ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، ونفاذ مشيئته فقال - تعالى - : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا . . . } .
أى : الله - بقدرته وحدها يقبض أرواح مخلوقاته حين انتهاء آجالها بأن يقطع تعلقها بالأجسام قطعا كليا ، ويسلب هذه الأجسام والأبدان ما به قوام حياتها ، بأن تصير أجساما هامدة لا إدراك لها . ولا حركة فيها .
وقوله - تعالى - : { والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } معطوف على الأنفس ، أى : يسلب الحياة عن الأنفس التى انتهى أجلها سلبا ظاهرا وباطنا ، ويسلب الحياة عنها سلبا ظاهرا فقط فى حال نومها ، إذ أنها فى حالة النوم تشبه الموتى من حيث عدم التمييز والتصرف .
فالآية الكريمة تشير إلى أن التوفى للأنفس أعم من الموت ، إذ أن هناك وفاتين . وفاة كبرى وتكون عن طريق الموت ، ووفاة صغرى وتكون عن طريق النوم . كما قال - تعالى - { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل . . . } أى : يجعلكم تنامون فيه نوما يشبه الموت فى انقطاع الإدراك والإحساس .
وقوله - تعالى - : { فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } بيان لحالة الأنفس التى انتهى أجلها ، والتى لم ينته أجلها بعد .
أى : الله - تعالى - وحده هو الذى يتوفى الأنفس حين الموت ، وحين النوم ، أما الأنفس التى انتهى أجلها فيمسك - سبحانه - أرواحها إمساكا تاما بحيث لا تعود إلى أبدانها مرة أخرى ، وأما التى لم يحن وقت موتها ، فإن الله - تعالى - يعيدها إلى أبدانها عند اليقظة من نومها ، وتستمر على هذه الحالة إلى أجل مسمى فى علمه - تعالى - فإذا ما انتهى أجلها الذى حدده - سبحانه - لها ، خرجت تلك الأرواح من أبدانها خروجا تاما ، كما هو الشأن فى الحالة الأولى .
ولا شك أن الله - تعالى - الذى قدر على ذلك ، قادر أيضا - على إعادة الأرواح إلى أجسادها عند البعث والنشور يوم القيامة .
فالآية الكريمة مسوقة لبيان كما قدرة الله - تعالى - ولبيان أن البعث حق ، وأنه يسير على قدرة الله التى لا يعجزها شئ .
ولا منافاة بين هذه الآية التى صرحت بأن الله - تعالى - هو الذى يتوفى الأنفس عند موتها ، وبين قوله - تعالى - : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت . . . } وقوله - تعالى - { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا . . . } لأن المتوفى فى الحقيقة هو الله - تعالى - وملك الموت إنما يقبض الأرواح بإذنه - سبحانه - ولملك الموت أعوان وجنود من الملائكة ينتزعون الأرواح بأمره المستمد من أمر الله - عز وجل - .
قال القرطبى : " فإذا يقبض الله الروح فى حالين : فى حالة النوم وحالة الموت ، فما قبضه فى حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شئ مقبوض . وما يقبضه فى حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة .
وفى الآية تنبيه على عظيم قدرته ، وانفراده بالألوهية ، وأنه يفعل ما يشاء ويحيى ويميت ، ولا يقدر على ذلك سواه .
واسم الإشارة فى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يعود إلى المذكور من التوفى والإِمساك والإرسال .
أى : إن فى ذلك الذى ذكرناه لكم من قدرتنا على توفى الأنفس وإمساكها وإرسالها ، لآيات بينات على وحدانيتنا وقدرتنا ، لقوم يحسنون التأمل والتفكير والتدبر ، فيما أرشدناهم إليه وأخبرناهم به .
ثم قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء ، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى ، بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان ، والوفاة الصغرى عند المنام ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ، 60 ] ، فذكر الوفاتين : الصغرى ثم الكبرى . وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى ؛ ولهذا قال : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } فيه دلالة على أنها تجتمع في الملأ الأعلى ، كما ورد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن منده وغيره . وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث عبيد الله {[25147]} بن عمر ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلْينْفُضْه بداخلة إزاره ، فإنه لا يدري ما خلفه عليه ، ثم ليقل : باسمك ربي وضعت جنبي ، وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " {[25148]} .
وقال بعض السلف [ رحمهم الله ] {[25149]} يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا ، وأرواح الأحياء إذا ناموا ، فتتعارف ما شاء الله تعالى أن تتعارف { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } التي قد ماتت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى .
