29- محمد رسول الله وأصحابه الذين معه أشداء أقوياء على الكفار ، متراحمون ، متعاطفون فيما بينهم ، تُبصرهم راكعين ساجدين كثيرا ، يرجون بذلك ثوابا عظيما من الله ورضوانا عميما ، علامتهم خشوع ظاهر في وجوههم من أثر الصلاة كثيرا ، ذلك هو وصفهم العظيم في التوراة ، وصفتهم في الإنجيل كصفة زرع أخرج أول ما ينشق عنه ، فآزره ، فتحول من الدقة إلى الغلظ ، فاستقام على أصوله ، يُعجب الزراع بقوته ، وكان المؤمنون كذلك ، ليغيظ الله بقوتهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة تمحو جميع ذنوبهم ، وثوابا بالغا غاية العظم .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية التى فيها ما فيها من الثناء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه ، الذين رضى عنهم وأرضاهم فقال : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ . . . } .
وقوله - تعالى - : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } مبتدأ وخبر ، أو { مُّحَمَّدٌ } خبر لمتبدأ محذوف ، و { رَّسُولُ الله } بدل أو عطف بيان من الاسم الشريف . أى : هذا الرسول الذى أرسله الله - تعالى - بالهدى ودين الحق ، هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . { والذين مَعَهُ } وهم أصحابه - وعلى رأسهم من شهد معه صلح الحديبية ، وبايعه تحت الشجرة - من صفاتهم أنهم { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } أى : غلاظ عليهم ، وأنهم { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } .
أى : أنهم مع إخوانهم المؤمنين يتوادون ويتعاطفون ويتعاونون على البر والتقوى . .
وقوله - تعالى - { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } فيه أسمى التكريم للرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث شهد له - سبحانه - بهذه الصفة ، وكفى بشهادته - عز وجل - شهادة ، وحيث قدم الحديث عنه بأنه أرسله بالهدى ودين الحق ، ثم أخر اسمه الشريف على سبيل التنويه بفضله ، والتشويق إلى اسمه .
وفى وصف أصحابه بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، مدح عظيم لهم ، وجمع بين الوصفين على سبيل الاحتراس ، فهم ليسوا أشداء مطلقا ، ولا رحماء مطلقا ، وإنما شدتهم على أعدائهم ، ورحمتهم لإِخوانكم فى العقيدة ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم . . . } قال صاحب الكشاف : " وعن الحسن أنه قال : " بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم ، أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه . .
وأسمى من هذا كله فى بيان تراحمهم قوله - تعالى - : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . } ثم وصفهم بوصف آخر فقال : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً } .
أى : تراهم وتشاهدهم - أيها العاقل - راكعين ساجدين محافظين على الصلاة ولا يريدون من وراء ذلك إلا التقرب إلى الله - تعالى - والظفر برضاه وثوابه . .
ثم وصفهم بوصف ثالث فقال : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود . . } أى : علامتهم وهو نور يجعله الله - تعالى - فى وجوههم يوم القيامة ، وحسن سمت يعلو وجوههم وجباهم فى الدنيا ، من أثر كثرة سجودهم وطاعتهم لله رب العالمين .
فالمقصود بهذه الجملة بيان أن الوضاءة والإِشراق والصفاء . . يعلو وجوههم من كثرة الصلاة والعبادة لله ، وليس المقصود أن هناك علامة معينة - كالنكتة التى تكون فى الوجه - كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان .
واختار - سبحانه - لفظ السجود ، لأنه يمثل أعلى درجات العبودية والإِخلاص لله - تعالى - .
قال الآلوسى : " أخرج من مردويه بسند حسن عن أَبَىِّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فى قوله - تعالى - : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود } النور يوم القيامة " .
ثم قال الآلوسى : ولا يبعد أن يكون النور علامة على وجوههم فى الدنيا والآخرة - للآثار السابقة - لكنه لما كان فى الآخرة أظهر وأتم خصه النبى - صلى الله عليه وسلم - بالذكر . .
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة } يعود إلى جميع أوصافهم الجليلة السابقة ، والمثل هو الصفة العجيبة والقصة ذات الشأن . أى : ذلك الذى ذكرناه عن هؤلاء المؤمنين الصادقين من صفات كريمة تجرى مجرى الأمثال ، صفتهم فى التوراة التى أنزلها الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام - .
