{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ } وهو الكتاب المزبور ، والمراد : الكتب المنزلة ، كالتوراة ونحوها { مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } أي : كتبناه في الكتب المنزلة ، بعد ما كتبنا في الكتاب السابق ، الذي هو اللوح المحفوظ ، وأم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه والمكتوب في ذلك : { أَنَّ الْأَرْضَ } أي : أرض الجنة { يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } الذين قاموا بالمأمورات ، واجتنبوا المنهيات ، فهم الذين يورثهم الله الجنات ، كقول أهل الجنة : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ }
ويحتمل أن المراد : الاستخلاف في الأرض ، وأن الصالحين يمكن الله لهم في الأرض ، ويوليهم عليها كقوله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } الآية .
ثم ساق - سبحانه - سنة من سننه التى لا تتخلف فقال : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } .
والمراد بالزبور : الكتاب المزبور أى : المكتوب ، مأخوذ من قولهم : زبرت الكتاب إذا كتبته .
ويشمل هنا جميع الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور .
والمراد بالذكر : اللوح المحفوظ الذى هو أم الكتاب .
وقيل : المراد بالزبور : كتاب داود خاصة . وبالذكر التوارة ، أو العلم ، والمقصود بالأرض هنا : أرض الجنة .
فيكون المعنى : ولقد كتبنا فى الكتب السماوية ، من بعد كتابتنا فى اللوح المحفوظ : أن أرض الجنة نورثها يوم القيامة لعبادنا الصالحين .
وهذا القول يؤيده قوله - تعالى - فى شأن المؤمنين : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } ومن المفسرين من يرى أن المراد بالأرض هنا : أرض الدنيا فيكون المعنى :
ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن هذه الأرض التى يعيش عليها الناس مؤمنهم وكافرهم ، ستكون فى النهاية لعبادنا الصالحين .
قال الآلوسى ما ملخصه : أخرج ابن جرير عن ابن عباس أن المراد بالأرض فى الآية : أرض الجنة ، وإنها الأرض التى يختص بها الصالحون . لأنها لهم خلقت ، وغيرهم إذا حصلوا فيها فعلى وجه التبع ، وأن الآية ذكرت عقب ذكر الإعادة وليس بعدها أرض يستقر عليها الصالحون . ويمتن الله بها عليهم سوى أرض الجنة .
وفى رواية أخرى عن ابن عباس أن المراد بها أرض الدنيا يرثها المؤمنون ، ويستولون عليها .
أخرج مسلم وأبو داود والترمذى عن ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أن الله - تعالى - زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لى منها . . . " .
ويبدو لنا أنه لا مانع من أن يكون المراد بالأرض التى يرثها العباد الصالحون ، ما يشمل أرض الجنة وأرض الدنيا ، لأنه لم يرد نص يخصص أحد المعنيين .
وقد سار على هذا التعميم الإمام ابن كثير فقال عند تفسيره لهذه الآية : " يقول الله - تعالى - مخبرا عما قضاه لعباده الصالحين ، من السعادة فى الدنيا والآخرة ووراثة الأرض فى الجنيا والآخرة كقوله - تعالى - { إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } وقال - سبحانه - { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } وأخبر - تعالى - أن هذا مكتوب مسطور فى الكتب الشرعية ، فهو كائن لا محالة ، ولهذا قال : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون . . . } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ } .
اختلف أهل التأويل في المعنىّ بالزّبور والذكر في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عُني بالزّبور : كتب الأنبياء كلها التي أنزلها الله عليهم ، وعُني بالذكر : أمّ الكتاب التي عنده في السماء . ذكر من قال ذلك :
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرمليّ ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، قال : سألت سعيدا ، عن قول الله : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ قال : الذكر : الذي في السماء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ قال : قرأها الأعمش : «الزّبُر » قال : الزبور ، والتوراة ، والإنجيل ، والقرآن مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ قال : الذكر الذي في السماء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الزّبُورِ قال : الكتاب . مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ قال : أمّ الكتاب عند الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : الزّبُورِ قال : الكتاب . بَعْدِ الذّكْرِ قال : أم الكتاب عند الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ قال : الزبور : الكتب التي أُنزلت على الأنبياء . والذكر : أمّ الكتاب الذي تُكتب فيه الأشياء قبل ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد ، في قوله : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ قال : كتبنا في القرآن من بعد التوراة .
