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لأخْرَى، قالَ اللهُ: كُونُوا تُرَابًا، فَعِنْدَ ذلكَ يَقُولُ الكافِرُ: "يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنا أنذرناكم عذابا قريبا} أي العذاب الذي أوعدتم به قريب مأتاه، وإن استبعدتموه في أوهامكم. قال الله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1].
وقوله تعالى: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} فجائز أن يكون منصرفا إلى الخلائق أجمع مؤمنهم وكافرهم. ثم تخصيص الأيدي بالذكر هو أن التقديم في الشاهد يقع بالأيدي، فأضيف إليها؛ وإن احتمل ألا يكون للأيدي صنع في ما ارتكب من الآثام أو في ما فعل من الخيرات، وهو كالمطر، يسمى رحمة الله، وإن لم يكن ذلك من أوصافه لأنه برحمة منه ينزل من السماء وسمى الكلام لسانا، وإن لم يكن هو لسانا لأنه باللسان ما يتكلم، فكذلك التقديم أضيف إلى الأيدي لما بها يقع التقديم في الشاهد، وإن لم يكن للأيدي صنع.
وقوله تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} إن هذا التمني في الكافر دون المؤمن لأن المؤمن يرى حسناته متقبّلة وسيئاته مغفورة، فيأمن من عقاب الله تعالى، والكافر يرى نفسه مؤاخذة بالسيئات، ولا يرى لها حسنات متقبلة، فيتمنى أن يكون ترابا ليتخلص من عذاب الله تعالى. قال بعضهم: إن الوحوش تحشر، والطيور كلها، ثم يقول الله تعالى: كونوا ترابا، فيتمنى الكافر في ذلك الوقت أن يكون ترابا، والله أعلم بالصواب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو الإنذار الذي يوقظ من الخمار: (إنا أنذرناكم عذابا قريبا).. ليس بالبعيد، فجهنم تنتظركم وتترصد لكم. على النحو الذي رأيتم. والدنيا كلها رحلة قصيرة، وعمر قريب!
وهو عذاب من الهول بحيث يدع الكافر يؤثر العدم على الوجود: (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه. ويقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا).. وما يقولها إلا وهو ضائق مكروب!
وهو تعبير يلقي ظلال الرهبة والندم، حتى ليتمنى الكائن الإنساني أن ينعدم. ويصير إلى عنصر مهمل زهيد. ويرى هذا أهون من مواجهة الموقف الرعيب الشديد.. وهو الموقف الذي يقابل تساؤل المتسائلين وشك المتشككين. في ذلك النبأ العظيم!!!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إِنَّآ أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً}. اعتراض بين {مئاباً} [النبأ: 39] وبين {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} كيفما كان موقع ذلك الظرف حسبما يأتي. والمقصود من هذه الجملة الإِعذار للمخاطبين بقوارع هذه السورة بحيث لم يبق بينهم وبين العلم بأسباب النجاة وضدها شُبهةٌ ولا خفاء. فالخبر وهو {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} مستعمل في قطع العذر وليس مستعملاً في إفادة الحكم لأن كون ما سبق إنذاراً أمر معلوم للمخاطبين. وافتُتح الخبر بحرف التأكيد للمبالغة في الإِعذار بتنزيلهم منزلة من يتردد في ذلك. وجُعل المسند فعلاً مسنداً إلى الضمير المنفصل لإفادة تقوّي الحكم، مع تمثيل المتكلم في مَثَل المتبرئ من تبعة ما عسى أن يلحق المخاطبين من ضرَ إن لم يأخذوا حذرهم مما أنذرهم به كما يقول النذير عند العرب بعد الإِنذار بالعدوّ « أنا النذير العريان». والإِنذار: الإِخبار بحصول ما يسوء في مستقبل قريب. وعُبر عنه بالمضي لأن أعظم الإِنذار قد حصل بما تقدم من قوله: {إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين مئاباً} إلى قوله: {فلن نزيدكم إلا عذاباً} [النبأ: 21 -30]. وقرب العذاب مستعمل مجازاً في تحققه وإلا فإنه بحسب العرف بعيد، قال تعالى: {إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً} [المعارج: 6، 7]، أي لتحققه فهو كالقريب على أن العذاب يصدق بعذاب الآخرة وهو ما تقدم الإِنذار به، ويصدق بعذاب الدنيا من القتل والأسر في غزوات المسلمين لأهل الشرك...
والمرء: اسم للرجل إذ هو اسم مؤنثُه امرأة. والاقتصار على المرء جَريٌ على غالب استعمال العرب في كلامهم، فالكلام خرج مخرج الغالب في التخاطب لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شؤون ما كان خارجَ البيت.
والمراد: ينظر الإِنسان من ذكر أو أنثى، ما قدمت يداه، وهذا يعلم من استقراء الشريعة الدال على عموم التكاليف للرجال والنساء إلا ما خُص منها بأحد الصنفين لأن الرجل هو المستحضَر في أذهان المتخاطبين عند التخاطب. وتعريف {المرء} للاستغراق مثل {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [العصر: 2 3]. وفعل {ينظر} يجوز أن يكون من نظر العين أي البصر،
والمعنى: يوم يرى المرء ما قدمته يداه. ومعنى نظر المرء ما قدمت يداه: حصول جزاء عمله له، فعبر عنه بالنظر لأن الجزاء لا يخلو من أن يكون مرئياً لِصاحِبِه من خير أو شر، فإطلاق النظر هنا على الوجدان على وجه المجاز المرسل بعلاقة الإِطلاق ونظيره قوله تعالى: {ليروا أعمالهم} [الزلزلة: 6]، وقد جاءت الحقيقة في قوله تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً} [آل عمران: 30] الآية، و (ما) موصولة صلتها جملة {قدمت يداه}. ويجوز أن يكون مِن نظر الفكر، وأصله مجاز شاع حتى لحق بالمعاني الحقيقية كما يقال: هو بخير النظرين. ومنه التَنظُّر: توقُع الشيء، أي يوم يترقب ويتأمل ما قدمت يداه، وتكون (ما) على هذا الوجه استفهامية وفعل {ينظر} معلقاً عن العمل بسبب الاستفهام، والمعنى: ينظر المرء جوابَ من يسأل: ما قدمت يداه؟ ويجوز أن يكون من الانتظار كقوله تعالى: {هل ينظرون إلاَّ تأويله} [الأعراف: 53]. وتعريف {المرء} تعريف الجنس المفيد للاستغراق...
وشمل {ما قدمت يداه} الخير والشر. وخُص بالذكر من عموم المرء الإِنسانُ الكافر الذي يقول: {يا ليتني كنت تراباً} لأن السورة أقيمت على إنذار منكري البعث فكان ذلك وجه تخصيصه بالذكر، أي يوم يتمنى الكافر أنه لم يخلق من الأحياء فضلاً عن أصحاب العقول المكلفين بالشرائع، أي يتمنى أن يكون غير مدرك ولا حسّاس بأن يكون أقل شيء مما لا إدراك له وهو التراب، وذلك تلهف وتندم على ما قدمت يداه من الكفر...