البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ يَنزَغُ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (53)

قيل : سبب نزولها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شتمه بعض الكفرة ، فسبه عمر وهم بقتله فكاد يثير فتنة فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف ، وارتباطها بما قبلها أنه لما تقدم ما نسب الكفار لله تعالى من الولد ، ونفورهم عن كتاب الله إذا سمعوه ، وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبته إلى أنه مسحور ، وإنكار البعث كان ذلك مدعاة لإيذاء المؤمنين ومجلبة لبغض المؤمنين إياهم ومعاملتهم بما عاملوهم ، فأمر الله تعالى نبيه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول ، وأن لا يعاملوهم ، بمثل أفعالهم وأقوالهم ، فعلى هذا يكون المعنى { قل لعبادي } المؤمنين { يقولوا } للمشركين الكلم { التي هي أحسن } .

وقيل : المعنى { يقولوا } أي يقول بعض المؤمنين لبعض الكلم التي هي أحسن أي يجل بعضهم بعضاً ويعظمه ، ولا يصدر منه إلاَّ الكلام الطيب والقول الجميل ، فيكونوا مثل المشركين في معاملة بعضهم بعضاً بالتهاجي والسباب والحروب والنهب للأموال والسبي للنساء والذراري .

وقيل : عبادي هنا المشركون إذ المقصود هنا الدعاء إلى الإسلام ، فخوطبوا بالخطاب الحسن ليكون ذلك سبباً إلى قبول الدين فكأنه قيل : قل للذين أقروا أنهم عباد لي يقولوا { التي هي أحسن } وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الولد واتخاذ الملائكة بنات فإن ذلك من نزغ الشيطان ووسوسته وتحسينه .

وقيل : عبادي شامل للفريقين المؤمنين والكافرين على ما يأتي تفسير { التي هي أحسن } والذي يظهر أن لفظة عبادي مضافة إليه تعالى كثر استعمالها في المؤمنين في القرآن كقوله { فبشر عبادي الذين يستمعون القول } { فادخلي في عبادي } عيناً { يشرب بها عباد الله }

و { قل } خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو أمر ، ومعمول القول محذوف تقديره قولوا { التي هي أحسن } وانجزم { يقولوا } على أنه جواب للأمر الذي هو قل قاله الأخفش ، وهو صحيح المعنى على تقدير أن يكون عبادي يراد به المؤمنون لأنهم لمسارعتهم لامتثال أمر الله تعالى بنفس ما يقول لهم ذلك قالوا { التي هي أحسن } .

وعن سيبويه إنه انجزم على جواب لشرط محذوف ، أي إن يقل لهم { يقولوا } فيكون في قوله حذف معمول القول وحذف الشرط الذي { يقولوا } جوابه .

وقال المبرد : انجزم جواباً للأمر الذي هو معمول { قل } أي قولوا { التي هي أحسن } { يقولوا } .

وقيل معمول { قل } مذكور لا محذوف وهو { يقولوا } على تقدير لام الأمر وهو مجزوم بها قاله الزجّاج .

وقيل : { يقولوا } مبني وهو مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر فبني ، والمعنى { قل لعبادي } قولوا قاله المازني ، وهذه الأقوال جرت في قوله { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } وترجيح ما ينبغي أن يرجح مذكور في علم النحو .

و { التي هي أحسن } قالت فرقة منهم ابن عباس هي قول لا إله إلاّ الله .

قال ابن عطية : ويلزم على هذا أن يكون قوله { لعبادي } يريد به جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلاّ الله .

ويجيء قوله بعد ذلك { إن الشيطان ينزغ بينهم } غير مناسب للمعنى إلاّ على تكبره بأن يجعل بينهم بمعنى خلالهم وأثناءهم ويجعل النزغ بمعنى الوسوسة والإملال .

وقال الحسن يرحمك الله يغفر الله لك ، وعنه أيضاً الأمر بامتثال الأوامر واجتناب المناهي .

وقيل القول للمؤمن يرحمك الله وللكافر هداك الله .

وقال الجمهور : وهي المحاورة الحسنى بحسب معنى معنى .

وقال الزمخشري : فسر { التي هي أحسن } بقوله : { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } يعني يقول لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم أنكم من أهل النار وأنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر .

وقوله : { إن الشيطان ينزغ بينهم } اعتراض بمعنى يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارّة والمشاقة .

وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : إذا أردتم الحجة على المخالف فاذكروها بالطريق الأحسن وهو أن لا يخلط بالسب كقوله { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن } { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن } وخلط الحجة بالسب سبب للمقابلة بمثله ، وتنفير عن حصول المقصود من إظهار الحجة وتأثيرها ، ثم نبه على هذا الطريق بقوله : { إن الشيطان ينزغ بينهم } جامعاً للفريقين أي متى امتزجت الحجة بالإيذاء كانت الفتنة انتهى .

وقرأ طلحة { ينزغ } بكسر الزاي .

قال أبو حاتم : لعلها لغة والقراءة بالفتح .

وقال صاحب اللوامح : هي لغة .

وقال الزمخشري : هما لغتان نحو يعرشون ويعرشون انتهى .

ولو مثل بينطح وينطح كان أنسب وبين تعالى سبب النزغ وهي العداوة القائمة لأبيهم آدم قبلهم وقوله { ثم لآتينهم من بين أيديهم } الآية وغيرها من الآيات الدالة على تسلطه على الإنسان وابتغاء الغوائل المهلكة له .