ثم أقسم - سبحانه - قسما آخر بالسماء ذات الحبك فقال : { والسمآء ذَاتِ الحبك إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } .
والحبك : جمع حَبِيكة ، كطريقة - وزنا ومعنى - ، أو جمع حِبَاك - كمُثُل ومِثَال - ، والحبيكة والحباك . الطريقة فى الرمل وما يشبهه . أى : وحق السماء ذات الطرق المتعددة ، والتى لا ترونها بأعينكم لبعدها عنكم .
ويرى بعضهم أن معنى ذات الحبك : ذات الخَلْق الحسن المحكم . . . أو ذات الزينة والجمال .
قال القرطبى : وفى الحبك أقوال : الأول : قال : ابن عباس : ذات الخلْق الحسن المستوى يقال ، حبَك فلان الثوب يحبِكُه - بكسر الباء - إذا أجاد نسجه .
الثانى : ذات الزينة . الثالث : ذات النجوم ، الرابع : ذات الطرائق . ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها . الخامس : ذات الشدة . .
وقوله : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } جواب القسم . وقوله : { يُؤْفَكُ عَنْهُ . . . } من الأفْك - بفتح الهمزة وسكون الفاء - بمعنى الصرف للشىء عن وجهه الذى يجب أن يكون عليه .
والضمير فى " عنه " يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - أو إلى القرآن الكريم .
فيكون المعنى : وحق السماء ذات الطرق المتعددة ، وذات الهيئة البديعة المحكمة الجميلة . . . إنكم - أيها المشركون - " لفى قول مختلف " أى : متناقض متخالف ، فمنكم من يقول عن القرآن الكريم أنه : أساطير الأولين ، ومنكم من يقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - : إنه ساحر أو مجنون .
والحق أنه يصرف عن الإيمان بهذا القرآن الكريم الذى جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صرفه الله - تعالى - عنه ، بسبب إيثاره الغى على الرشد ، والضلالة على الهداية ، والكفر على الإيمان .
والتعبير بقوله : { مَنْ أُفِكَ } للإشعار بأن هذا الشقى الذى آثر الكفر على الإيمان ، قد صرف عن الرشاد وعن الخير صرفا ، ليس هناك ما هو أشد منه فى سوء العاقبة .
فهذا التعبير شبيه فى التهويل بقوله - تعالى - : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } قال الجمل : { يُؤْفَكُ } يصرف { عَنْهُ } عن النبى - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم . أى : عن الإيمان به { مَنْ أُفِكَ } أى : من صرف عن الهداية فى علم الله - تعالى - .
وقيل : الضمير للقول المذكور ، أى : يرتد ، أى : يصرف عن هذا القول من صرف عنه فى علم الله - تعالى - وهم المؤمنون .
{ يؤفك عنه من أفك } يصرف عنه والضمير للرسول أو القرآن أو الإيمان ، من صرف إذ لا صرف أشد منه فكأنه لا صرف بالنسبة إليه ، أو يصرف من صرف في علم الله وقضائه ويجوز أن يكون الضمير لل { قول } على معنى يصدر { أفك } من أفك عن القول المختلف وبسببه كقوله :
ينهون عن أكل وعن شرب *** . . .
أي يصدر تناهيهم عنهما وسببهما وقرئ { أفك } بالفتح أي من أفك الناس وهم قريش كانوا يصدون الناس عن الإيمان .
و{ يؤفك } : يصرف . والأفك بفتح الهمزة وسكون الفاء : الصرف . وأكثر ما يستعمل في الصرف عن أمر حسن ، قاله مجاهد كما في « اللسان » ، وهو ظاهر كلام أيمة اللغة والفراء وشمّر وذلك مدلوله في مواقعه من القرآن .
وجملة { يؤفك عنه من أفك } يجوز أن تكون في محل صفة ثانية ل { قولٍ مختلف } ، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله : { وإن الدين لواقع } [ الذاريات : 6 ] ، فتكون جملة { والسماء ذاتِ الحبك إنكم لفي قول مختلف } معترضة بين الجملة البيانية والجملة المبيَّن عنها . ثم إن لفظ { قول } يقتضي شيئاً مقولاً في شأنه فإذ لم يذكر بعد { قول } ما يدل على مقول صلَح لجميع أقوالهم التي اختلقوها في شأنه للقرآن ودعوة الإسلام كما تقدم .
فلما جاء ضميرُ غيبة بعد لفظ { قول } احتمل أن يعود الضمير إلى { قولٍ } لأنه مذكور ، وأن يعود إلى أحوال المقول في شأنه فقيل ضمير { عنه } عائد إلى { قول مختلف } وأن معنى { يؤفك عنه } يصرف بسببه ، أي يصرف المصروفون عن الإيمان فتكون ( عن ) للتعليل كقوله تعالى : { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك } [ هود : 53 ] وقوله تعالى : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إياه } [ التوبة : 114 ] ، وقيل ضمير { عنه } عائد إلى { ما توعدون } [ الذاريات : 22 ] أو عائد إلى { الدين } [ الذاريات : 6 ] ، أي الجزاء أن يؤفك عن الإيمان بالبعث والجزاء من أفك . وعن الحسن وقتادة : أنه عائد إلى القرآن أو إلى الدين ، أي لأنهما مما جرى القول في شأنهما ، وحرف ( عن ) للمجاوزة .
