{ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } . .
يعني بذلك تعالى ذكره : والله يريد أني يراجع بكم طاعته ، والإنابة إليه ، ليعفو لكم عما سلف من آثامكم ، ويتجاوز لكم عما كان منكم في جاهليتكم من استحلالكم ما هو حرام عليكم من نكاح حلائل آبائكم وأبنائكم ، وغير ذلك مما كنت تستحلونه وتأتونه ، مما كان غير جائز لكم إتيانه من معاصي الله { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَواتِ } يقول : يريد الذين يطلبون لذات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها ، أن تميلوا عن أمر الله تبارك وتعالى ، فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرّم عليكم وركوبكم معاصيه { مَيْلاً عَظِيما } جورا وعدولاً عنه شديدا .
واختلف أهل التأويل في الذين وصفهم الله بأنه يتبعون الشهوات ، فقال بعضهم : هم الزناة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ } قال : الزنا . { أنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيما } قال : يريدون أن تزنوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ أنْ تَميلُوا مَيْلاً عَظِيما } أن تكونوا مثلهم تزنون كما يزنون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَواتِ } قال : الزنا . { أنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيما } قال : يزني أهل الإسلام كما يزنون . قال : هي كهيئة { وَدّوا لَوْتُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ } قال : الزنا . { أنْ تَمِيلُوا } قال : أن تزنوا .
وقال آخرون : بل هم اليهود والنصارى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ } قال : هم اليهود والنصارى¹ { أنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيما } .
وقال آخرون : بل هم اليهود خاصة ، وكانت إرادتهم من المسلمين اتباع شهواتهم في نكاح الأخوات من الأب ، وذلك أنهم يحلون نكاحهنّ ، فقال الله تبارك وتعالى للمؤمنين : ويريد الذين يحللون نكاح الأخوات من الأب ، أن تميلوا عن الحقّ ، فتستحلوهنّ كما استحلوا .
وقال آخرون : معنى ذلك : كل متبع شهوة في دينه لغير الذي أبيح له . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ } . . . الاَية ، قال : يريد أهل الباطل وأهل الشهوات في دينهم ، { أنْ تَمِيلُوا } في دينكم { مَيْلاً عَظِيما } تتبعون أمر دينهم ، وتتركون أمر الله وأمر دينكم .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ويريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل ، وطلاب الزنا ، ونكاح الأخوات من الاَباء ، وغير ذلك مما حرّمه الله أن تميلوا ميلاً عظيما عن الحقّ ، وعما أذن الله لكم فيه ، فتجوروا عن طاعته إلى معصيته ، وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم فيما حرّم الله وترك طاعته ، ميلاً عظيما .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله : { ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ } فوصفهم باتباع شهوات أنفسهم المذمومة ، وعمهم بوصفهم بذلك من غير وصفهم باتباع بعض الشهوات المذمومة . فإذ كان ذلك كذلك ، فأولى المعاني بالاَية ما دلّ عليه ظاهرها دون باطنها الذي لا شاهد عليه من أصل أو قياس . وإذ كان ذلك كذلك كان داخلاً في الذين يتبعون الشهوات اليهود والنصارى والزناة وكل متبع باطلاً ، لأن كل متبع ما نهاه الله عنه فمتبع شهوة نفسه . فإذ كان ذلك بتأويل الاَية أولى ، وجبت صحة ما اخترنا من القول في تأويل ذلك .
{ والله يريد أن يتوب عليكم } كرره للتأكيد والمبالغة . { ويريد الذين يتبعون الشهوات } يعني الفجرة فإن اتباع الشهوات الائتمار لها ، وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له في الحقيقة لا لها . وقيل : المجوس . وقيل : اليهود فإنهم يحلون الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت . { أن تميلوا } عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات . { ميلا عظيما } بالإضافة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندور غير مستحل لها .
