القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنّمَآ أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قال يعقوب للقائلين له من ولده تاللّهِ تَفْتَؤُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضًا أوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ : لست إليكم أشكو بثي وحزني ، وإنما أشكو ذلك إلى الله .
ويعني بقوله : إنّمَا أشْكُو بَثّي ما أشكو همي وَحُزْنِي إلاّ إلى اللّهِ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : إنّمَا أشْكُو بَثّي قال : ابن عباس : بثّي : همي .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : إنّمَا أشْكُو بَثّي قال : ابن عباس : بثّي : همي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال يعقوب عن علم بالله : إنّمَا أشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إلى اللّهِ وأعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ لما رأى من فظاظتهم وغلظتهم وسوء لفظهم له : لم أشك ذلك إليكم ، وأعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن : إنّمَا أشْكُو بَثّي وحُزْنِي إلى اللّهِ قال : حاجتي وحزني إلى الله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا هوذة بن خليفة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، مثله .
وقيل : إن البثّ أشدّ الحزن ، وهو عندي من بَثّ الحديث ، وإنما يراد منه : إنما أشكو خبري الذي أنا فيه من الهمّ ، وأبثّ حديثي وحزني إلى الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن : إنّمَا أشْكُو بَثّي قال : حزني .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن : إنّمَا أشْكُو بَثّي وَحُزُنِي قال : حاجتي .
وأما قوله : وأعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فإن ابن عباس كان يقول في ذلك فيما ذكر عنه ما :
حدثني به محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وأعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يقول : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سأسجد له .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : قالَ إنّمَا أشْكُو بثِيّ وحُزْنِي إلى اللّهِ وأعْلَمُ منَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ قال : لما أخبروه بدعاء الملك أحست نفس يعقوب ، وقال : ما يكون في الأرض صدّيق إلاّ نبيّ فطمع ، قال : لعله يوسف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قالَ إنّمَا أشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إلى اللّهِ الآية ، ذكر لنا أن نبيّ الله يعقوب لم ينزل به بلاء قطّ إلاّ أتى حسن ظنه بالله من ورائه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عيسى بن يزيد ، عن الحسن ، قال : قيل : ما بلغ وَجْدُ يعقوب على ابنه ؟ قال : وَجْد سبعين ثكلى . قال : فما كان له من الأجر ؟ قال : أجر مئة شهيد . قال : وما ساء ظنه بالله ساعة من ليل ولا نهار .
حدثنا به ابن حميد مرّة أخرى ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي معاذ ، عن يونس ، عن الحسن ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن المبارك بن مجاهد ، عن رجل من الأزد ، عن طلحة بن مصرّف الإيامي ، قال : ثلاثة لا تذكرهن واجتنب ذكرهن : لا تشك مرضك ، ولا تشك مصيبتك ، ولا تزك نفسك . قال : وأنبئت أن يعقوب بن إسحاق دخل عليه جار له ، فقال له : يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السنّ ما بلغ أبوك ؟ قال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف وذكره . فأوحى الله إليه : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ؟ فقال : يا ربّ خطيئة أخطأتها ، فاغفرها لي قال : فإني قد غفرت لك . وكان بعد ذلك إذا سئل ، قال : إنّمَا أشْكُو بَثّي وحُزْنِي إلى اللّهِ وأعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : ثني مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : بلغني أن يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على وجنتيه ، فكان يرفعهما بخرقة ، فقال له رجل : ما بلغ بك ما أرى ؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان . فأوحى الله إليه : يا يعقوب تشكوني ؟ قال : خطيئة فاغفرها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا ثور بن يزيد ، قال : دخل يعقوب على فرعون وقد سقط حاجباه على عينيه ، فقال : ما بلغ بك هذا يا إبراهيم ؟ فقالوا : إنه يعقوب ، فقال : ما بلغ بك هذا يا يعقوب ؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان . فقال الله : يا يعقوب أتشكوني ؟ فقال : يا ربّ خطيئة أخطأتها ، فاغفرها لي .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا هشام ، عن ليث بن أبي سليم ، قال : دخل جبرئيل على يوسف السجن ، فعرفه فقال : أيها الملك الحسن وجهه ، الطيبة ريحه ، الكريم عل ربه ، ألا تخبرني عن يعقوب أحيّ هو ؟ قال : نعم . قال : أيها الملك الحسن وجهه ، الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، فما بلغ من حزنه ؟ قال : حزن سبعين مثكلة . قال : أيها الملك الحسن وجهه ، الطيبة ريحه ، الكريم على ربه ، فهل في ذلك من أجر ؟ قال : أجر مئة شهيد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، قال : حُدثت أن جبرئيل أتى يوسف صلّى الله عليهما وسلم وهو بمصر في صورة رجل فلما رآه يوسف عرفه ، فقام إليه ، فقال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل لك بيعقوب من علم ؟ قال : نعم . قال : أيها الملك الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، فكيف هو ؟ قال : ذهب بصره . قال : أيها الملك الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، وما الذي أذهب بصره ؟ قال : الحزن عليك . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، فما أعْطِيَ على ذلك ؟ قال : أجر سبعين شهيدا .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال أبو شريح : سمعت من يحدّث أن يوسف سأل جبرئيل : ما بلغ من حزن يعقوب ؟ قال : حُزْنَ سبعين ثَكْلَى . قال : فما بلغ أجره ؟ قال : أجر سبعين شهيدا .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني نافع بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، قال : دخل جبرئيل على يوسف في البئر أو في السجن ، فقال له يوسف : يا جبرئيل ، ما بلغ حزن أبي ؟ قال : حزن سبعين ثكلى . قال : فما بلغ أجره من الله ؟ قال : أجر مئة شهيد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل ، قال : سمعت وهب بن منبه يقول : أتى جبرئيل يوسف بالبشرى وهو في السجن ، فقال : هل تعرفني أيها الصّدّيق ؟ قال : أرى صورة طاهرة وروحا طيبة لا تشبه أرواح الخاطئين . قال : فإني رسول ربّ العالمين ، وأنا الروح الأمين . قال : فما الذي أدخلك عليّ مُدْخَل المذنبين ، وأنت أطيب الطيبين ، ورأس المقرّبين ، وأمين ربّ العالمين ؟ قال : ألم تعلم يا يوسف أنّ الله يطهر البيوت بطهر النبيين ، وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأرضين ، وأن الله قد طهر بك السجن وما حوله يا طهر الطاهرين وابن المطهرين ؟ إنما يتطهر بفضل طهرك وطهر آبائك الصالحين المخلصين . قال : كيف لي باسم الصدّيقين ، وتعدني من المخلصين ، وقد أدخلت مدخل المذنبين ، وسميت بالضالين المفسدين ؟ قال : لم يفتتن قلبك ، ولم تطع سيدتك في معصية ربك ، ولذلك سماك الله في الصدّيقين ، وعدّك من المخلصين ، وألحقك بآبائك الصالحين . قال : لك علم بيعقوب أيها الروح الأمين ؟ قال : نعم ، وهبه الله الصبر الجميل ، وابتلاه بالحزن عليك ، فهو كظيم . قال : فما قدر حزنه ؟ قال : حزن سبعين ثكلى . قال : فماذا له من الأجر يا جبرائيل ؟ قال : قدر مئة شهيد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن ثابت البناني ، قال : دخل جبرئيل على يوسف في السجن ، فعرفه يوسف ، قال : فأتاه فسلم عليه ، فقال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل لك من علم بيعقوب ؟ قال : نعم . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل تدري ما فعل ؟ قال : ابيضت عيناه . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، ممّ ذاك ؟ قال : من الحزن عليك ، قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، وما بلغ من حزنه ؟ قال : حزن سبعين مثكلة . قال : أيها الملك الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، هل له على ذلك من أجر ؟ قال : نعم أجر مئة شهيد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن فسلم عليه ، وجاء في صورة رجل حسن الوجه طيب الريح نقيّ الثياب ، فقال له يوسف : أيها الملك الحسن وجهه ، الكريم على ربه ، الطيب ريحه ، حدّثني كيف يعقوب ؟ قال : حَزِن عليك حزنا شديدا . قال : وما بلغ من حزنه ؟ قال : حزن سبعين مُثْكَلة . قال : فما بلغ من أجره ؟ قال : أجر سبعين أو مئة شهيد . قال يوسف : فإلى من أَوَى بعدي ؟ قال : إلى أخيك بنيامين . قال : فتراني ألقاه أبدا ؟ قال : نعم . فبكى يوسف لِما لَقِيَ أبوه بعده ، ثم قال : ما أبالي ما لقيت إنِ اللّهُ أرانيه .
قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، قال : أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن ، فسلم عليه ، فقال له يوسف : أيها الملك الكريم على ربه ، الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، هل من علم بيعقوب ؟ قال : نعم ما أشدّ حزنه قال : أيها الملك الكريم على ربه ، الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، ماذا له من الأجر ؟ قال : أجر سبعين شهيدا . قال : أفتراني لاقيه ؟ قال : نعم . قال : فطابت نفس يوسف .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما دخل يعقوب على الملك وحاجباه قد سقطا على عينيه ، قال الملك : ما هذا ؟ قال : السنون والأحزان أو الهموم والأحزان ، فقال ربه : يا يعقوب لم تشكوني إلى خلقي ، ألم أفعل بك وأفعل ؟ .
حدثنا حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن على الملك وحاجباه قد سقطا على عينيه ، قال الملك : ما هذا ؟ قال : السنون والأحزان أو الهموم والأحزان ، فقال ربه : يا يعقوب لم تشكوني إلى خلقي ، ألم أفعل بك وأفعل ؟ .
حدثنا حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عنل : كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب إلى يوم رجع ثمانون سنة ، لم يفارق الحزنُ قلبه ، يبكي حتى ذهب بصره . قال الحسن : والله ما على الأرض يومئذٍ خليقة أكرم على الله من يعقوب صلى الله عليه وسلم .
فأجابهم يعقوب عليه السلام رادّاً عليهم : أي أني لست ممن يجزع ويضجر فيستحق التعنيف ، وإنما أشكو إلى الله ، ولا تعنيف في ذلك . و «البث » ما في صدر الإنسان مما هو معتزم أنه يبثه وينشره ، وأكثر ما يستعمل «البث » في المكروه ، وقال أبو عبيدة وغيره : «البث »{[6795]} أشد الحزن ، وقد يستعمل «البث » في المخفي على الجملة ومنه قول المرأة في حديث أم زرع : ولا يولج الكف ليعلم «البث » ، ومنه قولهم : أبثك حديثي{[6796]} .
وقرأ عيسى : «وحَزَني » بفتح الحاء والزاي .
وحكى الطبري بسند : أن يعقوب دخل على فرعون وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، فقال له فرعون : ما بلغ بك هذا يا إبراهيم ؟ فقالوا : إنه يعقوب ، فقال : ما بلغ بك هذا يا يعقوب ؟ قال له : طول الزمان وكثرة الأحزان ، فأوحى الله إليه : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ؟ فقال : يا رب خطيئة فاغفرها لي ، وأسند الطبري إلى الحسن قال : كان بين خروج يوسف عن يعقوب إلى دخول يعقوب على يوسف ثمانون سنة ، لم يفارق الحزن قلبه ، ولم يزل يبكي حتى كف بصره ، وما في الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب . وقوله : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } يحتمل أنه أشار إلى حسن ظنه بالله وجميل عادة الله عنده ، ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة أو إلى ما وقع في نفسه عن قول ملك مصر : إني أدعو له برؤية ابنه قبل الموت ، وهذا هو حسن الظن الذي قدمناه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} لهم أبوهم: {إنما أشكوا بثي}، يعني ما بثه في الناس، {وحزني}، يعني ما بطن، {إلى الله وأعلم من الله}، يعني من تحقيق رؤيا يوسف أنه كائن، {ما لا تعلمون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال يعقوب للقائلين له من ولده "تاللّهِ تَفْتَؤُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضًا أوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ": لست إليكم أشكو بثي وحزني، وإنما أشكو ذلك إلى الله.
ويعني بقوله: "إنّمَا أشْكُو بَثّي "ما أشكو همي "وَحُزْنِي إلاّ إلى اللّهِ"...
عن ابن إسحاق، قال: قال يعقوب عن علم بالله: "إنّمَا أشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إلى اللّهِ وأعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ" لما رأى من فظاظتهم وغلظتهم وسوء لفظهم له: لم أشك ذلك إليكم، "وأعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ".
وقيل: إن البثّ أشدّ الحزن، وهو عندي من بَثّ الحديث، وإنما يراد منه: إنما أشكو خبري الذي أنا فيه من الهمّ، وأبثّ حديثي وحزني إلى الله...
وأما قوله: "وأعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ" فإن ابن عباس كان يقول في ذلك:... أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سأسجد له...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
البث أشد الحزن، لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثه أي يشكوه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا حكاية ما أجاب به يعقوب بنيه لما قالوا له ما تقدم ذكره، أي إنما أشكو، والشكوى صفة ما يجده من البلوى، وإنما وصف (ع) ذلك لله طلبا للفرج من جهته، والبث تفريق الهم بإظهاره عن القلب...