وقال آخرون : بل عُني بالزّبور : الكتب التي أنزلها الله على مَنْ بعد موسى من الأنبياء ، وبالذكر : التوراة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ مِنْ بَعْدَ الذّكْرِ . . . الاَية ، قال : الذكر : التوراة ، والزبور : الكتب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ . . . الاَية ، قال : الذكر : التوراة ، ويعني بالزبور من بعد التوراة : الكتب .
وقال آخرون : بل عُني بالزّبور زَبور داود ، وبالذكر تَوراة موسى صلى الله عليهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر أنه قال في هذه الاَية : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ قال : زبور داود . من بعد الذكر : ذكر موسى التوراة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن الشعبيّ ، أنه قال في هذه الاَية : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ قال : في زبور داود ، من بعد ذكر موسى .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في ذلك ما قاله سعيد بن جُبير ومجاهد ومن قال بقولهما في ذلك ، من أن معناه : ولقد كتبنا في الكتب من بعد أمّ الكتاب الذي كتب الله كل ما هو كائن فيه قبل خلق السموات والأرض . وذلك أن الزبور هو الكتاب ، يقال منه : زبرت الكتاب وذَبرته : إذا كتبته ، وأن كلّ كتاب أنزله الله إلى نبيّ من أنبيائه ، فهو ذِكْر . فإذ كان ذلك كذلك ، فإن في إدخاله الألف واللام في الذكر ، الدلالة البينة أنه معنيّ به ذكر بعينه معلوم عند المخاطبين بالاَية ، ولو كان ذلك غير أمّ الكتاب التي ذكرنا لم تكن التوراة بأولى من أن تكون المعنية بذلك من صحف إبراهيم ، فقد كان قبل زَبور داود .
فتأويل الكلام إذن ، إذ كان ذلك كما وصفنا : ولقد قضينا ، فأثبتنا قضاءنا في الكتب من بعد أمّ الكتاب ، أن الأرض يرثها عبادي الصالحون يعني بذلك : أن أرض الجنة يرثها عبادي العاملون بطاعته المنتهون إلى أمره ونهيه من عباده ، دون العاملين بمعصيته منهم المؤثرين طاعة الشيطان على طاعته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى القَتّات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قوله : أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ قال : أرض الجنة .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ قال : أخبر سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض ، أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويُدخلهم الجنة ، وهم الصالحون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جُبير في قوله : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ قال : كتبنا في القرآن بعد التوراة ، والأرض أرض الجنة .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ قال : الأرض : الجنة .
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرمليّ ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، قال : سألت سعيدا عن قول الله : أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ قال : أرض الجنة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : أنّ الأرْضَ قال : الجنة ، يَرِثُها عِبادِيَ الصّالحُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ قال : الجنة . وقرأ قول الله جلّ ثناؤه : وَقالُوا الحَمْدِ للّهِ الّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأوْرَثنَا الأَرْضَ نَتَبَوّأُ مِنَ الجَنةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ قال : فالجنة مبتدؤها في الأرض ثم تذهب درجات عُلوّا ، والنار مبتدؤها في الأرض وبينهما حجاب سُور ما يدري أحد ما ذاك السور ، وقرأ : بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحَمةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ قال : ودرجها تذهب سَفالاً في الأرض ، ودرج الجنة تذهب عُلوّا في السموات .
حدثنا محمد بن عوف ، قال : حدثنا أبو المغيرة ، قال : حدثنا صفوان ، سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان : هل لأنفس المؤمنين مجتمع ؟ قال : فقال : إن الأرض التي يقول الله : وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ قال : هي الأرض التي تجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث .
وقال آخرون : هي الأرض يورثها الله المؤمنين في الدنيا .
وقال آخرون : عُني بذلك بنو إسرائيل وذلك أن الله وعدهم ذلك فوفيّ لهم به . واستشهد لقوله ذلك بقول الله : وأَورَثْنا القَوْمَ الّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الأرْضِ وَمَغارِبَها الّتِي بارَكْنا فِيها . وقد ذكرنا قول من قال : أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ أنها أرض الأمم الكافرة ، ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وهو قول ابن عباس الذي رَوَى عنه عليّ بن أبي طلحة .
