ثم ساق - سبحانه - جانبا من أهوال يوم القيامة ، على سبيل التهديد والوعيد لهؤلاء المكذبين .
فقال : { فَإِذَا بَرِقَ البصر . وَخَسَفَ القمر . وَجُمِعَ الشمس والقمر . يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر } .
و " برق " - بكسر الراء وفتحها - دهش وفزع وتحير ولمع من شدة شخوصه وخوفه .
يقال : برق بصر فلان - كفرح ونصر - إذا نظر إلى البرق فدهش وتحير .
والمراد بخسوف القمر : انطماس نوره ، واختفاء ضوئه .
والمراد بجمع الشمس والقمر : اقترانهما ببعضهما بعد افتراقهما واختلال النظام المعهود للكون ، اختلالا تتغير معه معالمة ونظمه . وجواب { إذا } قوله : { يَقُولُ الإنسان } أى : فإذا برق بصر الإِنسان وتحير من شدة الفزع والخوف ، بعد أن رأى ما كان يكذب به فى الدنيا .
والتعريف فى البصر : للاسغراق : إذ أبصار الناس جميعا فى هذا اليوم ، تكون فى حالة فزع ، إلأا أن هذا الفزع يتفاوت بينهم فى شدته .
وقال تعالى ها هنا : { فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ } قال أبو عمرو بن العلاء : { بَرِقَ } بكسر الراء ، أي : حار . وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى : { لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } [ إبراهيم : 43 ] ، بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا ، لا يستقر لهم بصر على شيء ؛ من شدة الرعب .
وقرأ آخرون : " بَرَقَ " بالفتح ، وهو قريب في المعنى من الأول . والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال ، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور .
وقرأ أبو عمرو والحسن ومجاهد وقتادة والجحدري وعاصم والأعمش وأبو جعفر وشيبة «بِرق البصر » بكسر الراء بمعنى شخص وشق وحار{[11466]} . وقرأ نافع وعاصم بخلاف ، وعبد الله بن أبي إسحاق وزيد بن ثابت ونصر بن عاصم «بَرق » بفتح الراء ، بمعنى لمع وصار له بريق وحار عند الموت ، والمعنى متقارب في القراءتين ، وقال أبو عبيدة «برَق » بالفتح شق ، وقال مجاهد هذا عند الموت ، وقال الحسن هذا في يوم القيامة .
عُدل عن أن يجابوا بتعيين وقت ليوم القيامة إلى أن يهدَّدوا بأهواله ، لأنهم لم يَكونوا جادِّين في سؤالهم فكان من مقتضى حالهم أن يُنذروا بما يقع من الأهوال عند حلول هذا اليوم مع تضمين تحقيق وقوعه فإن كلام القرآن إرشاد وهدْي ما يترك فُرصَة للهدي والإِرشاد إلاّ انتهزها ، وهذا تهديد في ابتدائه جاء في صورة التعيين لوقت يوم القيامة إيهاماً بالجواب عن سؤالهم كأنه حملٌ لكلامهم على خلاف الاستهزاء على طريقة الأسلوب الحكيم . وفيه تعريض بالتوبيخ على أن فرطوا في التوقي من ذلك اليوم واشتغلوا بالسؤال عن وقته . وقريب منه ما روي أن رجلاً من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم « متى الساعة ؟ فقال له : مَاذا أعددت لها » .
فإن هذه الأحوال المذكورة في الآية مما يقع عند حلول الساعة وقيام القيامة فكان ذلك شيئاً من تعيين وقته بتعيين أشراطه .
والفاء لتفريع الجواب عن السؤال .
و { بَرِق } قرأه الجمهور بكسر الراء ، ومعناه : دُهِش وبُهت ، يقال : برِق يَبرَق فهو بَرِق من باب فرح فهو من أحوال الإِنسان .