قال السدي : إلى بقية أجلها . وقال ابن عباس : يمسك أنفس الأموات ، ويرسل أنفس الأحياء ، ولا يغلط . { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .
يصلح هذا أن يكون مثَلاً لحال ضلال الضالين وهُدى المهتدين نشأ عن قوله : { فمن اهتدى فلنفسه إلى قوله : وما أنت عليهم بوكيل } [ الزمر : 41 ] .
والمعنى : أن استمرار الضالّ على ضلاله قد يحصل بعدَه اهتداء وقد يوافيه أجله وهو في ضلاله فضرب المثل لذلك بنوم النائم قد تعقبه إفاقة وقد يموت النائم في نومه ، وهذا تهوين على نفس النبي برجاء إيمان كثير ممن هم يومئذٍ في ضلال وشرك كما تَحقّقَ ذلك . فتكون الجملة تعليلاً للجملة قبلَها ولها اتصال بقوله : { أفمن شرح الله صدره للإسلام } إلى قوله : { في ضلال مبين } [ الزمر : 22 ] .
ويجوز أن يكون انتقالاً إلى استدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف في الأحوال فإنه ذكر دليل التصرف بخلق الذوات ابتداءً من قوله : خلق السموات والأرض بالحق إلى قوله : { في ظُلُمات ثَلاث } [ الزمر : 5 ، 6 ] ، ثم دليل التصرف بخلق أحوال ذواتتٍ وإنشاءِ ذواتتٍ من تلك الأحوال وذلك من قوله : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض إلى قوله : { لأُولى الألباب } [ الزمر : 21 ] وأعقَبَ كل دليل بما يظهر فيه أثره من الموعظة والعبرة والزجر عن مخالفة مقتضاه ، فانتقل هنا إلى الاستدلال بحالة عجيبة من أحوال أنفُس المخلوقات وهي حالة الموت وحالة النوم . وقد أنبأ عن الاستدلال قوله : { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } ، فهذا دليل للناس من أنفسهم ، قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] وقال : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } [ الروم : 28 ] ، فتكون الجملة استئنافاً ابتدائياً للتدرج في الاستدلال ولها اتصال بجملة خلق السموات والأرض بالحق } وجملة { ألم تر أن الله أنزل } المتقدمتين ، وعلى كلا الوجهين أفادت الآية إبراز حقيقتين عظيمتين من نواميس الحياتين النفسية والجسدية وتقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي لإِفادة تخصيصه بمضمون الخبر ، أي الله يتوفّى لا غيره فهو قصر حقيقي لإِظهار فساد أَنْ أشركوا به آلهة لا تملك تصرفاً في أحوال الناس .
والتوفِّي : الإماتة ، وسميت توفّياً لأن الله إذا أَمات أحداً فقد توفّاه أجلَه فالله المتوفِّي ومَلك الموت متوفًّ أيضاً لأنه مباشر التوفّي .
والميت : متوفى بصيغة المفعول ، وشاع ذلك فصار التوفّي مرادفاً للإِماتة والوفاة مُرادفة للموت بقطع النظر عن كيفية تصريف ذلك واشتقاقه من مادة الوفاء .
وتقدم في قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم } في سورة [ البقرة : 234 ] : وقوله : { قل يتوفاكم ملك الموت } في سورة [ السجدة : 11 ] . والأنفس : جمع نَفْس ، وهي الشخص والذات قال تعالى : وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وتطلق على الروح الذي به الحياة والإِدراك .
ومعنى التوفي يتعلق بالأنفس على كلا الإِطلاقين . والمعنى : يتوفّى الناس الذين يموتون فإن الذي يوصف بالموت هو الذات لا الروح وأنَّ توفيها سَلب الأرواح عنها .
وقوله : { والتي لم تمت } عطف على الأنفس باعتبار قيد { حين موتها } لأنه في معنى الوصف فكأنه قيل يتوفى الأنفس التي تموت في حالة نومها ، والأنفسَ التي لم تمت في نومها فأفاقت .