ثم بين - سبحانه - صفتهم فى الإِنجيل فقال : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع . . } .
وقوله : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل } معطوف على ما قبله وهو مثلهم فى التوراة ، والإِنجيل : هو الكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه عيسى - عليه السلام - .
والشط : فروع الزرع ، وهو ما خرج منه وتفرغ على شاطئيه . أى : جانبيه . وجمعه : أشطاء ، وشطوء ، يقال : شطأ الزرع وأشطأ ، إذا أخرج فروعه التى تتولد عن الأصل .
وقوله { فَآزَرَهُ } أى : فقوت تلك الفروع أصولها ، وآزرتها ، وجعلتها مكينة ثابتة فى الأرض . وأصله من شد الإِزار . تقول أزَّرْت فلانا ، إذا شددت إزاره عليه . وتقول آزرت البناء - بالمد والقصر - إذا قويت أساسه وقواعده .
ومنه قوله - تعالى - حكاية عن موسى - عليه السلام - : { واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي } .
وقوله : { فاستغلظ } أى : فصار الزرع غليظا بعد أن كان رقيقا .
وقوله : { فاستوى على سُوقِهِ } أى : فاستقم وتكامل على سيقانه التى يعلو عليها .
وقوله : { يُعْجِبُ الزراع } أى : يعجب الخبراء بالزراعة لقوته وحسن هيئته .
والمعنى : أن صفة المؤمنين فى الإِنجيل ، أنهم كالزرع ، يظهر فى أول أمره رقيقا ضعيفا متفرقا ، ثم ينبت بعضه حول بعض ، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد ، وتعجب جودته أصحاب الزراعة ، العارفين بها .
فكذلك النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، كانوا فى أول الأمر فى قلة وضعف ، ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة ، حتى بلغوا فى ذلك .
وصدق الله إذا يقول : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } قال صاحب الكشاف : " وهذا مثل ضربه الله - تعالى - لبدء أمر الإِسلام وترقيه فى الزيادة إلى أن قوى واستحكم . لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قام وحده ، ثم قواه الله - تعالى - بمن معه .
كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها ما يتولد منها ، حتى يعجب الزراع .
وعلى هذا التفسير الذى سرنا عليه يكون وصفهم فى التوراة ، هو المعبر عنه بقوله - تعالى - : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } ويكون وصفهم فى الإِنجيل هو المعبر عنه بقوله - سبحانه - : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } .
ولا شك أن هذه الأوصاف كانت موجودة فى الكتابين قبل أن يحرفا ويبدلا ، بل بعض هذه الأوصاف موجودة فى الكتابين ، حتى بعد تحريفهما .
فقد أخرج ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة قال : " مكتوب فى الإِنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " .
ويرى بعض المفسرين أن المذكور فى التوراة والإِنجيل شئ واحد ، وهو الوصف المذكور إلى نهاية قوله : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل } وعلى هذا الرأى يكون الوقف تاما على هذه الجملة ، وما بعدها وهو قوله : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ . . . } كلام مستأنف .
قال القرطبى : " قوله - تعالى - : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل . . } قال الفراء : فيه وجهان : إن شئت قلت : المعنى ذلك مثلهم فى التوراة وفى الإِنجيل أيضا ، كمثلهم فى القرآن ، فيكون الوقف على " الإِنجيل " .
وإن شئت قلت : تمام الكلام : ذلك مثلهم فى التوارة . ثم أبتدأ فقال : ومثلهم فى الإِنجيل .
وكذا قال ابن عباس وغيره : هما مثلان ، أحدهما فى التوارة ، والآخر فى الإِنجيل . . .
والذى نراه أن ما ذهب إليه ابن عباس من كونهما مثلين ، أحدهما مذكور فى التوراة والآخر فى الإِنجيل ، هو الرأى الراجح ، لأن ظاهر الآية يشهد له .
وفى هذه الصفات ما فيها من رسم صورة مشرقة مضيئة لهؤلاء المؤمنين الصادقين .
وقوله - تعالى - : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } تعليل لما يعرب عنه الكلام ، من إيجاده - تعالى - لهم على هذه الصفات الكريمة .