وإنما أسند في الآية إلى البصر على سبيل المجاز العقلي تنزيلاً له منزلة مكان البرق لأنه إذا بهت شخص بصره . كما أسند الأعشى البَرَق إلى الأعين في قوله :
كذلك فافْعَلْ ما حييت إِذَا شتوا *** وأقدِمْ إذا ما أعينُ الناس تفرَق
وقرأه نافع وأبو جعفر بفتح الراء من البريق بمعنى اللمعان ، أي لَمَع البصر من شدة شخوصه ، ومضارعه يبرُق بضم الراء . وإسناده إلى البصر حقيقة .
ومآل معنى القراءتين واحد وهو الكناية عن الفزع والرعب كقوله تعالى : { واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } [ الأنبياء : 97 ] ، فلا وجه لترجيح الطبري قراءة الجمهور على قراءة نافع وأبي جعفر ، لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من مقتضى التفسير .
والتعريف في { البصر } للجنس المرادِ به الاستغراق ، أي أبصار الناس كلهم من الشدة الحاصلة في ذلك الوقت على أنهم متفاوتون في الرعب الحاصل لهم على تفاوتهم فيما يُعرضون عليه من طرائققِ منازلهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فأخبر الله تعالى عن ذلك اليوم، فقال: {فإذا برق البصر} يقول: إذا شخص البصر، فلا يطرق مما يرى من العجائب التي يراها مما كان يكفر بها في الدنيا أنه غير كائن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فإذَا بَرِقَ البَصَرُ "اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه أبو جعفر القارئ ونافع وابن أبي إسحاق: «فإذَا بَرَقَ» بفتح الراء، بمعنى شخص وفُتِح عند الموت، وقرأ ذلك شيبة وأبو عمرو وعامة قرّاء الكوفة « بَرِقَ»بكسر الراء، بمعنى: فزع وشقّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فإذا برق البصر} قال بعضهم: إذا شخص البصر نحو الداعي يوم القيامة، وهو كقوله عز وجل: {ليوم تشخص فيه الأبصار} [إبراهيم: 42] فيشخص ببصره إلى الداعي، لأنه قد علم أن الذي حلّ به من بأس الله تعالى هو لامتناعه عن الإجابة للداعي في هذه الدنيا، فيتسارع يوم القيامة في إشخاص بصره إلى الداعي ابتداء منه إلى إجابة الداعي.
ثم إن كان المراد به حالة الموت فقوله عز وجل: {فإذا برق البصر} قيل: دهش وتحير. ثم اختلف بعد هذا؛ فمنهم من صرف هذا إلى حالة الموت، ومنهم من ذكر أن هذه الأحوال تكون يوم القيامة. وإلى أيّ الحالين صرف التأويل فهو مستقيم، لأن المنكر البعث إذا جاءه بأس الله تعالى، ورأى ما حلّ به من الأهوال أيقن بالبعث، وعلم به. ثم إن كان المراد به حالة الموت، فقوله عز وجل: {فإذا برق البصر} {وخسف القمر} {وجمع الشمس والقمر} [الآيات: 7و8و9]. يخرج على التمثيل، ليس على التحقيق، لأن بصره إذا دهش، وتحير، صار بحيث لا ينتفع ببصر وجهه ولا ببصر قلبه، لا يرى ضوء القمر، فيصير القمر كالمنخسف، وتصير الشمس والقمر كالمجموعين، ولا يرى ضوء الشمس ولا نور القمر، فيصير النهار عليه ليلا والليل نهارا؛ شغل بما حلّ به من البلايا والأهوال. وهي كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه] قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والآخرة جنة المؤمن وسجن الكافر) [مسلم 2956] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كره لقاء الله كره الله لقاءه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) [البخاري: 6507و6508 ومسلم 2683]. فصرفوا تأويل هذين الخبرين إلى حالة الموت؛ وذلك