وعلى كل فالمراد بقوله { من أفك } المشركون المصروفون عن التصديق . والمراد بالذي فعل الأفك المجهول المشركون الصارفون لقومهم عن الإيمان ، وهما الفريقان اللذان تضمنهما قوله تعالى : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوْا فيه لعلكم تغلِبُون } [ فصلت : 26 ] .
وإنما حذف فاعل { يؤفك } وأبهم مفعوله بالموصولية للاستيعاب مع الإيجاز .
وقد حمَّلهم الله بهاتين الجملتين تبعةَ أنفسهم وتبعة المغرورين بأقوالهم كما قال تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } [ العنكبوت : 13 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يؤفك عنه من أفك} يعني عن الإيمان بالقرآن، يعني يصرف عن القرآن من كذب به، يعني الخراصين، يقول: الكذابون الذين يخرصون الكذب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أَفِكَ" يقول: يصرف عن الإيمان بهذا القرآن من صرف، ويدفع عنه من يُدْفع، فيُحْرَمه... قال ابن زيد، في قوله: "يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ" قال: يُؤْفَك عنه المشركون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدها: أي يُصرف عن الحق من صُرِفَ عن النظر والتفكّر في العاقبة.
والثاني: صُرفوا عما رجَوا في الآخرة لما صُرفوا عن الحق في الدنيا، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تقرّبهم عبادتُها إلى الله تعالى وأنها شفعاؤهم عند الله تعالى؛ يقول الله تعالى: صُرف من رجا ذلك في الآخرة لما صُرف عن الحق في الدنيا، والله أعلم.
والثالث: يُصرف من طمِع في الآخرة الشِّرْكة مع المسلمين، وادّعى الخُلوص، بما صُرف في الدنيا عن الإيمان الذي به ينال الآخرة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}: يؤفن عنه من أفن...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"يؤفك عنه من أفك" معناه يصرف عنه من صرف، ومنه قوله "أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا" أي لتصرفنا، وتصدنا. وإنما قيل "يؤفك" عن الحق لأنه يمكن فيه ذلك من غيره، ولا يمكن من نفسه، لأن الحق يدعو إلى نفسه ولا يصرف عنها إلى خلافه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يؤفك} أي يصرف بأيسر أمر وأسهله عن سنن الاستقامة، ويقلب من وجهه لقفاه {عنه} أي يصدر صرفه عن هذا القول مجازاً لما يلزمه من عاره، فهو لأجل ذلك يقوله {من أفك} أي قلبه قلب قاهر أي تبين بهذا الصرف الذي هو أعظم الصرف أنه حكم في الأزل حكماً ثابتاً جامعاً، فصار لا يصد عنه قول ولا فعل إلا كان مقلوباً وجهه إلى قفاه لا يمكن أن يأتي منه بشيء على وجهه، فكأنه لا مأفوك سواه لشدة افكه وعجيب أمره...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {يؤفك}: يصرف. والأَفْك -بفتح الهمزة وسكون الفاء-: الصرف. وأكثر ما يستعمل في الصرف عن أمر حسن، قاله مجاهد كما في « اللسان»، وهو ظاهر كلام أيمة اللغة والفراء وشمّر، وذلك مدلوله في مواقعه من القرآن.
وجملة {يؤفك عنه من أفك} يجوز أن تكون في محل صفة ثانية ل {قولٍ مختلف}، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله: {وإن الدين لواقع} [الذاريات: 6]، فتكون جملة {والسماء ذاتِ الحبك إنكم لفي قول مختلف} معترضة بين الجملة البيانية والجملة المبيَّن عنها. ثم إن لفظ {قول} يقتضي شيئاً مقولاً في شأنه فإذ لم يذكر بعد {قول} ما يدل على مقول صلَح لجميع أقوالهم التي اختلقوها في شأنه للقرآن ودعوة الإسلام كما تقدم.
فلما جاء ضميرُ غيبة بعد لفظ {قول} احتمل أن يعود الضمير إلى {قولٍ} لأنه مذكور، وأن يعود إلى أحوال المقول في شأنه فقيل ضمير {عنه} عائد إلى {قول مختلف} وأن معنى {يؤفك عنه} يصرف بسببه، أي يصرف المصروفون عن الإيمان فتكون (عن) للتعليل كقوله تعالى: {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك} [هود: 53] وقوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إياه} [التوبة: 114]، وقيل ضمير {عنه} عائد إلى {ما توعدون} [الذاريات: 22] أو عائد إلى {الدين} [الذاريات: 6]، أي الجزاء أن يؤفك عن الإيمان بالبعث والجزاء من أفك. وعن الحسن وقتادة: أنه عائد إلى القرآن أو إلى الدين، أي لأنهما مما جرى القول في شأنهما، وحرف (عن) للمجاوزة.
وعلى كل فالمراد بقوله {من أفك} المشركون المصروفون عن التصديق. والمراد بالذي فعل الأفك المجهول المشركون الصارفون لقومهم عن الإيمان، وهما الفريقان اللذان تضمنهما قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوْا فيه لعلكم تغلِبُون} [فصلت: 26].
وإنما حذف فاعل {يؤفك} وأبهم مفعوله بالموصولية للاستيعاب مع الإيجاز.
وقد حمَّلهم الله بهاتين الجملتين تبعةَ أنفسهم وتبعة المغرورين بأقوالهم كما قال تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} [العنكبوت: 13].