أى : جعلهم - سبحانه - كذلك بأن وفقهم لأن يكونوا أشداء على الكفار ، ولأن يكونوا رحماء فيما بينهم ، ولأن يكونوا مواظبين على أداء الطاعات . . لكى يغيظ بهم الكفار ، فيعيشوا وفى قلوبهم حسرة مما يرونه من صفات سامية للمؤمنين .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا الوعد الجميل ، فقال : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } .
و " من " فى قوله { مِنْهُم } الراجح أنها للبيان والتفسير ، كما فى قوله - تعالى - { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان . . } أى : وعد الله - تعالى - بفضله وإحسانه ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات . وهم أهل بيعة الرضوان ، ومن كان على شاكلتهم فى قوة الإِيمان . . وعدهم جميعا مغفرة لذنوبهم ، وأجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا هو - سبحانه - .
ويجوز أن تكون من هنا للتبعيض ، لكى يخرج من هيلاء الموعودين بالمغفرة والأجر العظيم أولئك الذين أظهروا الإِسلام وأخفوا الكفر ، وهم المنافقون الذين أبوا مبايغة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبوا الخروج معه للجهاد ، والذين من صفاتهم أنهم كانوا إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا ،
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية وأمثالها : وجوب احترام الصحابة وتوقيرهم ، والثناء عليهم ، لأن الله - تعالى - قد مدحهم ووعدهم بالمغفرة وبالأجر العظيم .
قال القرطبى : " روى أبو عروة الزبيرى من ولد الزبير أنه قال : كنا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ مالك هذه الآية : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } . فقال مالك : من أصبح من الناس فى قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية . ثم قال الإِمام القرطبى - رحمه الله - : قلت : لقد أحسن مالك فى مقالته وأصاب فى تأويله ، فمن نقص واحد منهم أو طعن عليه فى روايته ، فقد رد على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين .
وبعد : فهذا تفسير لسورة " الفتح " تلك السورة التى بشرت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بألوان من البشارات العالية ، وأدبتهم بأنواع من الآداب السامية ، وعرفتهم بأعدائهم من المنافقين والكافرين ، وحكت الكثير من مظاهر فضل الله - تعالى - ورحمته بعباده المؤمنين . .
يخبر تعالى عن محمد صلوات الله عليه {[26994]} ، أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب ، فقال : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } ، وهذا مبتدأ وخبر ، وهو مشتمل على كل وصف جميل ، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال : { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } ، كما قال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفًا على الكفار ، رحيما برًا بالأخيار ، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر ، ضحوكا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر " {[26995]} ، وقال : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه{[26996]} كلا الحديثين في الصحيح .
وقوله : { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } : وصفهم بكثرة العمل وكثرة {[26997]} الصلاة ، وهي خير الأعمال ، ووصفهم بالإخلاص فيها لله ، عز وجل ، والاحتساب عند الله جزيل الثواب ، وهو الجنة{[26998]} المشتملة على فضل الله ، وهو سعة الرزق عليهم ، ورضاه ، تعالى ، عنهم وهو أكبر من الأول ، كما قال : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
وقوله : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } يعني : السمت الحسن .
وقال مجاهد وغير واحد : يعني : الخشوع والتواضع .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطُّنَافسي ، حدثنا حسين الجَعْفي ، عن زائدة{[26999]} ، عن منصور عن مجاهد : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } قال : الخشوع قلت : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ، فقال : ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون .
وقال السدي : الصلاة تحسن وجوههم .
وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار .
وقد أسنده ابن ماجه في سننه ، عن إسماعيل بن محمد الطَّلْحي ، عن ثابت بن موسى ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله {[27000]} صلى الله عليه وسلم : " من كَثُرَتْ صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " والصحيح أنه موقوف{[27001]} .
وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس .
وقال أمير المؤمنين عثمان : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صَفَحَات وجهه ، وفَلتَات لسانه .
والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس ، كما روي عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه قال : من أصلح سريرته أصلح الله علانيته .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمود بن محمد المروزي ، حدثنا حامد بن آدم المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن محمد بن عبيد الله العَرْزَمي ، عن سلمة بن كُهَيْل {[27002]} ، عن جُنْدَب بن سفيان البَجَلي قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر " ، العرزمي متروك {[27003]} .
