وقوله : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي : توبة تلم شعثكم ، وتجمع متفرقكم ، وتقرب بعيدكم .
{ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } أي : يميلون معها حيث مالت ويقدمونها على ما فيه رضا محبوبهم ، ويعبدون أهواءهم ، من أصناف الكفرة والعاصين ، المقدمين لأهوائهم على طاعة ربهم ، فهؤلاء يريدون { أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } أي : [ أن ] تنحرفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين .
يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان ، وعن التزام حدود من السعادة كلها في امتثال أوامره ، إلى مَنْ الشقاوةُ كلها في اتباعه . فإذا عرفتم أن الله تعالى يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم ، وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار والشقاء ، فاختاروا لأنفسكم أوْلى الداعيين ، وتخيّروا أحسن الطريقتين .
ثم أخبر - سبحانه - عما يريده لعباده من خير وصلاح وما يريده لهم الفاسقون من شر وفساد فقال - تعالى - : { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } .
أى : والله - تعالى - يريد منكم أن تفعلوا ما يجعلكم أهلا لمغفرته ورضوانه وما يفضى بكم إلى قبول توبتكم ، وارتفاع منزلتكم عنده ، بينما يريد الذين يتبعون الشهوات من أهل الكفر والفسوق والعصيان أن تبتعدوا عن الحق والخير ابتعادا عظيما . والميل : أصله الانحراف من الوسط إلى جانب من الجوانب : ولما كان الاعتدال عبارة عن العدل والتوسط ، أطلق الميل على الجور والابتعاد عن الحق ووصف الميل بالعظم للإِشعار بأن الذين يتبعون الشهوات لا يكتفون من غيرهم بالميل اليسير عن الحق ، وإنما يريدون منهن انحرافا مطلقا عن الطريق المستقيم الذى أمر الله بسلوكه والسير فيه .
وهؤلاء الذين وصفهم الله بما وصف موجودون فى كل زمان ، وتراهم دائما يحملون لواء الرذيلة والفجور تارة باسم المدينة . وقد حذر الله - تعالى - عباده منهم حتى يتأثرون بهم ، وحتى يقاوموهم ويكشفوا عن زيفهم وضلالهم { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون }
{ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } . .
يعني بذلك تعالى ذكره : والله يريد أني يراجع بكم طاعته ، والإنابة إليه ، ليعفو لكم عما سلف من آثامكم ، ويتجاوز لكم عما كان منكم في جاهليتكم من استحلالكم ما هو حرام عليكم من نكاح حلائل آبائكم وأبنائكم ، وغير ذلك مما كنت تستحلونه وتأتونه ، مما كان غير جائز لكم إتيانه من معاصي الله { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَواتِ } يقول : يريد الذين يطلبون لذات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها ، أن تميلوا عن أمر الله تبارك وتعالى ، فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرّم عليكم وركوبكم معاصيه { مَيْلاً عَظِيما } جورا وعدولاً عنه شديدا .
واختلف أهل التأويل في الذين وصفهم الله بأنه يتبعون الشهوات ، فقال بعضهم : هم الزناة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ } قال : الزنا . { أنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيما } قال : يريدون أن تزنوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ أنْ تَميلُوا مَيْلاً عَظِيما } أن تكونوا مثلهم تزنون كما يزنون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَواتِ } قال : الزنا . { أنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيما } قال : يزني أهل الإسلام كما يزنون . قال : هي كهيئة { وَدّوا لَوْتُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ } قال : الزنا . { أنْ تَمِيلُوا } قال : أن تزنوا .
وقال آخرون : بل هم اليهود والنصارى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ } قال : هم اليهود والنصارى¹ { أنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيما } .
وقال آخرون : بل هم اليهود خاصة ، وكانت إرادتهم من المسلمين اتباع شهواتهم في نكاح الأخوات من الأب ، وذلك أنهم يحلون نكاحهنّ ، فقال الله تبارك وتعالى للمؤمنين : ويريد الذين يحللون نكاح الأخوات من الأب ، أن تميلوا عن الحقّ ، فتستحلوهنّ كما استحلوا .
