قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ . . . } الآية نزلت فى عمر بن الخطاب . وذلك أن رجلا من العرب شتمه ، وسبه عمر وهَمَّ بقتله ، فكادت تثير فتنة ، فأنزل الله فيه : { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ } .
وقيل : " نزلت لما قال المسلمون : ائذن لنا يا رسول الله فى قتال المشركين ، فقد طال إيذاؤهم لنا فقال : " لم أومر بعد بالقتال " " .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المؤمنين ، أن يقولوا عند محاورتهم لغيرهم ، الكلمة التى هى أحسن ، والعبارة التى هى أرق وألطف .
وذلك لأن الكلمة الطيبة ، تزيد فى المودة التى بين المؤمنين ، وتكسر حدة العداوة التى بينهم وبين أعدائهم .
قال - تعالى - : { وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } قال الآلوسى : ومقول فعل الأمر محذوف ، أى : قل لهم قولوا التى هى أحسن يقولوا ذلك . فجزم يقولوا لأنه جواب الأمر . وإلى هذا ذهب الأخفش .
وقال الزجاج : إن قوله { يقولوا } هو المقول ، وجزمه بلام الأمر محذوفة ، أى : قل لهم ليقولوا . . . .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } تعليل للأمر السابق .
أى : إن الشيطان يتربص بكم ، ويتلمس السقطات التى تقع من أفواهكم ، والعثرات التى تنطق بها ألسنتكم ، لكى يشيع الشر بينكم ، ويبذر بذور الشر والبغضاء فى صفوفكم ، ويهيج أعداءكم عليكم .
وينزغ بمعنى يفسد . يقال : نزغه - كنفعه - ينزغه ، إذا طعن فيه واغتابه ، وقوله : { إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } تعليل لحرص الشيطان على الإِفساد بينهم .
أى إن الشيطان حريص على الإِفساد بين الناس ، لأنه ظاهر العداوة لهم منذ القدم ولقد حذرنا الله - سبحانه - من الشيطان وكيده فى كثير من آيات القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } وقوله - تعالى - : { يابني ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : يأمر الله - تبارك وتعالى - عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين ، أن يقولوا فى مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن ، والكلمة الطيبة ، فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم ، وأخرج الكلام إلى الفعال ، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة ، فإنه عدو لآدم وذريته . . وعداوته ظاهرة بينة ، ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة ، فإن الشيطان ينزغ فى يده .
روى الإِمام أحمد عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح ، فإنه لا يدرى أحدكم ، لعل الشيطان أن ينزغ فى يده ، فيقع فى حفرة من النار " .
وقوله تعالى : { وقل لعبادي } الآية اختلف النحويون في قوله { يقولوا } فمذهب سيبويه ، أنه جواب شرط مقدر تقديره : وقل لعبادي : إنك إن تقل لهم يقولوا ، وهذا على أصله ، في أن الأمر لا يجاب ، وإنما يجاب معه شرط مقدر ، ومذهب الأخفش : أن الأمر يجاب ، وأن قوله ها هنا { يقولوا } إنما هو جواب { قل } .
قال القاضي أبو محمد : ولا يصح المعنى على هذا بأن يجعل { قل } مختصة بهذه الألفاظ على معنى أن يقول لهم النبي : قولوا التي هي أحسن ؛ وإنما يصح بأن يكون { قل } أمراً بالمحاورة في هذا المعنى بما أمكن من الألفاظ ، كأنه قال بين لعبادي ، فتكون ثمرة ذلك القول والبيان قولهم { التي هي أحسن } ، وهذا المعنى يجوزه مذهب سيبويه الذي قدمنا ومذهب أبي العباس المبرد : أن { يقولوا } جواب لأمر محذوف ، تقديره : وقل لعبادي «قولوا{[7599]} التي هي أحسن » يقولوا فحذف وطوي الكلام ، ومذهب الزجاج : أن { يقولوا } جزم بالأمر ، بتقدير { قل لعبادي } ليقولوا ، فحذفت اللام لتقدم الأمر ، وحكى أبو علي في الحلبيات في تضاعيف كلامه : أن مذهب أبي عثمان المازني في { يقولوا } أنه فعل مبني ، لأنه مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر ؛ لأن المعنى { قل لعبادي } قولوا ، واختلف الناس في { التي هي أحسن } فقالت فرقة : هي لا إله إلا الله ، ويلزم على هذا أن يكون قوله { لعبادي } يريد به جميع الخلق ، لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلا الله .
ويجيء قوله بعد ذلك { إن الشيطان ينزع بينهم } غير مناسب للمعنى ، إلا على تكره ، بأن يجعل { بينهم } بمعنى خلالهم ، وأثناءهم ، ويجعل النزع بمعنى الوسوسة والإضلال ، وقال الجمهور : { التي هي أحسن } هي المحاورة الحسنى بحسب معنى قال الحسن : يقول : يغفر الله لك ، يرحمك الله ، وقوله { لعبادي } خاص بالمؤمنين ، فكأن الآية بمعنى قوله عليه السلام ، «وكونوا عباد الله إخواناً »{[7600]} ثم اختلفوا ، فقالت فرقة : أمر الله المؤمنين فيما بينهم بحسن الأدب ، وخفض الجناح ، وإلانة القول ، واطراح نزغات الشيطان ، وقالت فرقة : إنما أمر الله في هذه الآية المؤمنين بالإنة القول للمشركين بمكة ، أيام المهادنة ، وسبب الآية : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمه بعض الكفرة ، فسبه عمر وهم بقتله ، فكاد أن يثير فتنة ، فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف{[7601]} ، وقرأ الجمهور : «ينزَغ » بفتح الزاي ، وقرأ طلحة بن مصرف : «ينزغ » ، بكسر الزاي على الأصل قال أبو حاتم : لعلها لغة ، والقراءة بالفتح ، ومعنى النزغ : حركة الشيطان بسرعة ليوجب فساداً ، ومنه قول النبي عليه السلام «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزع الشيطان في يده »{[7602]} فهذا يخرج اللفظة عن الوسوسة ، و «عداوة الشيطان البينة » هي قصته مع آدم عليه السلام فما بعد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.