وقال {[27004]} الإمام أحمد : حدثنا حسن بن {[27005]} موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائنا ما{[27006]} كان " {[27007]} .
وقال {[27008]} الإمام أحمد [ أيضا ] {[27009]} : حدثنا حسن ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا قابوس بن أبي ظَبْيَان : أن أباه حدثه عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الهدي الصالح ، والسمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة " ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي ، عن زهير ، به{[27010]} .
فالصحابة [ رضي الله عنهم ]{[27011]} خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم ، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم .
وقال مالك ، رحمه الله : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون : " والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا " . وصدقوا في ذلك ، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة {[27012]} ؛ ولهذا قال هاهنا : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } ، ثُمَّ قَالَ : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } : { أَخْرَجَ شَطْأَهُ ] } {[27013]} أي : فراخه ، { فَآزَرَهُ } أي : شده { فَاسْتَغْلَظَ } أي : شب وطال ، { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } أي : فكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع ، { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } .
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك - رحمه الله ، في رواية عنه - بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة ، قال : لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية . ووافقه طائفة من العلماء على ذلك . والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة {[27014]} ، ويكفيهم ثناء الله عليهم ، ورضاه عنهم .
ثم قال : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ } من " هذه لبيان الجنس ، { مَغْفِرَةً } أي : لذنوبهم . { وَأَجْرًا عَظِيمًا } أي : ثوابا جزيلا ورزقا كريما ، ووعد الله حق وصدق ، لا يخلف ولا يبدل ، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم ، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم {[27015]} ، وقد فعل .
قال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " {[27016]} .
وقوله : مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِين مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يقول تعالى ذكره : محمد رسول الله وأتباعه من أصحابه الذين هم معه على دينه ، أشدّاء على الكفار ، غليظة عليهم قلوبهم ، قليلة بهم رحمتهم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يقول : رقيقة قلوب بعضهم لبعض ، لينة أنفسهم لهم ، هينة عليهم لهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ألقى الله في قلوبهم الرحمة ، بعضهم لبعض تَرَاهُمْ رُكّعا سُجّدا يقول : تراهم ركعا أحيانا لله في صلاتهم سجدا أحيانا يبتغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ يقول : يلتمسون بركوعهم وسجودهم وشدّتهم على الكفار ورحمة بعضهم بعضا ، فضلاً من الله ، وذلك رحمته إياهم ، بأن يتفضل عليهم ، فيُدخلهم جنته وَرِضْوَانا يقول : وأن يرضى عنهم ربهم .
وقوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ أثَرِ السّجُودِ يقول : علامتهم في وجوههم من أثر السجود في صلاتهم . ثم اختلف أهل التأويل في السيما الذي عناه الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : ذلك علامة يجعلها الله في وجوه المؤمنين يوم القيامة ، يعرفون بها لما كان من سجودهم له في الدينا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد الله العتكي ، عن خالد الحنفي ، قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السجُودِ قال : يعرف ذلك يوم القيامة في وجوههم من أثر سجودهم في الدنيا ، وهو كقوله : تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النّعِيمِ .
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد ، قال : حدثنا أبي ، عن فضيل بن مروزق ، عن عطية ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : مواضع السجود من وجوههم يوم القيامة أشد وجوههم بياضا .
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا ابن فضيل ، عن فضيل ، عن عطية ، بنحوه .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن فضيل ، عن عطية ، بنحوه .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا فضيل ، عن عطية ، مثله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت شبيبا يقول عن مقاتل بن حيان ، قال : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : النور يوم القيامة .
حدثنا ابن سنان القزاز ، قال : حدثنا هارون بن إسماعيل ، قال : قال عليّ بن المبارك : سمعت غير واحد عن الحسن ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ منْ أثَرِ السّجُودِ قال : بياضا في وجوههم يوم القيامة .
وقال آخرون : بل ذلك سيما الإسلام وسَمْته وخشوعه ، وعنى بذلك أنه يرى من ذلك عليهم في الدنيا ذكر من قال ذلك :
حدثنا علي ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قال : السّمُت الحَسَن .
قال : ثنا مجاهد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا الحسن بن عُمارة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : أما إنه ليس بالذي تَرَوْن ، ولكنه سيما الإسلام وسَحْنته وسَمْته وخشوعه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد سِيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : الخشوع والتواضع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، مثله .
