وأما المسيح ، وعزير ، والملائكة ونحوهم ، ممن عبد من الأولياء ، فإنهم لا يعذبون فيها ، ويدخلون في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } أي : سبقت لهم سابقة السعادة في علم الله ، وفي اللوح المحفوظ وفي تيسيرهم في الدنيا لليسرى والأعمال الصالحة .
{ أُولَئِكَ عَنْهَا } أي : عن النار { مُبْعَدُونَ } فلا يدخلونها ، ولا يكونون قريبا منها ، بل يبعدون عنها ، غاية البعد .
وبعد هذا الحديث الذى ترتجف له القلوب . . . أتبع القرآن ذلك بحديث آخر تسر له النفوس ، وتنشرح له الصدور ، فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين . . . } .
الحسنى : تأنيث الأحسن ، وهى صفة لموصوف محذوف .
أى : إن الذين سبقت لهم منا فى دنياهم المنزلة الحسنى بسبب إيمانهم الخالص وعملهم الصالح ، وقولهم الطيب .
{ أولئك } المصوفون بتلك الصفات الحميدة { عَنْهَا مُبْعَدُونَ } أى : عن النار وحرها وسعيرها . . . مبعدون إبعادا تاما بفضل الله - تعالى - ورحمته .
وأما قوله : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به ، فقال بعضهم : عُني به كل من سبقت له من الله السعادة من خلقه أنه عن النار مُبعد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن سعد وليس بابن ماهَك عن محمد بن حاطب ، قال : سمعت عليّا يخطب فقرأ هذه الاَية : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ . قال : عثمان رضي الله عنه منهم .
وقال آخرون : بل عُني : من عُبد مِن دون الله ، وهو لله طائع ولعبادة من يَعبد كاره . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى . وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ قال : عيسى ، وعُزَير ، والملائكة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
قال ابن جُرَيج : قوله : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ثم استثنى فقال : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، والحسن البصري قالا : قال في سورة الأنبياء : إنّكُمْ وَما تَعْبُدونَ مِنْ دونِ اللّهِ حَصَب جَهَنمَ أنْتُمْ لَهَا وَارِدونَ لَوْ كانَ هَؤلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ ثم استثنى فقال : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فقد عُبدت الملائكة من دون الله ، وعُزَيرٌ وعيسى من دون الله .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد : أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ قال : عيسى .
حدثني إسماعيل بن سيف ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى قال : عيسى ، وأمه ، وعُزَير ، والملائكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث ، وكلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أنْتُمْ لَهاَ وَارِدُونَ لَوْ كان هَؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وكُلّ فِيها خالِدُونَ . . . . إلى قوله : وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ . ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عبد الله بن الزّبَعْرَي بن قيس بن عدي السهميّ حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزّبَعْري : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حَصَب جهنم فقال عبد الله بن الزّبَعْري : أما والله لو وجدته لخصَمته فسلوا محمدا : أكلّ من عبد من دون الله في جهنم مع من عَبده ؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عُزَيرا ، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم . فعجب الوليد بن المغيرة ومن كان في المجلس من قول عبد الله بن الزّبَعْري ، ( ورأوا أنّه قد احتجّ وخاصم . فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول ابن الزبعري ، فقال ) رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نَعَمْ كُلّ مَنْ أحَبّ أنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ ، إنّمَا يَعْبَدُونَ الشّياطِينَ وَمَنْ أمَرَهُمْ بعِبادَتهِ » . فأنزل الله عليه : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ . . . إلى : خالِدُونَ أي عيسى ابن مريم ، وعُزير ، ومن عَبدوا من الأحبار والرهبان الذي مضَوا على طاعة الله ، فاتخذهم مَنْ بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله . فأنزل الله فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله : وَقالُوا اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدا سُبْحانَهَ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمونَ . . . إلى قوله : نَجْزِي الظّالِمينَ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، قال : يقول ناس من الناس إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ يعني من الناس أجمعين . فليس كذلك ، إنما يعني من يعبد الاَلهة وهو لله مطيع مثل عيسى وأمه وعُزَير والملائكة ، واستثنى الله هؤلاء الاَلهة المعبودة التي هي ومَنْ يعبدها في النار .