أن الكافر يعاين في ذلك الوقت ما أعد من الأهوال والشدائد فكره مفارقة روح جسده لئلا يقع في تلك الأهوال والشدائد، وتصير الدنيا له في ذلك الوقت كالجنة لا يحب مفارقتها. والمؤمن إذا عاين ما وعد من البشارات وأنواع الكرامات أراد الخروج من الدنيا ليصل إلى ما أعد له، فتصير الدنيا عليه [كالسجن] في ذلك الوقت، فيكون هذا كله على التمثيل من الوجه الذي ذكرنا. وإن كان ذلك على يوم القيامة على تحقيق الخسف وجمع الشمس والقمر وقوله تعالى: {يقول الإنسان يومئذ أين المفر} [الآية: 10] فيحتمل أن يكون قوله تعالى: {أي ليس لي موضع فرار عما حلّ بي، أو يقول: إلى أين المفر؟ وإلى من ألتجئ لأتخلص من العذاب، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بَرِقَ البصر} تحير فزعا؛ وأصله من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره. وقرئ: «برق» من البريق، أي لمع من شدة شخوصه. وقرأ أبو السمال «بلق» إذا انفتح وانفرج.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقرأ أبو عمرو والحسن ومجاهد وقتادة والجحدري وعاصم والأعمش وأبو جعفر وشيبة «بِرق البصر» بكسر الراء بمعنى شخص وشق وحار. وقرأ نافع وعاصم بخلاف، وعبد الله بن أبي إسحاق وزيد بن ثابت ونصر بن عاصم «بَرَق» بفتح الراء، بمعنى لمع وصار له بريق وحار عند الموت، والمعنى متقارب في القراءتين، وقال أبو عبيدة «برَق» بالفتح شق، وقال مجاهد هذا عند الموت، وقال الحسن هذا في يوم القيامة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم كان الجواب على التهكم بيوم القيامة واستبعاد موعدها، سريعا خاطفا حاسما، ليس فيه تريث ولا إبطاء حتى في إيقاع النظم، وجرس الألفاظ. وكان مشهدا من مشاهد القيامة تشترك فيه الحواس والمشاعر الإنسانية، والمشاهد الكونية:
(فإذا برق البصر. وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر. يقول الإنسان يومئذ أين المفر؟).
فالبصر يخطف ويتقلب سريعا سريعا تقلب البرق وخطفه. والقمر يخسف ويطمس نوره. والشمس تقترن بالقمر بعد افتراق. ويختل نظامهما الفلكي المعهود، حيث ينفرط ذلك النظام الكوني الدقيق..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عُدل عن أن يجابوا بتعيين وقت ليوم القيامة إلى أن يهدَّدوا بأهواله، لأنهم لم يَكونوا جادِّين في سؤالهم فكان من مقتضى حالهم أن يُنذروا بما يقع من الأهوال عند حلول هذا اليوم مع تضمين تحقيق وقوعه، فإن كلام القرآن إرشاد وهدْي ما يترك فُرصَة للهدي والإِرشاد إلاّ انتهزها، وهذا تهديد في ابتدائه جاء في صورة التعيين لوقت يوم القيامة إيهاماً بالجواب عن سؤالهم كأنه حملٌ لكلامهم على خلاف الاستهزاء على طريقة الأسلوب الحكيم. وفيه تعريض بالتوبيخ على أن فرطوا في التوقي من ذلك اليوم واشتغلوا بالسؤال عن وقته. وقريب منه ما روي أن رجلاً من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم « متى الساعة؟ فقال له: مَاذا أعددت لها».
فإن هذه الأحوال المذكورة في الآية مما يقع عند حلول الساعة وقيام القيامة فكان ذلك شيئاً من تعيين وقته بتعيين أشراطه.
والفاء لتفريع الجواب عن السؤال.
والتعريف في {البصر} للجنس المرادِ به الاستغراق، أي أبصار الناس كلهم من الشدة الحاصلة في ذلك الوقت على أنهم متفاوتون في الرعب الحاصل لهم على تفاوتهم فيما يُعرضون عليه من طرائقِ منازلهم.