قال : ثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : الخشوع .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في هذه الآية سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : السّحنْة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : هو الخشوع ، فقلت : هو أثر السجود ، فقال : إنه يكون بين عينيه مثل ركبة العَنْز ، وهو كما شاء الله .
وقال آخرون : ذلك أثر يكون في وجوه المصلين ، مثل أثر السّهَر ، الذي يظهر في الوجه مثل الكَلَف والتهيج والصفرة ، وما أشبه ذلك مما يظهره السهر والتعب في الوجه ، ووجهوا التأويل في ذلك إلى أنه سيما في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن سِيماهُمْ في وجُوُهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : الصفرة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم الشيخ الذي كان يقصّ في عُسر ، وقرأ سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ فزعم أنه السّهَر يُرى في وجوههم .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّيّ ، عن حفص ، عن شَمِر بن عَطية ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قال : تهيّج في الوجه من سهر الليل .
وقال آخرون : ذلك آثار ترى في الوجه من ثَرَى الأرض ، أو نَدَى الطّهّور . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حَوْثرة بن محمد المِنقري ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة وحدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير جميعا عن ثعلبة بن سهيل ، عن جعفر بن أبي المُغيرة ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : ثَرى الأرض ، ونَدى الطّهُور .
حدثنا ابن سنان القزّاز ، قال : حدثنا هارون بن إسماعيل ، قال : حدثنا عليّ بن المبارك ، قال : حدثنا مالك بن دينار ، قال : سمعت عكرِمة يقول : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : هو أثر التراب .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في وجوههم من أثر السجود ، ولم يخصّ ذلك على وقت دون وقت . وإذ كان ذلك كذلك ، فذلك على كلّ الأوقات ، فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام ، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته ، وآثار أداء فرائضه وتطوّعه ، وفي الاَخرة ما أخبر أنهم يعرفون به ، وذلك الغرّة في الوجه والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء ، وبياض الوجوه من أثر السجود . وبنحو الذي قلنا في معنى السيما قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ يقول : علامتهم أو أعلمتهم الصلاة .
وقوله : ذلكَ مَثَلَهُمْ فِي التّوْرَاةِ يقول : هذه الصفة التي وصفت لكم من صفة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذين معه صفتهم في التوراة .
وقوله : وَمَثَلُهُمْ في الإنجِيلِ كَزَرْع أخْرَجَ شَطْأَهُ يقول : وصفتهم في إنجيل عيسى صفة زرع أخرج شطأه ، وهو فراخه ، يقال منه : قد أشطأ الزرع : إذا فرّخ فهو يشطىء إشطاء ، وإنما مثلهم بالزرع المشطىء ، لأنهم ابتدأوا في الدخول في الإسلام ، وهم عدد قليلون ، ثم جعلوا يتزايدون ، ويدخل فيه الجماعة بعدهم ، ثم الجماعة بعد الجماعة ، حتى كثر عددهم ، كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه ، ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أصحابه مثلهم ، يعني نعتهم مكتوبا في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق السموات والأرض .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ . . . إلى قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ ثم قال : وَمَثَلهُمْ في الإنجيل كَزَرْعَ أخْرَجَ شَطْأَهُ . . . الآية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذلك مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ : أي هذا المثل في التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ فهذا مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنجيل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شطأَهُ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : سيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاة يعني السيما في الوجوه مثلهم في التوراة ، وليس بمَثَلهم في الإنجيل ، ثم قال عزّ وجلّ : وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ . . . الآية ، هذا مثلهم في الإنجيل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك في قول الله : مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ . . . الآية ، قال : هذا مثلهم في التوراة ، ومثل آخر في الإنجيل كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فآزَرَهُ الآية .
