ثم بين - سبحانه - ما هم عليه في الجنة من صفاء نفسى ، ونقاء قلبى فقال : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } .
والنزع : القلع يقال : نزع فلان هذا الشىء من مكانه إذا قلعه منه ، وفعله من باب ضرب والغل : الحقد والضغينة ، وأصله من الغلالة ، وهى ما يلبس بين الثوبين : الشعار والدثار .
أو من الغلل وهو الماء المتخلل بين الأشجار . ويقال : غل صدر فلان يغل - بالكسر - غلا إذا كان ذا غش ، أو ضغن ، أو حقد .
والسرر : جمع سرير وهو المكان المهيأ لراحة الجالس عليه وإدخال السرور على قلبه .
أى : وقلعنا ما في صدور هؤلاء المتقين من ضغائن وعداوات كانت موجودة فيها في الدنيا ، وجعلناهم يدخلون الجنة إخوانًا متحابين متصافين ، ويجلسون متقابلين ، على سرر مهيأة لراحتهم ورفاهيتهم وإدخال السرور على نفوسهم .
وقوله : { إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } حال عن فاعل { ادخلوها } .
وعبر بقوله { متقابلين } لأن مقابلة الوجه للوجه أدخل في الإِيناس ، وأجمع للقلوب .
والآية الكريمة تشعر بأنهم في الجنة ينشئهم الله - تعالى - نشأة أخرى جديدة وتكون قلوبهم فيها خالية من كل ما كان يخالطهم في الدنيا من ضغائن وعداوات وأحقاد وأطماع وغير ذلك من الصفات الذميمة ، ويصلون بسبب هذه النشأة الجديدة إلى منتهى الرقى البشرى . . .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث والآثار منها ما رواه القاسم عن أبى أمامة قال : يدخل أهل الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن ، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل ، ثم قرأ : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ .
ومنها : ما رواه أبو مالك الأشجعى عن أبي حبيبة - مولى لطلحة - قال : دخل عمران ابن طلحة على الإِمام على بن أبى طالب بعد ما فرغ من أصحاب الجمل ، فرحب على - رضى الله عنه - به ، وقال : إنى لأرجو أن يجعلنى الله وإياك من الذين قال الله فيهم : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ . . . } .
وذكر الله تعالى في هذه الآية أنه ينزع الغل من قلوب أهل الجنة ، ولم يذكر لذلك موطناً ، وجاء في بعض الحديث أن ذلك على الصراط ، وجاء في بعضها أن ذلك على أبواب الجنة ، وفي لفظ بعضها أن الغل ليبقى على أبواب الجنة كمعاطن الإبل{[7178]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا على أن الله تعالى يجعل ذلك تمثيلاً بلون يخلقه هناك ونحوه ، وهذا كحديث ذبح الموت{[7179]} ، وقد يمكن أيضاً أن يسل من الصدور ، ولذلك جواهر سود فيكون كمبارك الإبل ، وجاء في بعض الأحاديث أن نزع الغل إنما يكون بعد استقرارهم في الجنة .
قال القاضي أبو محمد : والذي يقال في هذا أن الله ينزعه في موطن من قوم وفي موطن من آخرين ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله تعالى فيهم : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين } . وذكر أن ابناً لطلحة كان عنده{[7180]} فاستأذن الأشتر فحبسه مدة ثم أذن له فدخل ، فقال ألهذا حبستني وكذلك لو كان ابن عثمان حبستني له فقال علي نعم إني وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم { ونزعنا ما في صدورهم من غل } الآية .
قال القاضي أبو محمد : وقد روي أن المستأذن غير الأشتر و { إخواناً } نصب على الحال{[7181]} ، وهذه أخوة الدين والود ، والأخ من ذلك يجمع على إخوان وإخوة أيضاً ، والأخ من النسب يجمع أخوة وإخاء ، ومنه قول الشاعر :
وأي بني الإخاء تصفو مذاهبه{[7182]} . . . ويجمع أيضاً إخواناً و { سرر } جمع سرير ، و { متقابلين } الظاهر أن معناه في الوجوه ، إذ الأسرة متقابلة فهي أحسن في الرتبة ، قال مجاهد لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه ، وقيل { متقابلين } في المودة ، وقيل غير هذا مما لا يعطيه اللفظ .
جملة ونزعنا ما في صدورهم من غل } عطف على الخبر ، وهو { في جنات وعيون } . والتقدير : إن المتقين نزعنا ما في صدورهم من غِلّ .
والغِلّ بكسر الغين البغض . وتقدم في قوله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غلّ تجري من تحتهم الأنهار } في سورة الأعراف ( 43 ) ، أي ما كان بين بعضهم من غلّ في الدنيا .
و{ إخواناً } حال ، وهو على معنى التشبيه ، أي كالإخوان ، أي كحال الإخوان في الدنيا .
وأول من يدخل في هذا العموم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم من الحوادث الدافع إليها اختلاف الاجتهاد في إقامة مصالح المسلمين ، والشدة في إقامة الحق على حسب اجتهادهم . كما روي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال : إني لأرجو من أن أكون أنا وطلحة ممن قال الله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً } . فقال جاهل من شيعة عليّ اسمه الحارث بن الأعور الهمذاني : كلا ، اللّهُ أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد . فقال عليّ : « فلمن هذه الآية لا أمّ لك بِفيك التراب » .
والسرر : جمع سرير . وهو محمل كالكرسي متّسع يمكن الاضطجاع عليه . والاتّكاء : مجلس أصحاب الدعة والرفاهية لتمكن الجالس عليه من التقلّب كيف شاء حتى إذا ملّ جِلسة انقلب لغيرها .
والتقابل : كون الواحد قبالة غيره ، وهو أدخل في التأنس بالرؤية والمحَادثة .