وقال آخرون : معنى ذلك : كل متبع شهوة في دينه لغير الذي أبيح له . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ } . . . الاَية ، قال : يريد أهل الباطل وأهل الشهوات في دينهم ، { أنْ تَمِيلُوا } في دينكم { مَيْلاً عَظِيما } تتبعون أمر دينهم ، وتتركون أمر الله وأمر دينكم .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ويريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل ، وطلاب الزنا ، ونكاح الأخوات من الاَباء ، وغير ذلك مما حرّمه الله أن تميلوا ميلاً عظيما عن الحقّ ، وعما أذن الله لكم فيه ، فتجوروا عن طاعته إلى معصيته ، وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم فيما حرّم الله وترك طاعته ، ميلاً عظيما .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ } فوصفهم باتباع شهوات أنفسهم المذمومة ، وعمهم بوصفهم بذلك من غير وصفهم باتباع بعض الشهوات المذمومة . فإذ كان ذلك كذلك ، فأولى المعاني بالاَية ما دلّ عليه ظاهرها دون باطنها الذي لا شاهد عليه من أصل أو قياس . وإذ كان ذلك كذلك كان داخلاً في الذين يتبعون الشهوات اليهود والنصارى والزناة وكل متبع باطلاً ، لأن كل متبع ما نهاه الله عنه فمتبع شهوة نفسه . فإذ كان ذلك بتأويل الاَية أولى ، وجبت صحة ما اخترنا من القول في تأويل ذلك .
{ والله يريد أن يتوب عليكم } كرره للتأكيد والمبالغة . { ويريد الذين يتبعون الشهوات } يعني الفجرة فإن اتباع الشهوات الائتمار لها ، وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له في الحقيقة لا لها . وقيل : المجوس . وقيل : اليهود فإنهم يحلون الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت . { أن تميلوا } عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات . { ميلا عظيما } بالإضافة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندور غير مستحل لها .
وتكرار إرادة الله تعالى التوبة على عباده تقوية للإخبار الأول ، وليس المقصد في هذه الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات ، فقدمت إرادة الله توطئة ، مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات ، واختلف المتأولون في متبعي الشهوات ، فقال مجاهد : هم الزناة ، وقال السدي : هم اليهود والنصارى ، وقالت فرقة : هم اليهود خاصة ، لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب ، وقال ابن زيد : ذلك على العموم في هؤلاء ، وفي كل متبع شهوة ، ورجحه الطبري ، وقرأ الجمهور «ميْلاً » بسكون الياء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «مَيلاً » بفتح الياء .
كرّر قوله : { والله يريد أن يتوب عليكم } ليرتّب عليه قوله : ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً فليس بتأكيد لفظي ، وهذا كما يعاد اللفظ في الجزاء والصفة ونحوها ، كقول الأحوص في الحماسة .
فَإذا تَزُول تَزُولُ عن متخمّط *** تُخشَى بَوَادِرُه على الأقْران
وقوله تعالى : { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [ القصص : 63 ] والمقصد من التعرُّض لإرادة الذين يتّبعون الشهوات تنبيهُ المسلمين إلى دخائل أعدائهم ، ليعلموا الفرق بين مراد الله من الخلق . ومراد أعوان الشياطين ، وهم الذين يتّبعون الشهوات . ولذلك قُدّم المسند إليه على الخَبر الفِعْلي في قوله : { والله يريد أن يتوب عليكم } ليدلّ على التخصيص الإضافي . أي الله وحده هو الذي يريد أن يتوب عليكم ، أي يحرّضكم على التوبة والإقلاع عن المعاصي ، وأمّا الذين يتّبعون الشهوات فيريدون انصرافكم عن الحقّ ، وميلكم عنه إلى المعاصي . وإطلاقُ الإرادة على رغبة أصحاب الشهوات في ميْل المسلمين عن الحقّ لمشاكلة { يريد الله ليبين لكم } [ النساء : 26 ] . والمقصود : ويحبّ الذين يتّبعون الشهوات أن تميلوا . ولمّا كانت رغبتهم في ميل المسلمين عن الحقّ رغبة لا تخلو عن سعيهم لحصول ذلك ، أشبهت رغبتُهم إرادة المريد للفعل ، ونظيره قوله تعالى بعد هذه الآية { يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل } [ النساء : 44 ] .