وقال آخرون : هذان المَثَلان في التوراة والإنجيل مثلهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ والإنجيل واحد .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : مثلهم في التوراة ، غير مثَلهم في الإنجيل ، وإن الخبر عن مَثلهم في التوراة متناهٍ عند قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وذلك أن القول لو كان كما قال مجاهد من أن مثلهم في التوراة والإنجيل واحد ، لكان التنزيل : ومثلهم في الإنجيل ، وكزرع أخرج شطأه ، فكان تمثيلهم بالزرع معطوفا على قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ حتى يكون ذلك خبرا عن أن ذلك مَثلهم في التوراة والإنجيل ، وفي مجيء الكلام بغير واو في قوله : كَزَرْعٍ دليل بَيّن على صحة ما قُلنا ، وأن قولهم وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ خبر مبتدأ عن صفتهم التي هي في الإنجيل دون ما في التوراة منها . وبنحو الذي قلنا في قوله أخْرَجَ شَطْأَهُ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، قال : بينا عبد الله يقرىء رجلاً عند غروب الشمس ، إذ مرّ بهذه الآية كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ قال : أنتم الزرع ، وقد دنا حصادكم .
قال : ثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن حُميد الطويل ، قال : قرأ أنس بن مالك : كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ قال : تدرون ما شطأه ؟ قال : نباته .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ قال : سنبله حين يتسلع نباته عن حباته .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ قال : هذا مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل ، قيل لهم : إنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، منهم قوم يأمرون بالمعروف ، وينهوّن عن المنكر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والزهريّ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قالا : أخرج نباته .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، يكونون قليلاً ، ثم يزدادون ويكثرون ويستغلظون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أولاده ، ثم كثرت أولاده .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قال : ما يخرج بجنب الحقلة فيتمّ وينمى .
وقوله : فآزرَهُ يقول : فقوّاه : أي قوّى الزرعَ شطأه وأعانه ، وهو من المؤازرة التي بمعنى المعاونة فاسْتَغْلَظَ يقول : فغلظ الزرع فاسْتَوَى على سُوقِهِ والسوق : جمع ساق ، وساق الزرع والشجر : حاملته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، فآزَرَهُ يقول : نباته مع التفافه حين يسنبل ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ فهو مثل ضربه لأهل الكتاب إذا خرج قوم ينبتون كما ينبت الزرع فيبلغ فيهم رجل يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ثم يغلظون ، فهم أولئك الذين كانوا معهم . وهو مَثل ضربه الله لمحمد صلى الله عليه وسلم يقول : بعث الله صلى الله عليه وسلم وحده ، ثم اجتمع إليه ناس قليل يؤمنون به ، ثم يكون القليل كثيرا ، ويستغلظون ، ويغيظ الله بهم الكفار .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله فآزَرَهُ قال : فشدّه وأعانه .
وقوله : عَلى سُوقِهِ قال : أصوله .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والزهري فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظ فاسْتَوَى عَلى سُوقِهِ يقول : فتلاحق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فآزَرَهُ اجتمع ذلك فالتفّ قال : وكذلك المؤمنون خرجوا وهم قليل ضعفاء ، فلم يزل الله يزيد فيهم ، ويؤيدهم بالإسلام ، كما أيّد هذا الزرع بأولاده ، فآزره ، فكان مثلاً للمؤمنين .
حدثني عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوَى عَلى سُوقِهِ يقول : حبّ برّ نُثِرَ متفرّقا ، فتنبت كلّ حبة واحدة ، ثم أنبتت كلّ واحدة منها ، حتى استغلظ فاستوى على سوقه قال : يقول : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قليلاً ، ثم كثروا ، ثم استغلظوا لِيَغِيظَ الله بِهِمُ الكُفّارَ .
وقوله : يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ يقول تعالى ذكره : يعجب هذا الزرعُ الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه وحُسن نباته ، وبلوغه وانتهائه الذين زرعوه لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ يقول : فكذلك مَثل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، واجتماع عددهم حتى كثروا ونموا ، وغلظ أمرهم كهذا الزرع الذي وصف جلّ ثناؤه صفته ، ثم قال : لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارِ فدلّ ذلك على متروك من الكلام ، وهو أن الله تعالى فعل ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ يقول الله : مثلهم كمثل زرع أخرج شطأه فآزَره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، حتى بلغ أحسن النبات ، يُعْجِب الزرّاع من كثرته ، وحُسن نباته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يُعْجِبُ الزرّاع قال : يعجب الزرّاع حُسنه لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ بالمؤمنين ، لكثرتهم ، فهذا مثلهم في الإنجيل .