حدثنا ابن سِنان القزاز ، قال : حدثنا الحسن بن الحسين الأشقر ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أنْتُمْ لَهَا وَارِدُون قال المشركون : فإن عيسى يُعبد وعُزَير والشمس والقمر يُعبدون فأنزل الله : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لعيسى وغيره .
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال : عني بقوله : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ما كان من معبود كان المشركون يعبدونه والمعبود لله مطيع وعابدوه بعبادتهم إياه بالله كفّار لأن قوله تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الْحُسْنَى ابتداء كلام محقق لأمر كان ينكره قوم ، على نحو الذي ذكرنا في الخبر عن ابن عباس ، فكأن المشركين قالوا لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ : ما الأمر كما تقول ، لأنا نعبد الملائكة ، ويعبد آخرون المسيح وعُزَيرا . فقال عزّ وجلّ ردّا عليهم قولهم : بل ذلك كذلك ، وليس الذي سبقت لهم منا الحسنى هم عنها مبعدون ، لأنهم غير معنيين بقولنا : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ . فأما قول الذين قالوا ذلك استثناء من قوله : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ فقول لا معنى له لأن الاستثناء إنما هو إخراج المستثنى من المستثنى منه ، ولا شكّ أن الذين سبقت لهم منا الحسنى إنما هم إما ملائكة وإما إنس أو جانّ ، وكلّ هؤلاء إذا ذكرتها العرب فإن أكثر ما تذكرها ب «من » لا ب «ما » ، والله تعالى ذكره إنما ذكر المعبودين الذين أخبر أنهم حَصَب جهنم ب «ما » ، قال : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ إنما أريد به ما كانوا يعبدونه من الأصنام والاَلهة من الحجارة والخشب ، لا من كان من الملائكة والإنس . فإذا كان ذلك كذلك لما وصفنا ، فقوله : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى جواب من الله للقائلين ما ذكرنا من المشركين مبتدأ . وأما الحُسنى فإنها الفُعلى من الحسن ، وإنما عني بها السعادة السابقة من الله لهم . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى قال : الحسنى : السعادة . وقال : سبقت السعادة لأهلها من الله ، وسبق الشقاء لأهله من الله .
جملة { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً دعا إليه مقابلة حكاية حال الكافرين وما يقال لهم يوم القيامة بحكاية ما يلقاه الذين آمنوا يوم القيامة وما يقال لهم . فالذين سبقت لهم الحسنى هم الفريق المقابل لفريق القرية التي سبق في علم الله إهلاكها ، ولما كان فريق القرية هم المشركين فالفريق المقابل له هم المؤمنون . ولا علاقة لهذه الجملة بجملة { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] ولا هي مخصصة لعموم قوله تعالى : { وما تعبدون من دون الله } بل قوله تعالى : { والذين سبقت لهم منا الحسنى } عام يعم كل مؤمن مات على الإيمان والعمل الصالح .
والسبق ، حقيقته : تجاوز الغير في السير إلى مكان معين ، ومنه سباق الخيل ، واستعمل هنا مجازاً في ثبوت الأمن في الماضي ، يقال كان هذا في العصور السابقة ، أي التي مضت أزمانها لما بين السبق وبين التقدم من الملازمة ، أي الذين حصلت لهم الحسنى في الدنيا ، أي حصل لهم الإيمان والعمل الصالح من الله ، أي بتوفيقه وتقديره ، كما حصل الإهلاك لأضدادهم بما قدر لهم من الخذلان .
والحسنى : الحالة الحسنة في الدين ، قال تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] أو الموعدة الحسنى ، أي تقرّرَ وعد الله إياهم بالمعاملة الحسنى . وتقدم في سورة يونس .
وذِكر الموصول في تعريفهم لأن الموصول للإيماء إلى أن سبب فوزهم هو سبق تقدير الهداية لهم . وذِكر اسم الإشارة بعد ذلك لتمييزهم بتلك الحالة الحسنة ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما تقدم على اسم الإشارة من الأوصاف ، وهو سبق الحسنى من الله .
واختير اسم إشارة البعيد للإيماء إلى رفعة منزلتهم ، والرفعةُ تشبه بالبعد .