{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استواء يليق بجلاله ، فوق جميع خلقه ، { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } من حب وحيوان ومطر ، وغير ذلك . { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وشجر وحيوان وغير ذلك ، { وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } من الملائكة والأقدار والأرزاق .
{ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الملائكة والأرواح ، والأدعية والأعمال ، وغير ذلك . { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } كقوله : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا }
وهذه المعية ، معية العلم والاطلاع ، ولهذا توعد ووعد على المجازاة بالأعمال بقوله : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : هو تعالى بصير بما يصدر منكم من الأعمال ، وما صدرت عنه تلك الأعمال ، من بر وفجور ، فمجازيكم عليها ، وحافظها عليكم .
ثم ساق - سبحانه - ألوانا اخرى من الأدلة التى تدل على وحدانيته وقدرته فقال : { هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } .
والأيام : جمع يوم ، واليوم فى اللغة مطلق الوقت ، أى : فى ستة أوقات لا يعلم مقدارها إلا الله - تعالى - . وقيل : هذه الأيام من أيام الدنيا .
والاستواء فى اللغة : يطلق على الاستقرار ، كما فى قوله - تعالى - : { واستوت عَلَى الجودي } أى استقرت سفينة نوح - عليه السلام - عند ذلك الجيل المسمى بذلك الاسم . كما يطلق بمعنى القصد ، ومنه قولهم : استوى إلىَّ يخاصمتى ، أى : قصد لى . كما يطلق بمعنى الاستيلاء والقهر ، ومنه قول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق . . . وعرش الله ، مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم أما حقيقته وكيفيته فلا يعلمها إلى الله - تعالى - .
وقد ذكر العرش فى إحدى وعشرين آية من القرآن الكريم ، كما ذكر الاستواء على العرش فى سبع آيات .
أى : هو - سبحانه - الذى خلق السموات والأرض فى ستة أوقات ، ثم استوى على العرش ، استواء يليق به - تعالى - . بلا كيف ، ولا تمثيل ، ولا تشبيه ، لاستحالة اتصافه - تعالى : بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } قال الإمام مالك - رحمه الله - الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
ثم بين - سبحانه - شمول علمه فقال : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } .
وقوله : { يَلِجُ } من الولوج بمعنى الدخول ، يقال : ولج فلان بيته ، إذا دخله .
وقوله : { يَعْرُجُ } من العروج وهو الذهاب فى صعود ، والسماء ، جهة العلو مطلقا .
أى أنه - سبحانه - يعلم ما يلج فى الأرض ، وما يدخل فيها من ماء نازل من السماء ، ومن جواهر وكنوز قد طويت فى باطنها ، ومن بذور ومعادن فى طياتها .
ويعلم - أيضاً - { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وحبوب وكنوز ، وغير ذلك من أنواع الخيرات ، ويعلم - كذلك - { مَا يَنزِلُ مِنَ السمآء } من أمطار ، وثلوج ، وبرد ، وصواعق ، وبركات ، من عنده - تعالى - لأهل الأرض .
ويعلم - أيضا - ما يصعد فيها من الملائكة ، ومن الأعمال الصالحة ، كما قال - تعالى - { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } وعدى العروج بحرف فى ، لتضمنه معنى الاستقرار ، وهو فى الأصل يعدى بحرف إلى ، كما فى قوله - تعالى - : { تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } وقوله - سبحانه - : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } أى : وهو معكم بعلمه ولطفه ورحمته . . أينما كنتم وحيثما وجدتم .
قال الآلوسى : قوله - تعالى - : وهو معكم أينما كنتم تمثيل لإحاطة علمه - تعالى - بهم ، وتصوير خروجهم عنه أينما كانوا ، وقيل المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السياق واللحاق مع استحالة الحقيقة .
وقد أول السلف هذه الاية بذلك ، أخرج البيهقى فى الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها : عالم بكم أينما كنتم .
وأخرج - أيضا - عن سفيان الثورى أنه سئل عنها فقال : علمه معكم .
وفى البحر : أنه اجمعت الأمة على هذا التأويل فيها ، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أى : والله - تعالى - لا يخفى عليه شىء من أقوالكم أو أفعالكم . . . بل هو مطلع عليكم اطلاعا تاما .
وقوله : هُوَ الّذِي خَلَقَ السّمَواتِ والأرْضَ فِي سِتّةِ أيّامِ يقول تعالى ذكره : هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين ، فدبرهنّ وما فيهنّ ، ثم استوى على عرشه ، فارتفع عليه وعلا .
وقوله : يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها يقول تعالى ذكره مخبرا عن صفته ، وأنه لا يخفى عليه خافية من خلقه يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأرْضِ من خلقه . يعني بقوله : يَلِجُ : يدخل وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السّماءِ إلى الأرض من شيء قطّ وَما يَعْرُجُ فِيها فيصعد إليها من الأرض وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَما كُنْتُمْ يقول : وهو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم يعلمكم ، ويعلم أعمالكم ، ومتقلبكم ومثواكم ، وهو على عرشه فوق سمواته السبع وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير يقول : والله بأعمالكم التي تعملونها من حسن وسيىء ، وطاعة ومعصية ، ذو بصر ، وهو لها محص ، ليجازي المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته يَوْمَ تُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ .