التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (42)

يصلح هذا أن يكون مثَلاً لحال ضلال الضالين وهُدى المهتدين نشأ عن قوله : { فمن اهتدى فلنفسه إلى قوله : وما أنت عليهم بوكيل } [ الزمر : 41 ] .

والمعنى : أن استمرار الضالّ على ضلاله قد يحصل بعدَه اهتداء وقد يوافيه أجله وهو في ضلاله فضرب المثل لذلك بنوم النائم قد تعقبه إفاقة وقد يموت النائم في نومه ، وهذا تهوين على نفس النبي برجاء إيمان كثير ممن هم يومئذٍ في ضلال وشرك كما تَحقّقَ ذلك . فتكون الجملة تعليلاً للجملة قبلَها ولها اتصال بقوله : { أفمن شرح الله صدره للإسلام } إلى قوله : { في ضلال مبين } [ الزمر : 22 ] .

ويجوز أن يكون انتقالاً إلى استدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف في الأحوال فإنه ذكر دليل التصرف بخلق الذوات ابتداءً من قوله : خلق السموات والأرض بالحق إلى قوله : { في ظُلُمات ثَلاث } [ الزمر : 5 ، 6 ] ، ثم دليل التصرف بخلق أحوال ذواتتٍ وإنشاءِ ذواتتٍ من تلك الأحوال وذلك من قوله : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض إلى قوله : { لأُولى الألباب } [ الزمر : 21 ] وأعقَبَ كل دليل بما يظهر فيه أثره من الموعظة والعبرة والزجر عن مخالفة مقتضاه ، فانتقل هنا إلى الاستدلال بحالة عجيبة من أحوال أنفُس المخلوقات وهي حالة الموت وحالة النوم . وقد أنبأ عن الاستدلال قوله : { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } ، فهذا دليل للناس من أنفسهم ، قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] وقال : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } [ الروم : 28 ] ، فتكون الجملة استئنافاً ابتدائياً للتدرج في الاستدلال ولها اتصال بجملة خلق السموات والأرض بالحق } وجملة { ألم تر أن الله أنزل } المتقدمتين ، وعلى كلا الوجهين أفادت الآية إبراز حقيقتين عظيمتين من نواميس الحياتين النفسية والجسدية وتقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي لإِفادة تخصيصه بمضمون الخبر ، أي الله يتوفّى لا غيره فهو قصر حقيقي لإِظهار فساد أَنْ أشركوا به آلهة لا تملك تصرفاً في أحوال الناس .

والتوفِّي : الإماتة ، وسميت توفّياً لأن الله إذا أَمات أحداً فقد توفّاه أجلَه فالله المتوفِّي ومَلك الموت متوفًّ أيضاً لأنه مباشر التوفّي .

والميت : متوفى بصيغة المفعول ، وشاع ذلك فصار التوفّي مرادفاً للإِماتة والوفاة مُرادفة للموت بقطع النظر عن كيفية تصريف ذلك واشتقاقه من مادة الوفاء .

وتقدم في قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم } في سورة [ البقرة : 234 ] : وقوله : { قل يتوفاكم ملك الموت } في سورة [ السجدة : 11 ] . والأنفس : جمع نَفْس ، وهي الشخص والذات قال تعالى : وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وتطلق على الروح الذي به الحياة والإِدراك .

ومعنى التوفي يتعلق بالأنفس على كلا الإِطلاقين . والمعنى : يتوفّى الناس الذين يموتون فإن الذي يوصف بالموت هو الذات لا الروح وأنَّ توفيها سَلب الأرواح عنها .

وقوله : { والتي لم تمت } عطف على الأنفس باعتبار قيد { حين موتها } لأنه في معنى الوصف فكأنه قيل يتوفى الأنفس التي تموت في حالة نومها ، والأنفسَ التي لم تمت في نومها فأفاقت .

ويتعلق { في منامها } بقوله : { يَتَوفَّى } ، أي ويتوفى أنفساً لم تمت يَتوفاها في منامها كل يوم ، فعلم أن المراد بتوفِّيها هو منامها ، وهذا جار على وجه التشبيه بحسب عرف اللغة إذ لا يطلق على النائم ميّت ولا متوفى . وهو تشبيه نُحِيَ به منحَى التنبيه إلى حقيقة علمية فإن حالة النوم حالة انقطاع أَهم فوائد الحياة عن الجسد وهي الإِدراك سوى أن أعضاءه الرئيسيّة لم تفقد صلاحيتها للعودة إلى أعمالها حينَ الهبوب من النوم ، ولذلك قال تعالى : { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه } كما تقدم في سورة [ الأنعام : 60 ] .

