القول في تأويل قوله تعالى : { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىَ * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوَاْ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً لّعَلّيَ آتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مسليه عما يلقى من الشدّة من مشركي قومه ، ومعرفه ما إليه صائر أمره وأمرهم ، وأنه معليه عليهم ، وموهن كيد الكافرين ، ويحثه على الجدّ في أمره ، والصبر على عبادته ، وأن يتذكر فيما ينوبه فيه من أعدائه من مُشركي قومه وغيرهم ، وفيما يزاول من الاجتهاد في طاعته ما ناب أخاه موسى صلوات الله عليه من عدوّه ، ثم من قومه ، ومن بني إسرائيل وما لقي فيه من البلاء والشدّة طفلاً صغيرا ، ثم يافعا مترعرعا ، ثم رجلاً كاملاً : وَهَل أتاكَ يا محمد حَدِيثُ مُوسَى ابن عمران إذْ رأى نارا ؟ ذكر أن ذلك كان في الشتاء ليلاً ، وأن موسى كان أضلّ الطريق فلما رأى ضوء النار قالَ لأَهْلِهِ ما قال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : لما قضى موسى الأجل ، سار بأهله فضلّ الطريق . قال عبد الله بن عباس : كان في الشتاء ، ورُفعت لهم نار فلما رآها ظنّ أنها نار ، وكانت من نور الله قالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إنّي آنَسْتُ نارا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه اليماني ، قال : لما قضى موسى الأجل ، خرج ومعه غنم له ، ومعه زند له ، وعصاه في يده يهشّ بها على غنمه نهارا ، فإذا أمسى اقتدح بزنده نارا ، فبات عليها هو وأهله وغنمه ، فإذا أصبح غدا بأهله وبغنمه ، فتوكأ على عصاه ، فلما كانت الليلة التي أراد الله بموسى كرامته ، وابتداءه فيها بنبوّته وكلامه ، أخطأ فيه الطريق حتى لا يدري أين يتوجه ، فأخرج زنده ليقتدح نارا لأهله ليبيتوا عليها حتى يصبح ، ويعلم وجه سبيله ، فأصلد زنده فلا يوري له نارا ، فقدح حتى أعياه ، لاحت النار فرآها ، فقَالَ لأهلهِ امْكُثُوا إنّي آنَسْتُ نارا لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْها بقَبَسٍ أوْ أجِدُ عَلى النّارِ هُدًى . وعنى بقوله : آنَسْتُ نارا وجدت ، ومن أمثال العرب : بعد اطلاع إيناس ، ويقال أيضا : بعد طلوع إيناس ، وهو مأخوذ من الأنس .
وقوله : " لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْها بقَبسٍ " يقول : لعلي أجيئكم من النار التي آنست بشُعْلة . والقَبَس : هو النار في طَرَف العود أو القصبة . يقول القائل لصاحبه : أقبسني نارا ، فيعطيه إياها في طرف عود أو قصبة . وإنما أراد موسى بقوله لأهله : " لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْها بقَبَسٍ " لعلي آتيكم بذلك لتصطلوا به ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه " لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ " قال : بقبس تَصْطَلون .
وقوله : " أوْ أجِدُ عَلى النّارِ هُدًى " دلالة تدلّ على الطريق الذي أضللناه ، إما من خبر هاد يهدينا إليه ، وإما من بيان وعلم نتبينه به ونعرفه . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " أوْ أجِدُ عَلى النّارِ هُدًى " يقول : من يدلّ على الطريق .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " أوْ أجِدُ عَلى النّارِ هُدًى " قال : هاديا يهديه الطريق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " أوْ أجِدُ عَلى النّارِ هُدًى " : أي هداة يهدونه الطريق .