ويتعلق { في منامها } بقوله : { يَتَوفَّى } ، أي ويتوفى أنفساً لم تمت يَتوفاها في منامها كل يوم ، فعلم أن المراد بتوفِّيها هو منامها ، وهذا جار على وجه التشبيه بحسب عرف اللغة إذ لا يطلق على النائم ميّت ولا متوفى . وهو تشبيه نُحِيَ به منحَى التنبيه إلى حقيقة علمية فإن حالة النوم حالة انقطاع أَهم فوائد الحياة عن الجسد وهي الإِدراك سوى أن أعضاءه الرئيسيّة لم تفقد صلاحيتها للعودة إلى أعمالها حينَ الهبوب من النوم ، ولذلك قال تعالى : { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه } كما تقدم في سورة [ الأنعام : 60 ] .
والفاء في { فيمسك } فاء الفصيحة لأن ما تقدم يقتضي مقدراً يفصح عنه الفاء لبيان توفي النفوس في المقام .
والإِمساك : الشدّ باليد وعدم تسليم المشدود . والمعنى : فيبقِي ولا يردّ النفْس التي قضى عليها بالموت ، أي يمنعها أن ترجع إلى الحياة فإطلاق الإِمساك على بقاء حالة الموت تمثيل لدوام تلك الحالة . ومن لطائفه أن أهل الميت يتمنون عود ميتهم لو وجدوا إلى عوده سبيلاً ولكن الله لم يسمح لنفس ماتت أن تعود إلى الحياة .
والإِرسال : الإِطلاق والتمكين من مبارحة المكان للرجوع إلى ما كَان والمراد ب { الأخرى } { التي لم تمت } ولكن الله جعلها بمنزلة الميتة . والمعنى : يرد إليها الحياة كاملة . والمقصود من هذا إبراز الفرق بين الوفاتين .
ويتعلق { إلى أجل مسمى } بفعل { يرسل } لما فيه من معنى يرد الحياة إليها ، أي فلا يسلبها الحياة كلَّها إلا في أجلها المسمى ، أي المعيّن لها في تقدير الله تعالى .
والتسمية : التعيين ، وتقدمت في قوله تعالى : { إذا تداينتم بديْن إلى أجل مسمى فاكتبوه } في سورة [ البقرة : 282 ] .
هذا هو الوجه في تفسير الآية الخليّ عن التكلفات وعن ارتكاب شبه الاستخدام في قوله : التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى } وعن التقدير .
وجملة { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } مستأنفة كما تذكر النتيجة عقب الدليل ، أي أن في حالة الإِماتةِ والإِنامةِ دلائِلَ على انفراد الله تعالى بالتصرف وأنه المستحق للعبادة دون غيره وأن ليس المقصود من هذا الخبر الإِخبار باختلاف حالتي الموت والنوم بل المقصود التفكر والنظر في مضرب المثل ، وفي دقائق صنع الله والتذكير بما تنطوي عليه من دقائق الحكمة التي تمر على كل انسان كلَّ يوم في نفسه ، وتمرّ على كثير من الناس في آلهم وفي عشائرهم وهم معرضون عما في ذلك من الحكَم وبديع الصنع .
وجُعل ما تدل عليه آياتتٍ كثيرةً لأنهما حالتان عجيبتان ثم في كل حالة تصرف يغاير التصرف الذي في الأخرى ، ففي حالة الموت سلب الحياة عن الجسم وبقاء الجسم كالجماد ومَنْعٌ من أن تعود إليه الحياة وفي حالة النوم سلب بعض الحياة عن الجسم حتى يكون كالميت وما هو بميت ثم منح الحياة أن تعود إليه دَوَالَيْك إلى أن يأتي إِبّان سلبها عنه سلباً مستمراً .
و ( الآياتُ لقوم يتفكرون ) حاصلة على كل من إرادة التمثيل وإرادة استدلال على الانفراد بالتصرف . وتأكيد الخبر ب { إنَّ } لتنزيل معظم الناس منزلة المنكر لتلك الآيات لعدم جريهم في أحوالهم على مقتضى ما تدل عليه .
والتفكر : تكلف الفكرة ، وهو معالجة الفكر ومعاودة التدبر في دلالة الأدلة على الحقائق .
وقرأ الجمهور { قضى عليها الموت } ببناء الفعل للفاعل ونصب الموت . وقرأه حمزة والكسائي وخلف { قُضِي عليها الموت } ببناء الفعل للنائب وبرفع الموت وهو على مراعاة نزع الخافض . والتقدير : قضي عليها بالموت ، فلما حذف الخافض صار الاسم الذي كان مجروراً بمنزلة المفعول به فجعل نائباً عن الفاعل ، أو على تضمين { قُضِي } معنى كُتب وقُدر .