{ 22-24 } { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }
يقول تعالى مخبرا عن عموم قضائه وقدره : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ } وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق ، من خير وشر ، فكلها قد كتبت في اللوح المحفوظ ، صغيرها وكبيرها ، وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول ، بل تذهل عنده أفئدة أولي الألباب ، ولكنه على الله يسير .
بين - سبحانه - أن كل شىء فى هذه الحياة ، خاضع لقضاء الله - تعالى - وقدره ، وأن على المؤمن الصادق أن يكون شاكرا عند الرخاء ، صابرا عند البلاء . . . فقال - تعالى - : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ . . . } .
{ مَآ } فى قوله - تعالى - { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } نافية ، و { مِن } مزيدة لتأكيد هذا النفى وإفادة عمومه . ومفعلو " أصاب " محذوف . وقوله { فِي الأرض } إشارة إلى المصائب التى تقع فيها من فقر وقحط ، وزلازل .
وقوله : { وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } للإشارة إلى ما يصيب الإنسان فى ذاته ، كالأمراض ، والهموم .
والاستثناء فى قوله - تعالى - : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } من أعم الأحوال ، والمراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، أو علمه - عز وجل - الشامل لكل شىء .
وقوله : { نَّبْرَأَهَآ } من البرء - بفتح الباء - بمعنى الخلق والإيجاد ، والضمير فيه يعود إلى النفس ، أو إلى الأرض ، أو إلى جميع ما ذكره الله - تعالى - من خلق المصائب فى الأرض والأنفس .
والمعنى : واعلموا - أيها المؤمنون علما يترتب عليه آثاره من العمل الصالح - أنه ما أصابكم أو ما أصاب أحدا مصيبة ، هذه المصيبة كائنة فى الأرض - كالقحط والزلازل - أو فى أنفسكم - كالأسقام والأوجاع - إلا وهذه المصائب مسجلة فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . . . وهذا التسجيل كائن من قبل أن نخلق هذه الأنفس ، وهذه المصائب .
وكرر - سبحانه - حرف النفى فى قوله { وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } للإيماء إلى أن المصائب التى تتعلق بذات الإنسان ، يكون أشد تأثرا واهتماما بها ، أكثر من غيرها .
واسم الإشارة فى قوله : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } يعود إلى الكتابة فى الكتاب .
أى : إن ذلك الذى أثبتناه فى لوحنا المحفوظ وفى علمنا الشامل لكل شىء . . . قبل أن نخلقكم ، وقل أن نخلق الأرض . . . يسير وسهل علينا ، لأن قدرتنا لا يعجزها شىء ، وعلمنا لا يعزب عنه شىء .
فالآية الكريمة صريحة فى بيان أن ما يقع فى الأرض وفى الأنفس من مصائب - ومن غيرها من مسرات - مكتوب ومسجل عند الله - تعالى - قبل خلق الأرض والأنفس .
وخص - سبحانه - المصائب بالذكر ، لأن الإنسان يضطرب لوقوعها اضطرابا شديدا ، وكثيرا ما يكون إحساسه بها ، وإدراكه لأثرها ، أشد من إحساسه وإدركه للمسرات .
ومن الآيات التى تشبه هذه الآية فى معنها قوله - تعالى - : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون }
القول في تأويل قوله تعالى : { مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في الأرض بجدوبها وقحوطها ، وذهاب زرعها وفسادها وَلا فِي أنْفُسِكُمْ بالأوصاب والأوجاع والأسقام إلاّ فِي كِتابٍ يعني إلا في أمّ الكتاب مِنْ قَبْل أنْ نَبْرأها يقول : من قبل أن نبرأ الأنفس ، يعني من قبل أن نخلقها . يقال : قد برأ الله هذا الشيء ، بمعنى : خلقه فهو بارئه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ما أصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أنْفُسِكُمْ إلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرَأَها قال : هو شيء قد فرغ منه من قبل أن نبرأ النفس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : ثن سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ما أصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ أما مصيبة الأرض : فالسنون . وأما في أنفسكم : فهذه الأمراض والأوصاب مِنْ قَبْلِ أن نَبْرَأَها : من قبل أن نخلقها .
26065حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ما أصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ قال : هي السنون وَلا فِي أنْفُسِكُمْ قال : الأوجاع والأمراض . قال : وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدَش عود ، ولا نَكْبة قدم ، ولاخَلَجَانُ عِرْقٍ إلا بذنب ، وما يعفو عنه أكثر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن منصور بن عبد الرحمن ، قال : كنت جالسا مع الحسن ، فقال رجل : سله عن قوله : ما أصَابَ مِنْ مُصِيبَة فِي الأرْضِ وَلا في أنْفُسِكُم إلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْل أنْ نَبْرَأها فسألته عنها ، فقال : سبحان الله ، ومن يشكّ في هذا ؟ كلّ مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن تبرأ النسمة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ما أصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أنْفُسِكُمْ إلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْل أن نبرَأها يقول : هو شيء قد فرغ منه من قبل أن نبرأها : من قبل أن نبرأ الأنفس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله جلّ ثناؤه : فِي كِتابٍ مِنْ قَبْل أنْ نَبْرَأها قال : من قبل أن نخلقها ، قال : المصائب والرزق والأشياء كلها مما تحبّ وتكره فرغ الله من ذلك كله قبل أن يبرأ النفوس ويخلقها .
وقال آخرون : عُنِي بذلك : ما أصاب من مصيبة في دين ولا دنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ما أصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أنْفُسِكُمْ إلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْل أنْ نَبْرَأَها يقول : في الدين والدنيا إلا في كتاب من قبل أن نخلقها .
واختلف أهل العربية في معنى في التي بعد قوله : إلا فقال بعض نحويّي البصرة : يريد والله أعلم بذلك : إلا هي في كتاب ، فجاز فيه الإضمار . قال : ويقول : عندي هذا ليس إلا يريد إلا هو . وقال غيره منهم ، قوله : فِي كِتابٍ من صلة ما أصاب ، وليس إضمار هو بشيء ، وقال : ليس قوله عندي هذا ليس إلا مثله ، لأن إلاّ تكفي من الفعل ، كأنه قال : ليس غيره .
وقوله : إنّ ذلكَ على اللّهِ يَسِيرٌ يقول تعالى ذكره : إن خلق النفوس ، وإحصاء ما هي لاقية من المصائب على الله سهل يسير .
وقوله تعالى : { ما أصاب من مصيبة } قال ابن زيد وغيره المعنى : ما حدث من حادث خير وشر ، فهذا على معنى لفظ : { أصاب } لا على عرف المصيبة ، فإن عرفها في الشر . وقال ابن عباس ما معناه : أنه أراد عرف المصيبة وخصها بالذكر ، لأنها أهم على البشر ، وهي بعض من الحوادث تدل على أن جميع الحوادث خيرها وشرها كذلك .
وقوله تعالى : { في الأرض } يعني بالقحوط والزلازل وغير ذلك . وقوله : { في أنفسكم } يريد بالموت والأمراض وغير ذلك .
وقوله تعالى : { إلا في كتاب } معناه : إلا والمصيبة في كتاب . و : { نبرأها } معناه : نخلقها ، يقال : برأ الله الخلق : أي خلقهم ، والضمير عائد على المصيبة ، وقيل : على { الأرض } ، وقيل : على الأنفس ، قاله ابن عباس وقتادة وجماعة وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر ، وهي كلها معان صحاح ، لأن الكتاب السابق أزلي قبل هذه كلها .
وقوله تعالى : { إن ذلك على الله يسير } يريد تحصيل الأشياء كلها في الكتاب .