وتكرار إرادة الله تعالى التوبة على عباده تقوية للإخبار الأول ، وليس المقصد في هذه الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات ، فقدمت إرادة الله توطئة ، مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات ، واختلف المتأولون في متبعي الشهوات ، فقال مجاهد : هم الزناة ، وقال السدي : هم اليهود والنصارى ، وقالت فرقة : هم اليهود خاصة ، لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب ، وقال ابن زيد : ذلك على العموم في هؤلاء ، وفي كل متبع شهوة ، ورجحه الطبري ، وقرأ الجمهور «ميْلاً » بسكون الياء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «مَيلاً » بفتح الياء .
كرّر قوله : { والله يريد أن يتوب عليكم } ليرتّب عليه قوله : ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً فليس بتأكيد لفظي ، وهذا كما يعاد اللفظ في الجزاء والصفة ونحوها ، كقول الأحوص في الحماسة .
فَإذا تَزُول تَزُولُ عن متخمّط *** تُخشَى بَوَادِرُه على الأقْران
وقوله تعالى : { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [ القصص : 63 ] والمقصد من التعرُّض لإرادة الذين يتّبعون الشهوات تنبيهُ المسلمين إلى دخائل أعدائهم ، ليعلموا الفرق بين مراد الله من الخلق . ومراد أعوان الشياطين ، وهم الذين يتّبعون الشهوات . ولذلك قُدّم المسند إليه على الخَبر الفِعْلي في قوله : { والله يريد أن يتوب عليكم } ليدلّ على التخصيص الإضافي . أي الله وحده هو الذي يريد أن يتوب عليكم ، أي يحرّضكم على التوبة والإقلاع عن المعاصي ، وأمّا الذين يتّبعون الشهوات فيريدون انصرافكم عن الحقّ ، وميلكم عنه إلى المعاصي . وإطلاقُ الإرادة على رغبة أصحاب الشهوات في ميْل المسلمين عن الحقّ لمشاكلة { يريد الله ليبين لكم } [ النساء : 26 ] . والمقصود : ويحبّ الذين يتّبعون الشهوات أن تميلوا . ولمّا كانت رغبتهم في ميل المسلمين عن الحقّ رغبة لا تخلو عن سعيهم لحصول ذلك ، أشبهت رغبتُهم إرادة المريد للفعل ، ونظيره قوله تعالى بعد هذه الآية { يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل } [ النساء : 44 ] .
وحذف متعلّق { تميلوا } لظهوره من قرينة المقام ، وأراد بالذين يتّبعون الشهوات الذين تغلبهم شهواتهم على مخالفة ما شرعه الله لهم : من الذين لا دين لهم ، وهم الذين لا ينظرون في عواقب الذنوب ومفاسدها وعقوبتها ، ولكنّهم يرضون شَهَواتهم الداعية إليها . وفي ذكر هذه الصلة هنا تشنيع لحالهم ، ففي الموصول إيماء إلى تعليل الخبر . والمراد بهم المشركون : أرادوا أن يتّبعهم المسلمون في نكاح أزواج الآباء ، واليهودُ أرادوا أن يتّبعوهم في نكاح الأخوات من الأب ونكاح العمّات والجمع بين الأختين . والميلُ العظيم هو البعد عن أحكام الشرع والطعن فيها . فكان المشركون يحبّبون للمسلمين الزنى ويعرضون عليهم البغايا . وكان المجوس يطعنون في تحريم ابنةِ الأخ وابنة الأخت ويقولون : لماذا أحلّ دينكم ابنة العمّة وابنة الخالة . وكان اليهود يقولون : لا تحرم الأخت التي للأب ولا تحرم العمّة ولا الخالة ولا العّم ولا الخال . وعبّر عن جميع ذلك بالشهوات لأنّ مجيء الإسلام قد بيّن انتهاء إباحة ما أبيح في الشرائع الأخرى ، بله ما كان حراماً في الشرائع كلّها وتساهل فيه أهل الشرك .