وقوله "وأعلم من الله ما لا تعلمون "قيل في معناه قولان:...
والثاني: قال قتادة: أعلم من إحسان الله عز وجل الي ما يوجب حسن ظني به، وإنما جاز على يعقوب وهو نبي، أن يبكي حتى تبيض عيناه من الحزن، لأن عظم المصيبة يهجم على النفس حتى لا يملك معه القرار بالصبر حتى يرتفع الحزن، مع أنه على ولد لا كالأولاد، في جماله، وعقله، وعفافه، وعلمه، وأخلاقه، وبره، من غير تأس يوجب السلوة، ولا رجاء يقرب الحال الجامعة، ومع هذا فلم يكن منه إلا ما يوجب الأجر العظيم والثواب الجزيل الكريم، والبكاء ليس بممنوع منه في الشرع، وإنما الممنوع اللطم، والخدش، والجز، وتخريق الثياب، والقول الذي لا يسوغ، وكل ذلك لم يكن منه (ع). وإنما جاز أن يخفى خبر يوسف على يعقوب مع قرب المسافة بينهما، لأن يوسف كان بمصر ويعقوب بأرض الجزيرة من أرض حران، ولم يعرف يوسف أباه مكانه ليزول همه، لأنه في تلك المدة كان بين شغل وحجر على ما توجبه سياسة الملك، وبين حبس في السجن، لأنه مكث فيه سبع سنين لما محن به من امرأة العزيز، فلما تمكن من التدبير تلطف في ذلك لئلا يكون من أخوته حال تكره في إيصال خبره إلى أبيه لشدة ما ينالهم من التهجين في أمره إذا وقف على خبره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
شكا إلى الله ولم يَشْكُ مِنَ اللَّهِ، ومَنْ شكا إلى الله وَصَلَ، ومن شكا من الله انفصل. ويقال لمَّا شكا إلى الله وَجَدَ الخَلَفَ من الله. ويقال كان يعقوبُ -عليه السلام- مُتَحَمِّلاً بنفسه وقلبه، ومستريحاً محمولاً بِسِرِّه وروحه؛ لأنه عَلِمَ من الله -سبحانه- صِدقَ حالِه فقال: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(وأعلم من الله ما لا تعلمون) يعني: أعلم من حياة يوسف ما لا تعلمون، وقيل: أعلم من تحقيق رؤيا يوسف ما لا تعلمون، فإن قال قائل: كيف بكى يعقوب كل هذا البكاء وحزن هذا الحزن، وهل أصيب إلا بفقد ولد واحد، أفما كان عليه أن يسلم الأمر إلى الله تعالى ويصبر؟ الجواب عنه: أنه امتحن في هذا بما لم يمتحن به غيره، ولم يسأل عن يوسف مع طول الزمان، وكان ابتلاؤه فيه أنه لم يعلم حياته فيرجو رؤيته، ولم يعلم موته فيسأل عنه، وكان يوسف من بين سائر الإخوة خص بالجمال الكامل والعقل وحسن الخلق وسائر ما يميل القلب إليه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فأجابهم يعقوب عليه السلام رادّاً عليهم: أي أني لست ممن يجزع ويضجر فيستحق التعنيف، وإنما أشكو إلى الله، ولا تعنيف في ذلك. و «البث» ما في صدر الإنسان مما هو معتزم أنه يبثه وينشره، وأكثر ما يستعمل «البث» في المكروه، وقال أبو عبيدة وغيره: «البث» أشد الحزن...
