جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَكُّ رَقَبَةٍ} (13)

وقوله : وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ ؟ يقول تعالى ذكره : وأيّ شيء أشعرك يا محمد ما العقبة ؟ .

ثم بين جلّ ثناؤه له ، ما العقبة ، وما النجاة منها ، وما وجه اقتحامها ؟ فقال : اقتحامها وقطعها فكّ رقبة من الرقّ ، وأسر العبودة ، كما :

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلّية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ فَكّ رَقَبَةٍ قال : ذُكر لنا أنه ليس مسلم يعتق رقبة مسلمة ، إلا كانت فداءه من النار .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ فَكّ رَقَبَةٍ ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الرقاب أيها أعظم أجرا ؟ قال : «أكثرها ثمنا » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا سالم بن أبي الجعد ، عن مَعْدان بن أبي طلحة ، عن أبي نجيح ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «أيّمَا مُسْلِم أعْتَقَ رَجُلاً مُسْلما ، فإنّ اللّهَ جاعِلُ وَفاءَ كُلّ عَظْيمٍ مِنْ عِظامِهِ ، عَظْما مِنْ عِظامِ مُحَرّرهِ مِنَ النّارِ وأيّمَا امْرأةٍ مُسْلَمَةٍ أعْتَقَتْ امْرأةً مُسْلِمَةً ، فإنّ اللّهَ جاعِلُ وَفاءَ كُلّ عَظْمٍ مِنْ عِظامِها ، عَظْما مِنْ عِظامِ مُحَرّرِها مِنَ النّارِ » .

قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن قيس الجُذاميّ ، عن عقبة بن عامر الجُهَنيّ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ أعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً ، فَهِيَ فِدَاؤُهُ مِنَ النّارِ » .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ ثم أخبر عن اقتحامها فقال : فَكّ رَقَبَة أوْ أطْعَمَ .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء البصرة ، عن ابن أبي إسحاق ، ومن الكوفيين : الكسائي : «فَكّ رَقَبَةٍ أوْ أطْعَمَ » . وكان أبو عمرو بن العلاء يحتجّ فيما بلغني فيه بقوله : ثُمّ كانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا كأن معناه : كان عنده ، فلا فكّ رقبة ، ولا أطعم ، ثم كان من الذين آمنوا . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والشأم فَكّ رَقَبَةٍ على الإضافة أوْ إطْعامٌ على وجه المصدر .

والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وتأويل مفهوم ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . فقراءته إذا قرىء على وجه الفعل تأويله : فلا اقتحم العقبة ، لا فكّ رقبة ، ولا أطعم ، ثم كان من الذين آمنوا ، وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ على التعجب والتعظيم . وهذه القراءة أحسن مخرجا في العربية ، لأن الإطعام اسم ، وقوله : ثُمّ كانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا فعل ، والعرب تُؤْثِر ردّ الأسماء على الأسماء مثلها ، والأفعال على الأفعال ، ولو كان مجيء التّنزيل ثم إن كان من الذين آمنوا ، كان أحسن ، وأشبه بالإطعام والفكّ من ثم كان ، ولذلك قلت : «فَكّ رَقَبَةٍ أوْ أطْعَمَ » أوجه في العربية من الاَخر ، وإن كان للاَخر وجه معروف ، ووجهه أنْ تضمر أن ثم تلقى ، كما قال طرفة بن العبد :

ألا أيّهاذا الزّاجري أحْضُرَ الْوَغَى *** وأنْ أشْهَدَ اللّذّاتِ هَلْ أنتَ مُخْلِدي

بمعنى : ألا أيهاذا الزاجري أن أحضر الوغى . وفي قوله : «أن » أشهد الدلالة البنية على أنها معطوفة على أن أخرى مثلها ، قد تقدّمت قبلها ، فذلك وجه جوازه . وإذا وُجّه الكلام إلى هذا الوجه كان قوله : فَكّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعامٌ تفسيرا لقوله : وَما أدْرَاكَ ما الْعَقَبَةُ كأنه قيل : وما أدراك ما العقبة ؟ هي فكّ رقبة أوْ إطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ كما قال جلّ ثناؤه : وَما أدْرَاكَ ماهِيَهْ ، ثم قال : نارٌ حامِيَةٌ مفسرا لقوله : وأُمّهُ هاوِيَةٌ ، ثم قال : وما أدراك ما الهاوية ؟ هي نار حامية .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَكُّ رَقَبَةٍ} (13)

ثم فسر اقتحام العقبة بقوله { فك رقبة } وذلك أن التقدير وما أدراك ما اقتحام العقبة ؟ هذا على قراءة من قرأ «فكُّ رقبة » بالرفع على المصدر ، وأما من قرأ «فكّ » على الفعل الماضي ونصب الرقبة ، فليس يحتاج أن يقدر { وما أدراك } ما اقتحام ، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها ، ويجيء «فكّ » بدلاً من { اقتحم } ومبيناً . وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة «فك رقبة أو إطعام » وقرأ أبو عمرو «فك رقبةً » بالنصب «أو أطعم » ، وقرأ بعض التابعين «فكِّ رقبة » بالخفض ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أيضاً والكسائي «فكِّ رقبة » بالنصب «أو إطعام » . وترتيب هذه القراءات ووجوهها بينة ، وفك الرقبة معناه : بالعتق من ربقة الأسر أو الرق ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : «من أعتق نسمة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار{[11836]} » . وقال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم : دلني على عمل أنجو به ، فقال : «لئن قصرت القول لقد عرضت المسألة فك رقبة ، وأعتق النسمة » ، فقال الأعرابي : أليس هما واحداً ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها » .

قال القاضي أبو محمد : وكذلك فك الأسير إن شاء الله ، وفداؤه أن ينفرد الفادي به ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي : «وأبق على ذي الرحم الظالم ، فإن لم تطق هذا كله ، فكف لسانك إلا من خير {[11837]} »


[11836]:أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري، ومسلم وابن مردويه، عن أبي هريرة وأخرج مثله ابن مردويه عن أبي نجيح السلمي. (الدر المنثور). وأبو نجيح هذا هو عمرو ابن عبسة السلمي رضي الله عنه.
[11837]:أخرجه أحمد، وابن حبان، وابن مردويه، والبيهقي، عن البراء، وفي الرواية التي ذكرها السيوطي في الدر المنثور (فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَكُّ رَقَبَةٍ} (13)

وقرأ نافع وابنُ عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخَلف ، { فك رقبة } برفع { فكُّ } وإضافتِه إلى { رقبة } ورفععِ { إطعام } عطفاً على { فكّ } .

وجملة : { فك رقبة } بيان للعقبة والتقدير : هي فكّ رقبة ، فحذف المسند إليه حذفاً لمتابعة الاستعمال . وتبيين العقبة بأنها : { فك رقبة أو إطعام } مبني على استعارة العقبة للأعمال الصالحة الشاقة على النفس . وقد علمت أن ذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس ، فلا وجه لتقدير من قدَّر مضافاً فقال : أي وما أدراك ما اقتحام العقبة .

وقرأه ابن كثير وأبو عَمرو والكسائي { فَكَّ } بفتح الكاف على صيغة فعل المضي ، وبنصب { رقبةً } على المفعول ل { فكَّ } أو « أطعم » بدون ألف بعد عين { إطعام } على أنه فعل مضي عطفاً على { فَكَّ } ، فتكون جملة : { فكَّ رقبةً } بياناً لجملة { فلا اقتحم العقبة } وما بينهما اعتراضاً ، أو تكون بدلاً من جملة { اقتحم العقبة } أي فلا اقتحم العقبة ولا فكَّ رقبةً أو أطعم . وما بينهما اعتراض كما تقرر آنفاً .

والفك : أخذ الشيء من يد من احتاز به .

والرقبة مراد بها الإنسان ، من إطلاق اسم الجزء على كله مثل إطلاق رأس وعيننٍ ووجهٍ ، وإيثار لفظ الرقبة هنا لأن المراد ذات الأسير أو العبد وأول ما يخطر بذهن الناظر لواحد من هؤلاء . هو رقبته لأنه في الغالب يوثَق من رقبته .

وأطلق الفك على تخليص المأخوذ في أسْرٍ أو مِلْك ، لمشابهة تخليص الأمر العسير بالنزع من يد القابض الممتنع .

وهذه الآية أصل من أصول التشريع الإِسلامي وهو تشوُّف الشارع إلى الحرية وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب « أصول النظام الاجتماعي في الإسلام » .