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدّث ، عن قتادة ، عن صاحب له ، عن حديث ابن عباس ، أنه زعم أنها أَيلة أوْ أجِدُ عَلى النّارِ هُدًى . وقال أبيّ : وزعم قتادة أنه هدى الطريق .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " أوْ أجِدُ عَلى النّارِ هُدًى " قال : من يهديني إلى الطريق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن وهب بن منبه أوْ أجِدُ عَلى النّارِ هُدًى قال : هدى عن علم الطريق الذي أضللنا بنعت من خبر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، قال : قال ابن عباس " لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أوْ أجِدُ عَلى النّارِ هُدًى " قال : كانوا أضلوا عن الطريق ، فقال : لعلي أجد من يدلني على الطريق ، أو آتيكم بقبس لعلكم تصطلون .
{ إذ رأى نارا } ظرف ل { حديث } لأنه حدث أو مفعول لا ذكر . قيل إنه استأذن شعيبا عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمه ، وخرج بأهله فلما وافى وادي طوى وفيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة ، وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته إذ رأى من جانب الطور نارا . { فقال لأهله امكثوا } أقيموا مكانكم . وقرأ حمزة " لأهله امكثوا ها هنا " وفي " القصص " بضم الهاء في الوصل والباقون بكسرها . { إني آنست نارا } أبصرتها إبصارا لا شبهة فيه ، وقيل الإيناس إبصار ما يؤنس به . { لعلي آتيكم منها بقبس } بشعلة من النار وقيل جمرة . { أو أجد على النار هدى } هاديا يدلني على الطريق أو يهديني أبواب الدين ، فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في كل ما يعن لهم . ولما كان حصولهما مترقبا بني الأمر فيهما على الرجاء بخلاف الإيناس ، فإنه كان محققا ولذلك حققه لهم ليوطنوا أنفسهم عليه ، ومعنى الاستعلاء في { على النار } أن أهلها مشرفون عليها أو مستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في : مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب منه .
{ إذ رأى ناراً } أو نحو هذا ، وكان من قصة موسى عليه السلام أنه رحل من مدين بأهله بنت شعيب وهو يريد أرض مصر وقد طالت مدة جنايته هنالك فرجا خفاء أمره ، وكان فيما يزعمون رجلا غيورا ، فكان يسير الليل بأهله ولا يسير النهار مخافة كشفة الناس ، فضل عن طريقه في ليلة مظلمة وندية ويروى أنه فقد الماء فلم يدر أين يطلبه فبينما هو كذلك وقد قدح بزنده فلم يور شيئاً { إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا } أي أقيموا ، وذهب هو إلى النار فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة قيل كانت من عناب ، وقيل من عوسج ، وقيل من عليقة ، فلما دنا منها تباعدت منه ومشت ، فإذا رجع عنها اتبعته فلما رأى ذلك أيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة ، وانقضى أمره كله في تلك الليلة ، هذا قول الجمهور ، وهوالحق ، وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : أقام في ذلك الأمر حولاً ومكثه أهله ع : وهذا غير صحيح عن ابن عباس وضعيف في نفسه . و { آنست } معناه أحسست ومنه قول الحارث بن حلزة : [ الخفيف ]
آنست نبأة وروعها القَنْ . . . ناص ليلاً وقد دنا الإمساء{[1]}
والنار على البعد لا تحس إلا بالأبصار ، فلذلك فسر بعضهم اللفظ ب رأيت ، و «آنس » أعم من { رأى } لأنك تقول آنست من فلان خيراً أو شراً . و «القبس » الجذوة من النار تكون على رأس العود أو القصبة أو نحوه ، و «الهدى » أراد الطريق ، أي لعلي أجد ذا هدى أي مرشداً لي أو دليلا ، وان لم يكن مخبراً . و «الهدى » يعم هذا كله وإنما رجا موسى عليه السلام هدى نازلته فصادف الهدى على الإطلاق ، وفي ذكر قصة موسى بأسرها في هذه السورة تسلية للنبي عما لقي في تبليغه من المشقات وكفر الناس فإنما هي له على جهة التمثيل في أمره . وروي عن نافع وحمزة «لأهلهُ امكثوا » بضمة الهاء وكذلك في القصص{[2]} ، وكسر الباقون الهاء فيهما .