{وأعلم من الله ما لا تعلمون} يحتمل أنه أشار إلى حسن ظنه بالله وجميل عادة الله عنده، ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة أو إلى ما وقع في نفسه عن قول ملك مصر: إني أدعو له برؤية ابنه قبل الموت، وهذا هو حسن الظن الذي قدمناه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
إني لا أشكو ما بي إليكم أو إلى غيركم حتى تتصدّوا لتسليتي وإنما أشكو همي {وحزني إِلَى الله} تعالى ملتجئاً إلى جنابه متضرِّعاً لدى بابه في دفعه...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
البث في الأصل: إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب، واستعمل في الغم الذي لا يطيق صاحبه الصبر عليه كأنه ثقل عليه فلا يطيق حمله وحده فيفرقه على من يعينه... {وَأَعْلَمُ مِنَ الله} من لطفه ورحمته {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب رجائي...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذه الكلمات يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية في هذا القلب الموصول؛ كما تتجلى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر، ولألائها الباهر. إن هذا الواقع الظاهر الميئس من يوسف، وهذا المدى الطويل الذي يقطع الرجاء من حياته فضلا على عودته إلى أبيه، واستنكار بنيه لهذا التطلع بعد هذا الأمد الطويل في وجه هذا الواقع الثقيل. إن هذا كله لا يؤثر شيئا في شعور الرجل الصالح بربه. فهو يعلم من حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلم هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة بذلك الواقع الصغير المنظور! وهذه قيمة الإيمان بالله، ومعرفته سبحانه هذا اللون من المعرفة. معرفة التجلي والشهود وملابسة قدرته وقدره، وملامسة رحمته ورعايته، وإدراك شأن الألوهية مع العبيد الصالحين. إن هذه الكلمات: (وأعلم من الله ما لا تعلمون) تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها. وتعرض مذاقا يعرفه من ذاق مثله، فيدرك ماذا تعني هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
البَثّ: الهمّ الشديد، وهو التفكير في الشيء المُسيء. والحزن: الأسف على فائت. فبينَ الهمّ والحزنِ العمومُ والخصوص الوجهي، وقد اجتمعا ليعقوب عليه السلام لأنه كان مهتماً بالتفكير في مصير يوسف عليه السلام وما يعترضه من الكرب في غربته وكان آسفاً على فراقه. وقد أعقب كلامه بقوله: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} لينبّههم إلى قصور عقولهم عن إدراك المقاصد العَالية ليعلموا أنهم دون مرتبة أن يعلّموه أو يلوموه، أي أنا أعلم علماً من عند الله علّمنيه لا تعلمونه وهو علم النبوءة... وفي هذا تعريض برد تعرضهم بأنه يطمع في المحال بأن ما يحسبونه محالاً سيقع...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
البث الهم العارض الذي لا يمكنني الصبر عليه، وينتشر في كل نفسي، ويسد علي أسباب السرور،والحزن ما يكون في النفس من الآلام الدفينة، وقد كان حزنه على يوسف قديما، وبثوا إليه هما آخر هو في ولديه شقيق يوسف وكبيرهم، و (إنما) من أدوات الحرص، أي أنه لا يشكو همومه العارضة، وأحزنه الدفينة إليكم، بل يشكوها إلى الله وحده.
{وأعلم من الله ما لا تعلمون}، هذه الجملة تحوي في نفسه كل الرجاء الذي يرجوه والأمل الذي يأمله، وفيه دلالة على أنه يعلم أن الله كاشف كربه، مزيل همه، وهو من علم الله تعالى، لا من علم أحد، يعلمه بالإلهام أولا، وبرجائه في الله ثانيا، وبرؤيا يوسف الصادقة ثالثا، ففيها أنه رأى الشمس والقمر واحد عشر كوكبا له ساجدين، وتأويل الرؤيا أن يكون في ظل يوسف، وهو في عز مكين، وإن ذلك واقع لا محالة. وقد بني على هذا الأمل، وذلك الرجاء أن كلفهم بالبحث عن يوسف وأخيه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولكنه جابههم بأن الأمر لا يعنيهم، وهو لا يشكو إليهم أمره، لأنهم لا يفهمون مشاعره وآلامه أولاً، ولا يستطيعون أن يقدّموا له شيئاً ثابتاً، بل يشكو أمره إلى من يسمع شكواه ويملك أن يحل مشكلته، {قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي} وهو الهمّ الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه، {وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} لأن معرفتي بالله، وما يفيضه على عباده من رحمته، وما يتّسع له لطفه، يجعلني كبير الثقة بمصير يوسف، لأنه إذا ابتعد عن رعايتي له، فإن رعاية الله ولطفه يفوق كل ما أختزنه له في قلبي من حبٍّ ورحمة. وإذا كنت أحزن، أو أعيش الهمّ، فلأن جانب الضعف في الإنسان يخلق لديه، من خلال التفكير بالتفاصيل، مشاعر سلبية تثير شجونه، وتدمّر استقراره النفسي. وهكذا بدأ الأمل يخضرّ في نفسه، وينمو مع روحانية الحديث الذي كان يعيشه في مناجاته لله، حتى كاد أن يلامس مصير يوسف المشرق، كما لو كان يراه. ولهذا طلب من أولاده، أن يعودوا إلى مصر من جديد ليبحثوا عنه، حيث تركوا أخاه، لأن في داخله إحساساً لا يعرف حقيقته، بأن يوسف قد التقى بأخيه، وأنّه من الممكن أن يجدوه حيث يوجد أخوه...