الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{قَالَ إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (86)

وقال يعقوب عند ذلك لمّا رأى غلظتهم وسوء لفظهم ، { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } لا إليكم ، قال المفسّرون دخل على يعقوب جار له فقال : يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك ؟ قال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من مُصاب يوسف ، فأوحى الله إليه : يا يعقوب تشكوني إلى خلقي ؟ قال : يا ربّ خطيئة أخطأتها فاغفر لي ، قال : فإنّي قد غفرتها لك وكان بعد ذلك إذا سُئل قال : إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله .

وقال حبيب بن أبي ثابت : بلغني أنّ يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على عينيه ، وكان يرفعهما بخرقة ، فقال له رجل : ما بلغ بك ما أرى ؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان .

فأوحى الله إليه : يا يعقوب تشكوني ، فقال : خطيئة أخطأتها فاغفرها لي .

وعن عبدالله بن قميط ، قال : سمعت أبي يقول : بلغنا أنّ رجلا قال ليعقوب ( عليه السلام ) : ما الذي أذهب بصرك ؟ قال : حزني على يوسف ، قال : فما الذي قوّس ظهرك ؟ قال : حزني على أخيه ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا يعقوب أتشكوني ؟ وعزّتي وجلالي لو كانا ميّتين لأخرجتهما لك حتى تنظر إليهما ، وإنّما وجدت عليكم أنّكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين فلم تطعموه شيئاً ، وأنّ أحبّ خلقي إليّ الأنبياء ثمّ المساكين ، فاصنع طعاماً وادعُ إليه المساكين ، فصنع طعاماً ، ثمّ قال : من كان صائماً فليفطر الليلة عند آل يعقوب .

وروى أبو عمران عن أبي الخلد ووهب بن منبه ، قالا : أوحى الله تعالى إلى يعقوب : تدري لم عاقبتك وغيّبت عنك يوسف وبنيامين ؟ قال : لا إلهي ، قال : لأ نّك شويت عتاقاً وقترت على جارك ، وأكلت ولم تطعمه ، ويقال : إنّ سبب ابتلاء يعقوب بفقد يوسف ، أنّه كانت له بقرة ولها عجول فذبح عجولها بين يديها ، وإنّما كانت تخور فلم يرحمها ، فأخذه الله به وابتلاه بفقد يوسف أعزّ ولده .

وقال وهب بن منبه والسدّي وغيرهما : أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن ، فقال : هل تعرفني أيّها الصدّيق ؟ قال : أرى صورة طاهرة وريحاً طيّبة ، قال : فإنّي رسول ربّ العالمين ، وأنا الروح الأمين ، قال : فما الذي أدخلك حبس المذنبين وأنت أطيب الطيّبين ، ورأس المقرّبين ، وأمين ربّ العالمين ؟ قال : ألم تعلم يا يوسف أنّ الله يُطهّر البيوت لهؤلاء الطيّبين ، وأنّ الأرض التي تدخلونها هي أطهر الأرضين ، وأنّ الله قد طهّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين ؟

قال : كيف لي بابن الصدّيقين وتعدّني من المخلصين ، وقد أدخلت مدخل المُذنبين ، سمّيت باسم المفسدين ؟ قال : لأنّه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربّك فلذك سمّاك الله في الصدّيقين ، وعدّك مع المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين ، قال : هل لك علم بيعقوب أيّها الروح الأمين ؟ قال : نعم وهب الله له البلاء الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم ، قال : فما قدر حزنه ؟ قال : حزن سبعين ثكلى ، قال : فماذا له من الأجر يا جبرئيل ؟ قال : أجر مائة شهيد ، قال : أفتراني لاقيه ؟ قال : نعم ، فطابت نفس يوسف ، قال : ما أُبالي ما ألفيته أن رأيته .

وأمّا قوله بثّي فالبثّ : أشدّ الحزن سُمّي بذلك لأنّ صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه أي يُظهره ، يقال : بثّ ، يبثّ فهو باثّ وأبثّ [ يأبثه أبثاً ] يُبثّ فهو مُبثّ إذا أظهره قال ذو الرمّة :

وقفتُ على ربع لميّة ناقتي *** فما زلتُ أبكي عندهُ وأُخاطبه

وأسقيه حتى كاد ممّا أبُثّه *** تكلّمني أحجاره وملاعبه

وقال الحسن : بثّي أي حاجتي ، وقال محمّد بن القاسم الأنباري : البثّ : التفرق ، وقال محمّد بن إسحاق : معناه : إنّما أشكو حزني الذي أنا فيه إلى الله ، وهو من بثّ الحديث .

{ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال ابن عباس : يقول أعلم أنّ رؤيا يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له ، وقال آخرون : وأعلم أنّ يوسف حيّ .

قال السدّي : لما أخبره ولده بسيرة الملك وقوله أحسّت نفس يعقوب فطمع وقال : لعلّه يوسف ، ويروى أنّه رأى الملك في المنام فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ قال : لا والله ، وهو حيّ .

ويقال : أرسل الله إليه ذئباً فسلّم عليه وكلّمه ، فقال له يعقوب : أكلت ابني وقّرة عيني وثمرة فؤادي ؟ قال : قد والله علمتَ يا يعقوب أنّ لحوم الأنبياء وأولاد الأنبياء علينا حرام ، فلذلك قال لبنيه : { يبَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ }