وبعد أن أمر - سبحانه - عباده بذكره وشكره ، وجه نداء إليهم بين لهم فيه ما يعينهم على ذلك ، كما بين لهم منزلة الشهداء ، وعاقبة الصابرين على البلاء فقال - تعالى - :
{ يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا . . . }
المعنى : يا من آمنتم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه ، وعلى فعل الطاعات وترك المعاصي ، وعلى احتمال المكاره التي تجري بها الأقدار ، استعينوا على كل ذلك بالصبر الجميل وبالصلاة المصحوبة بالخشوع والإِخلاص والتذلل للخالق - عز وجل - فإن الإِيمان الذي خالط قلوبكم يستدعى منكم القيام بالمصاعب ، واحتمال المكاره ، ولقاء الأذى من عدو أو سفيه ، ولن تستطيعوا أن تتغلبوا على كل ذلك إلا بالصبر والصلاة .
ولقد استجاب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه الرباني ، وتأسى به أصحابه في ذلك ، فقد أخرج الإِمام أحمد - بسنده - عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان إذا حزبه أمر صلى " .
أي : إذا شق عليه أمر لجأ إلى الصلاة لله رب العالمين .
وافتتحت الآية الكريمة بالنداء ، لأن فيه إشعاراً بخبر مهم عظيم ، فإن من شأن الأخبار العظيمة التي تهول المخاطب أن يقدم قبلها ما يهئ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفجأها ولعل مما يشهد بأفضلية هذه الأمة على غيرها من الأمم ، أن الله - تعالى - قد أمر بني إسرائيل في السورة نفسها بالاستعانة بالصبر والصلاة فقال : { استعينوا بالصبر والصلاة } إلا أنه - سبحانه - قال لهم : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } ليشعرهم بضعف عزائمهم عن عظائم الأعمال ، ولم يقل - سبحانه - للمؤمنين ذلك في الآية التي معنا ، للإِيماء إلى أنهم قد يسر لهم ما يصعب على غيرهم ، وأنهم هم الخاشعون الذين استثناهم الله هنالك .
وقوله - تعالى - : { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } .
ولم يقل " معكم " ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم .
قال الأستاذ الإِمام : إن من سنة الله : - تعالى - أن الأعمال العظيمة لا تتم ولا ينجح صاحبها إلا بالثبات والاستمرار ، وهذا إنما يكون بالصبر ، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه ، لأنه - سبحانه - جعل هذا الصبر سبباً للظفر ، إذ هو يولد الثبات والاستمرار الذي هو شرط النجاح ، ومن لم يصبر فليس الله معه ، لأنه تنكب سنته ، ولن يثبت فيبلغ غايته .
لما فرغ تعالى{[2965]} من بيان الأمر بالشكر شرع في بيان الصبر ، والإرشاد إلى الاستعانة بالصبر والصلاة ، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها ، أو في نقمة فيصبر عليها ؛ كما جاء في الحديث : " عجبًا للمؤمن . لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له : إن أصابته سراء ، فشكر ، كان خيرًا له ؛ وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له " .
وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة ، كما تقدم في قوله : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] . وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلى{[2966]} . والصبر صبران ، فصبر على ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات . والثاني أكثر ثوابًا لأنه المقصود . كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الصبر في بابين ، الصبر لله بما أحب ، وإن ثقل على الأنفس{[2967]} والأبدان ، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء . فمن كان هكذا ، فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم ، إن شاء الله .
وقال علي بن الحسين زين العابدين : إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد : أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب ؟ قال : فيقوم عُنُق من الناس ، فتتلقاهم الملائكة ، فيقولون : إلى أين يا بني آدم ؟ فيقولون : إلى الجنة . فيقولون : وقبل الحساب ؟ قالوا : نعم ، قالوا : ومن أنتم ؟ قالوا : الصابرون ، قالوا : وما كان صبركم ؟ قالوا : صبرنا على طاعة الله ، وصبرنا عن معصية الله ، حتى توفانا الله . قالوا : أنتم كما قلتم ، ادخلوا الجنة ، فنعم أجر العاملين .
قلت : ويشهد لهذا قوله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] .
وقال سعيد بن جبير : الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه ، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو مُتَجَلّد لا يرى منه إلا الصبر .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( 153 )
و { يا } حرف نداء و «أيّ » منادى و «ها » تنبيه ، وتجلب «أي » فيما فيه الألف واللام لأن في حرف النداء تعريفاً ما ، فلو لم تجلب «أي » لاجتمع تعريفان ، وقال قوم : { الصبر } : الصوم ، ومنه قيل لرمضان : شهر الصبر ، وتقدم معنى الاستعانة بالصبر والصلاة( {[1425]} ) ، واختصاره( {[1426]} ) أنهما رادعان عن المعاصي .
وقوله تعالى : { إن الله مع الصابرين } معناه بمعونته وإنجاده ، فهو على حذف مضاف( {[1427]} ) ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : «اهجُهم وروح القدس معك » ، وكما قال : «ارموا وأنا مع بني فلان » ، الحديث( {[1428]} ) .
هذه جمل معترضة بين قوله تعالى : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } [ البقرة : 150 ] وما اتصل به من تعليله بقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } [ البقرة : 150 ] وما عطف عليه من قوله { ولأتم نعمتي عليكم } [ البقرة : 150 ] إلى قوله : { واشكروا لي ولا تكفرون } [ البقرة : 152 ] وبين قوله : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } [ البقرة : 177 ] لأن ذلك وقع تكملة لدفع المطاعن في شأن تحويل القبلة فله أشد اتصال بقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجةً } المتصل بقوله : { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } [ البقرة : 150 ] .
وهو اعتراض مُطْنِبٌ ابتُدىء به إعداد المسلمين لما هم أهله من نصر دين الله شكراً له على خَولهم من النعم المعدودة في الآيات السالفة من جعلهم أمة وسطاً وشهداء على الناس ، وتفضيلِهم بالتوجه إلى استقبال أفضل بقعة ، وتأييدهم بأنهم على الحق في ذلك ، وأمْرِهم بالاستخفافِ بالظالمين وأَنْ لا يخشوهم ، وتبْشيرهم بأنه أتم نعمته عليهم وهداهم ، وامتن عليهم بأنه أرسل فيهم رسولاً منهم ، وهداهم إلى الامتثال للأحكام العظيمة كالشكر والذكر ، فإن الشكر والذكر بهما تهيئة النفوس إلى عظيم الأعمال ، من أجل ذلك كله أَمرهم هنا بالصبر والصلاة ، ونبههم إلى أنهما عون للنفس على عظيم الأعمال ، فناسب تعقيبها بها ، وأيضاً فإن ما ذكر من قوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجةً } مشعر بأن أناساً متصدُّون لشغبهم وتشكيكهم والكيد لهم ، فأُمروا بالاستعانة عليهم بالصبر والصلاة . وكلها متماسكة متناسبة الانتقال عدا آية : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } إلى قوله : { شاكر عليم } [ البقرة : 158 ] فسيأتي تبييننا لموقعها .
وافتُتح الكلام بالنداء لأن فيه إشعاراً بخبرٍ مهم عظيم ، فإن شأن الأَخبار العظيمة التي تَهُول المخاطبَ أن يقدَّم قبلَها ما يهيءُ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفْجَأَها .
وفي افتتاح هذا الخطاب بالاستعانة بالصبر إيذان بأنه سيُعقب بالنَّدْب إلى عمل عظيم وبلْوى شديدة ، وذلك تهيئةٌ للجهاد ، ولعله إعداد لغزوة بدر الكبرى ، فإن ابتداء المغازي كان قُبيل زمن تحويل القبلة إذ كان تحويل القبلة في رجب أو شعبان من السنة الثانية للهجرة وكانت غزوة بُوَاطَ والعُشَيْرَةِ وبدْرٍ الأولى في ربيع وجمادى من السنة الثانية ولم يكن فيهما قتال ، وكانت بَدْرٌ الكبرى في رمضان من السنة الثانية فكانت بعد تحويل القبلة بنحو شهرين .
وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] أن ما وقع في حديث البراء بن عازب من قول الراوي أن ناساً قُتلوا قبل تحويل القبلة ، أنه توهم من أحد الرواة عن البراء ، فإن أَوَّلَ قَتْل في سبيل الله وقع في غزوة بدر وهي بعد تحويل القبلة بنحو شهرين ، والأصح ما في حديث الترمذي عن ابن عباس قال « لما وُجِّه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس » الحديث فلم يقل : ( الذين قتلوا ) . فالوجه في تفسير هذه الآية أنها تهيئة للمسلمين للصبر على شدائد الحرب ، وتحبيبٌ للشهادة إليهم . ولذلك وقع التعبير بالمضارع في قوله : { لمن يقتل في سبيل الله المشعر بأنه أمرٌ مستقبل وهم الذين قتلوا في وقعة بدر بُعَيد نزول هذه الآية .
وقد تقدم القول في نظير هذه الآية عند قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلوات وإنها لكبيرة } [ البقرة : 45 ] الآية إلاَّ أنا نقول هنا إن الله تعالى قال لبني إسرائيل : { إنها لكبيرة } علماً منه بضعف عزائمهم عن عظائم الأعمال وقال هنالك { إلاَّ على الخاشعين } ولم يذكر مثل هذا هنا ، وفي هذا إيماء إلى أن المسلمين قد يُسر لهم ما يصعب على غيرهم ، وأنهم الخاشعون الذين استثناهم الله هنالك ، وزاد هنا فقال : { إن الله مع الصابرين } فبشرهم بأنهم ممن يمتثل هذا الأمر ويعد لذلك في زمرة الصابرين .
وقوله { إن الله مع الصابرين } تذييل في معنى التعليل أي اصبروا ليكون الله معكم لأنه مع الصابرين .