وقوله : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وعَملُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وأجْرا عَظِيما يقول تعالى ذكره : وعد الله الذين صدّقوا الله ورسوله وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : وعملوا بما أمرهم الله به من فرائضه التي أوجبها عليهم .
وقوله : مِنْهُمْ يعني : من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون فِي الإسلام بعد الزرع الذي وصف ربنا تبارك وتعالى صفته . والهاء والميم في قوله مِنْهُمْ عائدة على معنى الشطء لا على لفظه ، ولذلك جمع فقيل : «منهم » ، ولم يقل «منه » . وإنما جمع الشطء لأنه أريد به من يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة بعد الجماعة الذين وصف الله صفتهم بقوله : وَالّذِين مَعَهُ أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُم رُكّعا سُجّدا .
وقوله وَمَغْفِرَةً يعني : عفوا عما مضى من ذنوبهم ، وسيىء أعمالهم بحسنها . وقوله : وأجْرا عَظيما يعني : وثوابا جزيلاً ، وذلك الجنة .
وقوله تعالى : { محمد رسول الله } قال جمهور الناس : هو ابتداء وخبر استوفي فيه تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله : و { الذين معه } ابتداء وخبره : { أشداء } و { رحماء } خبر ثان . وقال قوم من المتأولين : { محمد } «ابتداء » و : { رسول الله } صفة له { والذين } عطف عليه . و : { أشداء } خبر وهؤلاء بوصفهم ، وفي القول الثاني اشترك الجميع في الشدة والرحمة .
قال القاضي أبو محمد : والأول عندي أرجح ، لأنه خبر مضاد لقول الكفار لا نكتب محمد رسول الله .
وقوله : { والذين معه } إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن الإشارة إلى من شهد الحديبية : ب { الذين معه } . و : { أشداء } جمع شديد ، أصله : أشدداء ، أدغم لاجتماع المثلين .
وقرأ الجمهور : «اشداءُ » «رحماءُ » بالرفع ، وروى قرة عن الحسن : «أشداءَ » رحماءَ «بنصبهما قال أبو حاتم : ذلك على الحال والخبر : { تراهم } . قال أبو الفتح : وإن شئت نصبت » أشداءَ «على المدح . وقوله : { تراهم ركعاً سجداً } ، أي ترى هاتين الحالتين كثيراً فيهم . و : { يبتغون } معناه يطلبون . وقرأ عمر وابن عبيد : » ورُضواناً «بضم الراء .
وقوله : { سيماهم } معناه : علامتهم . واختلف الناس في تعيين هذه السيما ، فقال مالك بن أنس : كانت جباههم متربة من كثرة السجود في التراب ، كان يبقى على المسح أثره ، وقاله عكرمة . وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب . وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية : هو وعد بحالهم يوم القيامة من أن الله تعالى يجعل لهم نوراً { من أثر السجود } .
قال القاضي أبو محمد : كما يجعل غرة من أثر الوضوء . . . . الحديث{[10432]} ، ويؤيد هذا التأويل اتصال القول بقوله : { فضلاً من الله ورضواناً } كأنه قال : علامتهم في تحصيلهم الرضوان يوم القيامة : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } . ويحتمل أن تكون السيما بدلاً من قوله : { فضلاً } . وقال ابن عباس : السمت الحسن : هو السيما ، وهو الخشوع خشوع يبدو على الوجه .
قال القاضي أبو محمد : وهذه حالة مكثري الصلاة ، لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ، وتقل الضحك وترد النفس بحالة تخشع معها الأعضاء .
وقال الحسن بن أبي الحسن وشمر بن عطية{[10433]} : السيما : بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجوه من السهر . وقال منصور : سألت مجاهداً : أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل ؟ فقال : لا ، وقد تكون مثل ركبة البعير ، وهو أقسى قلباً من الحجارة . وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس{[10434]} : السيما : حسن يعتري وجوه المصلين .
قال القاضي أبو محمد : وذلك لأن الله تعالى يجعل لها في عين الرأي حسناً تابعاً للإجلال الذي في نفسه ، ومتى أجل الإنسان أمراً حسناً عنده منظره ، ومن هذا الحديث الذي في الشهاب : ( من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ){[10435]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حديث غلط فيه ثابت بن موسى الزاهد ، سمع شريك بن عبد الله{[10436]} يقول : حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ثم نزع{[10437]} شريك لما رأى ثابت الزاهد فقال : يعنيه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ، فظن ثابت أن هذا الكلام متركب على السند المذكور فحدث به عن شريك .
