اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ أُوْلَـٰٓئِكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ} (101)

قوله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } الآية . قال بعض أهل العلم{[29776]} «إنَّ » ههنا بمعنى ( إلا ) أي : إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى{[29777]} .

قال ابن الخطيب : قد بينا فساد هذا القول ، وذكرنا{[29778]} أنَّ سؤال ابن الزبعرى لم يكن وارداً{[29779]} ، فلم يبق إلا أحد أمرين :

الأول : أن يقال : إنَّ عادة الله تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار ، فلهذا ذكر هذه الآية عقيب تلك الآية فهي عامة في حق كل المؤمنين .

الثاني : أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعرى ثم قال : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وهذا هو الحق ، أجراها على عمومها ، فتكون الملائكة والمسيح وعزير - عليهم السلام-{[29780]} داخلين فيها ، لا أنّ الآية مختصة بهم . ومَنْ قال العبرة بخصوص السبب خصص قوله : { إنَّ الَّذِينَ } بهؤلاء فقط{[29781]} .

قوله : { مِنَّا } يجوز أن يتعلق ب «سَبَقَتْ » ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الحُسْنَى »{[29782]} قال الزمخشري : «الحُسْنَى » الخصلة{[29783]} المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن وهي إما السعادة ، وإما البشرى بالثواب ، وإما التوفيق للطاعة{[29784]} ثم شرح أحوال ثوابهم{[29785]} فقال : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } . قال أهل العفو معناه : أولئك عنها مخرجون ، واحتجوا بوجهين :

الأول : قوله { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }{[29786]} أثبت الورود ، والورود الدخول ، فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج .

والثاني : أن إبعاد الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن الآخر ، لأنّ تحصيل الحاصل محال .

وقال المعتزلة : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة . واحتج القاضي عبد الجبار على فساد الأول بأمور :

أحدها : أنَّ قوله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } يقتضي أنّ الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا ، وليس هذا{[29787]} حال من يخرج من النار .

وثانيها : أنه تعالى قال : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } فكيف يدخل في لك من وقع فيها .

وثالثها : قوله : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } وقوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } يمنع من ذلك . والجواب عن الأول لا نسلم أنّ المراد من قوله { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } هو أن الوعد بثوابهم قد تقدم ، ولم لم يجوز أن يكون المراد من «الحُسْنَى » تقدم الوعد بالثواب ، ( لكن لم قلتم إن الوعد بالثواب لا ){[29788]} يليق بحال من يخرج من النار فإن عنده المحابطة{[29789]} باطلة ، ويجوز الجميع بين استحقاق الثواب والعقاب . وعن{[29790]} الثاني : أنا بينا أنّ قوله : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلا في حق من كان في النار . وعن الثالث : أن قوله : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } مخصوص بما{[29791]} بعد الخروج{[29792]} .

وعلى قول المعتزلة بأن المراد بقوله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها ، يبطل القول بأن جميع الناس يردون النار ، ثم يخرجون إلى الجنة ، فيجب التوفيق بينه وبين قوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }{[29793]} وقد تقدم{[29794]} .

قوله : { وَهُمْ فِي مَا اشتهت } إلى قوله : وَيَتَلَقاهُم{[29795]} كل جملة من هذه الجمل يحتمل أن تكون حالاً مما قبلها ، وأن تكون مستأنفة ، وكذلك الجملة المضمرة من القول العامل في جملة قوله : { هذا يَوْمُكُمُ } إذ التقدير : وتتلقاهم الملائكة يقولون هذا يومكم .


[29776]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/226.
[29777]:قال القرطبي: (فمعنى الكلام الاستثناء، ولهذا قال بعض أهل العلم: "إن" هنا بمعنى (إلا) وليس في القرآن غيره) تفسير القرطبي 11/345.
[29778]:في ب: وذكر.
[29779]:انظر ما سبق قريبا.
[29780]:في ب: عليهم الصلاة والسلام.
[29781]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/226.
[29782]:انظر التبيان 2/928.
[29783]:في ب: الخصلة الحسنى.
[29784]:الكشاف 3/21.
[29785]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/226.
[29786]:من قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا} [مريم: 71].
[29787]:في الأصل: هذه. وهو تحريف.
[29788]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[29789]:في الأصل: المخاطبة. وهو تحريف.
[29790]:في ب: وعلى
[29791]:بما: سقط من ب.
[29792]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/226.
[29793]:[مريم: 71].
[29794]:انظر الفخر الرازي 22/227.
[29795]:قال الله تعالى: {وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة}.