والفاء في { فيمسك } فاء الفصيحة لأن ما تقدم يقتضي مقدراً يفصح عنه الفاء لبيان توفي النفوس في المقام .

والإِمساك : الشدّ باليد وعدم تسليم المشدود . والمعنى : فيبقِي ولا يردّ النفْس التي قضى عليها بالموت ، أي يمنعها أن ترجع إلى الحياة فإطلاق الإِمساك على بقاء حالة الموت تمثيل لدوام تلك الحالة . ومن لطائفه أن أهل الميت يتمنون عود ميتهم لو وجدوا إلى عوده سبيلاً ولكن الله لم يسمح لنفس ماتت أن تعود إلى الحياة .

والإِرسال : الإِطلاق والتمكين من مبارحة المكان للرجوع إلى ما كَان والمراد ب { الأخرى } { التي لم تمت } ولكن الله جعلها بمنزلة الميتة . والمعنى : يرد إليها الحياة كاملة . والمقصود من هذا إبراز الفرق بين الوفاتين .

ويتعلق { إلى أجل مسمى } بفعل { يرسل } لما فيه من معنى يرد الحياة إليها ، أي فلا يسلبها الحياة كلَّها إلا في أجلها المسمى ، أي المعيّن لها في تقدير الله تعالى .

والتسمية : التعيين ، وتقدمت في قوله تعالى : { إذا تداينتم بديْن إلى أجل مسمى فاكتبوه } في سورة [ البقرة : 282 ] .

هذا هو الوجه في تفسير الآية الخليّ عن التكلفات وعن ارتكاب شبه الاستخدام في قوله : التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى } وعن التقدير .

وجملة { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } مستأنفة كما تذكر النتيجة عقب الدليل ، أي أن في حالة الإِماتةِ والإِنامةِ دلائِلَ على انفراد الله تعالى بالتصرف وأنه المستحق للعبادة دون غيره وأن ليس المقصود من هذا الخبر الإِخبار باختلاف حالتي الموت والنوم بل المقصود التفكر والنظر في مضرب المثل ، وفي دقائق صنع الله والتذكير بما تنطوي عليه من دقائق الحكمة التي تمر على كل انسان كلَّ يوم في نفسه ، وتمرّ على كثير من الناس في آلهم وفي عشائرهم وهم معرضون عما في ذلك من الحكَم وبديع الصنع .

وجُعل ما تدل عليه آياتتٍ كثيرةً لأنهما حالتان عجيبتان ثم في كل حالة تصرف يغاير التصرف الذي في الأخرى ، ففي حالة الموت سلب الحياة عن الجسم وبقاء الجسم كالجماد ومَنْعٌ من أن تعود إليه الحياة وفي حالة النوم سلب بعض الحياة عن الجسم حتى يكون كالميت وما هو بميت ثم منح الحياة أن تعود إليه دَوَالَيْك إلى أن يأتي إِبّان سلبها عنه سلباً مستمراً .

و ( الآياتُ لقوم يتفكرون ) حاصلة على كل من إرادة التمثيل وإرادة استدلال على الانفراد بالتصرف . وتأكيد الخبر ب { إنَّ } لتنزيل معظم الناس منزلة المنكر لتلك الآيات لعدم جريهم في أحوالهم على مقتضى ما تدل عليه .

والتفكر : تكلف الفكرة ، وهو معالجة الفكر ومعاودة التدبر في دلالة الأدلة على الحقائق .

وقرأ الجمهور { قضى عليها الموت } ببناء الفعل للفاعل ونصب الموت . وقرأه حمزة والكسائي وخلف { قُضِي عليها الموت } ببناء الفعل للنائب وبرفع الموت وهو على مراعاة نزع الخافض . والتقدير : قضي عليها بالموت ، فلما حذف الخافض صار الاسم الذي كان مجروراً بمنزلة المفعول به فجعل نائباً عن الفاعل ، أو على تضمين { قُضِي } معنى كُتب وقُدر .