وقرأ الأعرج : «من إثْر » بسكون الثاء وكسر الهمزة . قال أبو حاتم هما بمعنى . وقرأ قتادة : «من آثار » ، جمعاً .
وقوله تعالى : { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } الآية ، المثل هنا الوصف أو الصفة . وقال بعض المتأولين : التقدير الأمر { ذلك } وتم الكلام . ثم قال : { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع } . وقال مجاهد وجماعة من المتأولين : المعنى { ذلك } الوصف هو { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } وتم القول ، و : { كزرع } ابتداء تمثيل يختص بالقرآن . وقال الطبري وحكاه عن الضحاك المعنى : { ذلك } الوصف هو { مثلهم في التوراة } وتم القول ، ثم ابتدأ { ومثلهم في الإنجيل كزرع } . وقال آخرون : المثلان جميعاً هي في التوراة وهي في الإنجيل .
وقوله تعالى : { كزرع } ، هو على كل الأقوال وفي أي كتاب منزل : فرض مثل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وحده ، فكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء : وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل ، يقال : أشطأت الشجرة إذا خرجت غصونها ، وأشطأ الزرع : إذا أخرج شطأه{[10438]} .
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر : «شَطأ » بفتح الطاء والهمز دون مد ، وقرأ الباقون بسكون الطاء ، وقرأ عيسى بن عمر : «شطاه » بفتح الطاء دون همز{[10439]} ، وقرأ أبو جعفر : «شطه » رمى بالهمزة وفتح الطاء ، ورويت عن نافع وشيبة . وروي عن عيسى : «شطاءه » بالمد والهمز ، وقرأ الجحدري : «شطوه » بالواو . قال أبو الفتح هي لغة أو بدل من الهمزة ، ولا يكون الشطو إلا في البر والشعير ، وهذه كلها لغات . وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : الزرع : النبي صلى الله عليه وسلم ، { فآزره } . علي بن أبي طالب رضي الله عنه { فاستغلظ } بأبي بكر ، { فاستوى على سوقه } : بعمر بن الخطاب .
وقوله تعالى : { فآزره } وزنه : أفعله ، أبو الحسن ورجحه أبو علي . وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر : «فأزره » على وزن : فعله دون مد ، ولذلك كله معنيان : أحدهما ساواه طولاً ، ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
بمحنية قد آزر الضال نبتها . . . بجر جيوش غانمين وخيب{[10440]}
أي هو موضع لم يزرع فكمل نبته حتى ساوى شجر الضال ، فالفاعل على هذا المعنى : الشطء والمعنى الثاني : إن آزره وأزره بمعنى : أعانه وقواه ، مأخوذ ذلك من الأزر وشده ، فيحتمل أن يكون الفاعل الشطء ، ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع ، لأن كل واحد منهما يقوي صاحبه وقال ابن مجاهد وغيره «آزره » وزنه : فاعله ، والأول أصوب أن وزنه : أفعله ، ويدلك على ذلك قول الشاعر : [ المنسرح ]
لا مال إلا العطاف تؤزره . . . أم ثلاثين وابنة الجبل{[10441]}
وقرأ ابن كثير : «على سؤقه » بالهمز ، وهي لغة ضعيفة ، يهمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر [ جرير ] :
لحب المؤقِدان إلي مؤسي {[10442]} وجعدة إذا أضاءهما الوقود . . .
و : { يعجب الزراع } جملة في موضع الحال ، وإذا أعجب { الزراع } ، فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه ، إذ قد أعجب العارفين بالعيوب ولو كان معيباً لم يعجبهم ، وهنا تم المثل .
وقوله تعالى : { ليغيظ بهم الكفار } ابتداء كلام قبله محذوف تقديره : جعلهم الله بهذه الصفة { ليغيظ بهم الكفار } ، و { الكفار } هنا المشركون . قال الحسن : من غيظ الكفار قول عمر بمكة : لا عبد الله سراً بعد اليوم .
وقوله تعالى : { منهم } هي لبيان الجنس وليست للتبعيض{[10443]} ، لأنه وعد مرجٍّ للجميع .