{ ولقد كتبنا في الزبور } في كتاب داود عليه السلام . { من بعد الذكر } أي التوراة ، وقيل المراد ب { الزبور } جنس الكتب المنزل وب { الذكر } اللوح المحفوظ . { أن الأرض } أي أرض الجنة أو الأرض المقدسة . { يرثها عبادي الصالحون } يعني عامة المؤمنين أو الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
إن كان المراد بالأرض أرض الجنة كما في قوله تعالى في [ سورة الزمر : 7374 ] { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً إلى قوله تعالى : وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء } فمناسبة ذكر هذه الآية عقب التي تقدمتها ظاهرة . ولها ارتباط بقوله تعالى : { أفلا ترون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } [ الأنبياء : 44 ] .
وإن كان المراد أرضاً من الدنيا ، أي مَصيرَها بيدِ عباد الله الصالحين كانت هذه الآية مسوقة لوعد المؤمنين بميراث الأرض التي لَقُوا فيها الأذَى ، وهي أرض مكة وما حولها ، فتكون بشارة بصلاح حالهم في الدنيا بعد بشارتهم بحسن مآلهم في الآخرة على حد قوله تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] .
على أن في إطلاق اسم الأرض ما يصلح لإرادة أن سلطان العالم سيكون بيد المسلمين ما استقاموا على الإيمان والصلاح . وقد صدق الله وعده في الحالين وعلى الاحتمالين . وفي حديث أبي داوود والترمذي عن ثَوبان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إنّ الله زوَى لي الأرض فرأيت مشارقَها ومغاربَها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها » . وقرأ الجمهور { في الزبور } بصيغة الإفراد وهو اسم للمزبور ، أي المكتوب ، فعول بمعنى مفعول ، مثل : ناقة حَلوب ورَكوب . وقرأ حمزة بصيغة الجمع { زُبور بوزن فعول جمع زِبْر بكسر فسكون أي مزبور ، فوزنه مثل قِشر وقُشور ، أي في الكتب .
فعلى قراءة الجمهور فو غالب في الإطلاق على كتاب داوود قال تعالى : { وآتينا داوود زبوراً } في [ سورة النساء : 163 ] وفي [ سورة الإسراء : 55 ] ، فيكون تخصيص هذا الوعد بكتاب داوود لأنه لم يذكر وعْد عامّ للصالحين بهذا الإرث في الكتب السماوية قبله . وما ورد في التوراة فيما حكاه القرآن من قول موسى عليه السلام : { إن الأرض لله يُورثها من يشاء من عباده } [ الأعراف : 128 ] فذلك خاص بأرض المقدس وببني إسرائيل .
والزبور : كتاب داوود وهو مبثوث في الكتاب المسمى بالمزامير من كتب اليهود . ولم أذكر الآن الجملة التي تضمنت هذا الوعد في المزامير . ووجدت في محاضرة للإيطالي المستعرب ( فويدو ) أن نص هذا الوعد من الزبور باللغة العبرية هكذا : صديقين يرشون أرص بشين معجمة في يرشون وبصاد مهملة في أرص ، أي الصديقون يرثون الأرض . والمقصود : الشهادة على هذا الوعد من الكتب السالفة وذلك قبل أن يجيء مِثل هذا الوعد في القرآن في [ سورة النور : 55 ] في قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } وعلى قراءة حمزة أن هذا الوعد تكرر في الكتب لِفِرق من العباد الصالحين .
ومعنى { من بعد الذكر } أن ذلك الوعد ورد في الزبور عقب تذكير ووعظ للأمة .
فبعد أن ألقيت إليهم الأوامر وُعِدوا بميراث الأرض ، وقيل المراد ب { الذكر } كتاب الشريعة وهو التوراة .
قال تعالى : { ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين } [ الأنبياء : 48 ] فيكون الظرف في قوله تعالى : { من بعد الذكر } مستقرّاً في موضع الحال من الزبور . والمقصود من هذه الحال الإيماء إلى أن الوعد المتحدّث عنه هنا هو غير ما وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى من إعطائهم الأرض المقدسة . وهو الوعد الذي ذكر في قوله تعالى حكاية عن موسى : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } [ المائدة : 21 ] ، وأنه غير الإرث الذي أورثه الله بني إسرائيل من المُلك والسلطان لأن ذلك وعد كان قبل داوود . فإن مُلك داوود أحد مظاهره . بل المراد الإيماء إلى أنه وعد وعده الله قوماً صالحين بعد بني إسرائيل وليسوا إلا المسلمين الذين صدقَهم الله وعده فملكوا الأرض ببركة رسولهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه واتسع ملكهم وعظم سلطانهم حسب ما أنبأ به نبيئهم صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم آنفاً .