وحذف متعلّق { تميلوا } لظهوره من قرينة المقام ، وأراد بالذين يتّبعون الشهوات الذين تغلبهم شهواتهم على مخالفة ما شرعه الله لهم : من الذين لا دين لهم ، وهم الذين لا ينظرون في عواقب الذنوب ومفاسدها وعقوبتها ، ولكنّهم يرضون شَهَواتهم الداعية إليها . وفي ذكر هذه الصلة هنا تشنيع لحالهم ، ففي الموصول إيماء إلى تعليل الخبر . والمراد بهم المشركون : أرادوا أن يتّبعهم المسلمون في نكاح أزواج الآباء ، واليهودُ أرادوا أن يتّبعوهم في نكاح الأخوات من الأب ونكاح العمّات والجمع بين الأختين . والميلُ العظيم هو البعد عن أحكام الشرع والطعن فيها . فكان المشركون يحبّبون للمسلمين الزنى ويعرضون عليهم البغايا . وكان المجوس يطعنون في تحريم ابنةِ الأخ وابنة الأخت ويقولون : لماذا أحلّ دينكم ابنة العمّة وابنة الخالة . وكان اليهود يقولون : لا تحرم الأخت التي للأب ولا تحرم العمّة ولا الخالة ولا العّم ولا الخال . وعبّر عن جميع ذلك بالشهوات لأنّ مجيء الإسلام قد بيّن انتهاء إباحة ما أبيح في الشرائع الأخرى ، بله ما كان حراماً في الشرائع كلّها وتساهل فيه أهل الشرك .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{والله يريد أن يتوب عليكم}: والله يريد أن يراجع بكم طاعته، والإنابة إليه، ليعفو لكم عما سلف من آثامكم، ويتجاوز لكم عما كان منكم في جاهليتكم من استحلالكم ما هو حرام عليكم من نكاح حلائل آبائكم وأبنائكم، وغير ذلك مما كنت تستحلونه وتأتونه، مما كان غير جائز لكم إتيانه من معاصي الله. {ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَواتِ}: يريد الذين يطلبون لذات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها، "أن تميلوا "عن أمر الله تبارك وتعالى، فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرّم عليكم وركوبكم معاصيه {مَيْلاً عَظِيما}: جورا وعدولاً عنه شديدا.
واختلف أهل التأويل في الذين وصفهم الله بأنه يتبعون الشهوات؛ فقال بعضهم: هم الزناة. يريدون أن تزنوا كما يزنون.
وقال آخرون: بل هم اليهود والنصارى.
وقال آخرون: بل هم اليهود خاصة، وكانت إرادتهم من المسلمين اتباع شهواتهم في نكاح الأخوات من الأب، وذلك أنهم يحلون نكاحهنّ، فقال الله تبارك وتعالى للمؤمنين: ويريد الذين يحللون نكاح الأخوات من الأب، أن تميلوا عن الحقّ، فتستحلوهنّ كما استحلوا.
وقال آخرون: معنى ذلك: كل متبع شهوة في دينه لغير الذي أبيح له. يريد أهل الباطل وأهل الشهوات في دينهم، {أنْ تَمِيلُوا} في دينكم {مَيْلاً عَظِيما} تتبعون أمر دينهم، وتتركون أمر الله وأمر دينكم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ويريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل، وطلاب الزنا، ونكاح الأخوات من الاَباء، وغير ذلك مما حرّمه الله أن تميلوا ميلاً عظيما عن الحقّ، وعما أذن الله لكم فيه، فتجوروا عن طاعته إلى معصيته، وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم فيما حرّم الله وترك طاعته، ميلاً عظيما.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله: {ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ} فوصفهم باتباع شهوات أنفسهم المذمومة، وعمهم بوصفهم بذلك من غير وصفهم باتباع بعض الشهوات المذمومة. فإذ كان ذلك كذلك، فأولى المعاني بالآية ما دلّ عليه ظاهرها دون باطنها الذي لا شاهد عليه من أصل أو قياس. وإذ كان ذلك كذلك كان داخلاً في الذين يتبعون الشهوات: اليهود والنصارى والزناة وكل متبع باطلاً، لأن كل متبع ما نهاه الله عنه فمتبع شهوة نفسه.
{أنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} يعني به: العدول عن الاستقامة بالاستكثار من المعصية؛ وتكون إرادتهم للميل على أحد وجهين: إما لعداوتهم، أو للأنس بهم والسكون إليهم في الإقامة على المعصية؛ فأخبر الله تعالى أن إرادته لنا خلاف إرادة هؤلاء. وقد دلّت الآية على أن القَصْدَ في اتّباع الشهوة مذمومٌ، إلا أن يوافق الحق فيكون حينئذ غير مذموم في اتباع شهوته، إذ كان قصده اتباع الحق. ولكن من كان هذا سبيله لا يُطلق عليه أنه متبع لشهوته؛ لأن مقصده فيه اتباع الحق وافق شهوته أو خالفها...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{والله يريد أن يتوب عليكم} أي يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى {ويريد الذين يتبعون الشهوات} وهم الزناة وأهل الباطل في دينهم {أن تميلوا} عن الحق وقصد السبيل بالمعصية {ميلا عظيما} فتكونوا مثلهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وتكرار إرادة الله تعالى التوبة على عباده تقوية للإخبار الأول، وليس المقصد في هذه الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله توطئة، مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قوله: {والله يريد أن يتوب عليكم} قيل إنه تكرير لأجل التأكد وقيل إن التوبة فيه غير التوبة في الآية السابقة بأن يراد بالأولى القبول وبالثانية العمل الذي يكون سبب القبول، وهو تكلف غير مقبول، والصواب أن التوبة الأولى ذكرت في تعليل أحكام محرمات النكاح فكان معناها أن العمل بتلك الأحكام يكون توبة ورجوعا عما كان قبلها من أنكحتهم الباطلة الضارة وإن الله شرعها لأجل ذلك ثم أسند إرادة التوبة إلى الله تعالى في جملة مستأنفة ليبين لنا أن ذلك ما يريد الله تعالى أن نكون عليه دائما في مستقبل أيامنا بعد الإسلام ويقابله بما يريده منا متبعو الشهوات، كأنه يقول ما جعل إرادة التوبة علة لتلك الأحكام إلا وهو يريد ذلك دائما منكم لتزكو نفوسكم وتطهر قلوبكم وتصلح أحوالكم {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما} عن صراط الفطرة فتؤثروا داعية الشهوة الحيوانية على كل داعية فلا تبالوا أن تقطعوا لإرضائها وشائج الأرحام، وتزيلوا أواصر القرابة، وتكونوا مثلهم إمامكم المتبع هو الشهوة، وغرضكم من الحياة التمتع باللذة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، وعن التزام حدود من السعادة كلها في امتثال أوامره، إلى مَنْ الشقاوةُ كلها في اتباعه. فإذا عرفتم أن الله تعالى يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم، وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار والشقاء، فاختاروا لأنفسكم أوْلى الداعيين، وتخيّروا أحسن الطريقتين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما).. وتكشف الآية الواحدة القصيرة عن حقيقة ما يريده الله للناس بمنهجه وطريقته، وحقيقة ما يريده بهم الذين يتبعون الشهوات، ويحيدون عن منهج الله -وكل من يحيد عن منهج الله إنما يتبع الشهوات- فليس هنالك إلا منهج واحد هو الجد والاستقامة والالتزام، وكل ما عداه إن هو إلا هوى يتبع، وشهوة تطاع، وانحراف وفسوق وضلال. فماذا يريد الله بالناس، حين يبين لهم منهجه، ويشرع لهم سنته؟ إنه يريد أن يتوب عليهم. يريد أن يهديهم. يريد أن يجنبهم المزالق. يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة. وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات، ويزينون للناس منابع ومذاهب لم يأذن بها الله، ولم يشرعها لعباده؟ إنهم يريدن لهم أن يميلوا ميلا عظيما عن المنهج الراشد، والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كرّر قوله: {والله يريد أن يتوب عليكم} ليرتّب عليه قوله: ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً، فليس بتأكيد لفظي، وهذا كما يعاد اللفظ في الجزاء والصفة ونحوها، وقوله تعالى: {ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا} [القصص: 63] والمقصد من التعرُّض لإرادة الذين يتّبعون الشهوات تنبيهُ المسلمين إلى دخائل أعدائهم، ليعلموا الفرق بين مراد الله من الخلق. ومراد أعوان الشياطين، وهم الذين يتّبعون الشهوات. ولذلك قُدّم المسند إليه على الخَبر الفِعْلي في قوله: {والله يريد أن يتوب عليكم} ليدلّ على التخصيص الإضافي. أي الله وحده هو الذي يريد أن يتوب عليكم، أي يحرّضكم على التوبة والإقلاع عن المعاصي، وأمّا الذين يتّبعون الشهوات فيريدون انصرافكم عن الحقّ، وميلكم عنه إلى المعاصي. وإطلاقُ الإرادة على رغبة أصحاب الشهوات في ميْل المسلمين عن الحقّ لمشاكلة {يريد الله ليبين لكم} [النساء: 26]. والمقصود: ويحبّ الذين يتّبعون الشهوات أن تميلوا. ولمّا كانت رغبتهم في ميل المسلمين عن الحقّ رغبة لا تخلو عن سعيهم لحصول ذلك، أشبهت رغبتُهم إرادة المريد للفعل، ونظيره قوله تعالى بعد هذه الآية {يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل} [النساء: 44]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{والله يريد ان يتوب عليكم} هذا النص يفيد إرادة الله سبحانه وتعالى قبول توبة عباده، وستر ذنوبهم وغفرانها، وذلك إذا أقلعوا عن هذه الذنوب، وتابوا إلى الله توبة نصوحا؛ لأن الله تعالى يريد التوبة من عباده عما أسلفوا من ذنوب، وقد بين لهم طريق الحق، والوصول إليه، وأن الماضي من الذنوب لا يعوق عن الاتجاه إلى الله ولا يكون سببا للقنوط من رحمته، كما قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله عن الله يغفر الذنوب جميعا غنه هو الغفور الرحيم53} [الزمر] وعلى ذلك تكون إرادة الله تعالى للتوبة عليهم متضمنة بيان الهداية لهم، ووجوب سلوك طريق الفطرة المستقيمة، وتسهيل الرجوع إليه سبحانه لتتطهر نفوسهم وتصغي إلى الحق أفئدتهم، وغفران الذنب إن أحسنوا التوبة وأخلصوا النية، واعتزموا السير في طريق الحق، وإنه في الوقت الذي يريد الله للناس الهداية والتوبة – يوجد – من إخوان إبليس من يحرضون على الغواية، ولذا قال سبحانه:... {ويريد الذين يتبعون الشهوات ان تميلوا ميلا عظيما} هذه إشارة إلى كمال المباينة بين دعوة الحق التي يدعو إليها الله سبحانه وتعالى، ويبين سبلها، ودعوة أولياء الشيطان، فإن دعوة الله تعالى هي دعوة إلى الفطرة السليمة التي لم تنحرف، ولم تخرج عن النجد السوي، ليس فيها تحريم للطيبات ومتع الحياة وليس فيها انطلاق إلى الأهواء والشهوات والخروج عن سنن الفطرة المستقيمة...
سبحانه قال في الآية السابقة: {يريد الله ليبين لكم}، وبعد ذلك يقول: {ويهديكم}، وبعد ذلك: {ويتوب عليكم}، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {والله يريد أن يتوب عليكم}، فلماذا جاء أولا ب {ويتوب عليكم} وجاء هنا ثانيا ب {والله يريد أن يتوب عليكم}؟. نقول: التوبة لا بد أن تكون مشروعة أولا من الله، وإلا فهل لك أن تتوب إلى الله من الذنب لو لم يشرع الله لك التوبة؟ أتصح هذه التوبة؟ إنه سبحانه إذن يشرع التوبة أولا، وبعد ذلك أنت تتوب على ضوء ما شرع، ويقبل هو التوبة، وبذلك نكون أمام ثلاث مراحل: أولا مشروعية التوبة من الله رحمة منه بنا، ثم توبة العبد، وبعد ذلك قبول الله التوبة ممن تاب رحمة منه سبحانه إذن فتوبة العبد بين توبتين من الرب: توبة تشريع، وتوبة قبول...
{والله يريد أن يتوب عليكم}، مادام سبحانه قد شرع التوبة أيشرعها ولا يقبلها؟! لا، فمادام قد شرع وعلمني أن أتوب فمعنى ذلك أنه فتح لي باب التوبة، وفتح باب التوبة من رحمة العليم الحكيم بخلقه؛ لأن الحق حينما خلق الإنسان زوده دون سائر الأجناس بطاقة من الاختيارات الفاعلة، أي أن الإنسان يستطيع أن يفعل هذه أو يفعل تلك، وجعل أجهزته تصلح للأمر وللنهي، فالعين صالحة أن ترى آية في كون الله تعتبر بها، والعين أيضا صالحة أن تمتد إلى المحارم. واللسان صالح أن تسب به، صالح أن تذكر الله به قائلا: لا إله إلا الله وسائر أنواع الذكر. واليد عضلاتها صالحة أن ترفعها وتضرب بها، وصالحة لأن تقيل وترفع بها عاثرا واقعا في الطريق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} وتعود كلمة التوبة في خط إرادة الله، ولكن هل هي تكرير وتأكيد؟ ربما كان الأمر كذلك، وربما كانت التوبة في الآية الأولى بياناً للمنهج الذي وضعه الله لعباده؛ من أجل أن تتكامل لهم المعرفة والهداية والسير على الخط المستقيم، بعيداً عن كل المقارنات والمعادلات في ما حولهم ومن حولهم... أما في هذه الآية، فقد جاءت لتدخل الإنسان في عملية موازنة ومقارنة، في ما يواجهه الإنسان من العناصر الشريرة المنحرفة التي تريد أن تضله وتبعده عن الله؛ ليوازن بين ما يريده الله له وبين ما يريده له الآخرون؛ فإن الله يريد أن يبلغ بالإنسان إلى الدرجات العليا التي يحصل بها على رضا الله تعالى، من خلال ما تعنيه كلمة التوبة من مقدمات ونتائج...
{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} فليس لهؤلاء قاعدة أساسية ثابتة في فكر الإنسان وروحه وضميره، وليس لهم هدف كبير في حياتهم يسعون إليه، ليكون لهم من خلال ذلك المستوى الذي يجعلهم موضع ثقة الآخرين ومحل اعتمادهم، بل كل ما هناك أنهم يعيشون للجانب الحسي الحيواني في حياتهم وحياة الآخرين؛ فالحياة عندهم لذة وشهوة، والإنسان عندهم كائن ذو شهوات، والمبادئ لديهم تتلخص في العمل على الوصول إلى الارتواء من ينابيع الشهوات ما أمكنهم ذلك. وهكذا اختصر القرآن ذلك كله بقوله {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ...}، فهي القبلة التي يتوجهون إليها في كل تطلعاتهم ومشاعرهم. وإذا كانت الشهوات هي التي يتبعونها ويقودون الناس إليها، فإن الغاية التي يستهدفونها هي أن يميل الناس عن الخط الصحيح المستقيم ميلاً عظيماً، لأن الشهوات لا تخضع لميزان دقيق متوازن، يحفظ للإنسان مصلحته الحقيقية في خط الاستقامة، بل إنها تنخفض وترتفع تبعاً للأجواء الحسية المحيطة بمشاعر الإنسان ونزواته، مما يؤدي به إلى أن يفقد توازنه ويميل نحو الهاوية التي تنتظره ميلاً عظيماً...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ هذه الآيات في الحقيقة تجيب على تساؤل أُولئك الأفراد الذين يعيشون في عصرنا الحاضر أيضاً والذين يعترضون على القيود والحدود المفروضة في مجال القضايا الجنسية، وتقول لهم: إنّ الحريات المطلقة المنفلتة ليست أكثر من سراب، وهي لا تنتج سوى الانحراف الكبير عن مسير السعادة والتكامل الإِنساني، وكما توجب التورط في المتاهات والمجاهل، وتستلزم العواقب الشريرة التي يتجسد بعضها في ما نراه بأُم أعيننا من تبعثر العوائل، ووقوع أنواع الجريمة الجنسية البشعة، وظهور الأمراض التناسلية والآلام الروحية والنفسية المقيتة، ونشوء الأولاد غير الشرعيين حيث يكثر فيهم المجرمون القساة الجناة.