ثم ساق - سبحانه - في ختام حديثه عن الربا آية كريمة ذكر الناس فيها بزوال الدنيا وفناء ما فيها من أموال ، وبالاستعداد للآخرة وما فيها من حساب فقال - تعالى - : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون } .
أي : واحذروا أيها المؤمنون يوما عظيما في أهواله وشدائده ، وهو يوم القيامة الذي تعودون فيه إلى خالقكم فيحاسبكم على أعمالكم ، ثم يجازي - سبحانه كل نفس بما كسبت من خير أو شر بمقتضى عدله وفضله ، ولا يظلم ربك أحدا .
فالآية الكريمة تعقيب حكيم يتناسب كل التناسب مع جو المعاملات والأخذ والعطاء ، حتى يبتعد الناس عن كل معاملة لم يأذن بها الله - تعالى - .
قال الآلوسي : أخرج غير واحد عن ابن عباس أن هذه الآية هي آخر ما " نزل على رسول صلى الله عليه وسلم من القرآن : واختلف في مدة بقائه بعدها . فقيل : تسع ليال . وقيل : سبعة أيام . وقيل : واحد وعشرين يوماً . وروى أنه قال : اجعلوها بين آيات الربا وآية الدين " .
هذا ، والمتدبر في هذه الآيات التي وردت في موضع الربا ، يراها قد نفرت منه تنفيراً شديداً ، وتوعدت متعاطية بأشد العقوبات ، وشبهت الذين يأكلونه بتشبيهت تفزع منها النفوس ، وتشمئز منها القلوب ، وحضت المؤمنين على أن يلتزموا في معاملاتهم ما شرعه الله لهم ، وأن يتسامحوا مع المعسرين ويتصدقوا عليهم بما يستطيعون التصدق به .
وقد تكلم الفقهاء وبعض المفسرين عن الربا وأقسامه وحكمه تحريمه كلاما مستفيضا ، قال بعضهم : الربا قسمان : ربا النسيئة ، وربا الفضل .
فربا النسيئة : هو الذي كان معروفا بين العرب في الجاهلية ، وهو أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوه في موعد معين ، فإذا حل الأجل طولب المدين برأس المال كاملا ، فإن تعذر الأداء زادوا في الحق وفي الأجل .
وكان ابن عباس في أول الأمر لا يحرم إلا ربا النسيئة وكان يجوز ربا الفضل اعتماداً على ما روى من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الربا في النسيئة " ولكن لما تواتر عنده الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد " رجع عن قوله . لأن قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الربا في النسيئة " محمول على اختلاف الجنس فإن النسيئة حينئذ تحرم ويباح التفاضل كبيع الحنطة بالشعير . تحرم فيه النسيئة ويباح التفاضل .
ولذلك وقع الاتفاق على تحريم الربا في القسمين : أما ربا النسيئة فقد ثبت تحريمه بالقرآن كما في قوله - تعالى - : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } .
وأما ربا الفضل فقد ثبت تحريمه بالحديث الصحيح الذي رواه عبادة ابن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير والتمر بالتمر . والملح بالملح . مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يداً بيد " .
وقد اشتهرت رواية هذا الحديث حتى صارت مسلمة عند الجميع . وجمهور العلماء على " أن الحرمة ليست مقصورة على هذه الأشياء الستة ، بل تتعداها إلى غيرها مما يتحد معها في العلة وقد فسر بعضهم هذه العلة باتحاد الجنس والقدر . . " .
ومن الحكم التي ذكرت في أسباب تحريم الربا : أنه يقتضي أخذ مال الغير بدون عوض ، ويؤدي إلى امتناع أصحاب الأموال عن تحمل المشاق في الكسب والتجارة والصناعة ، وإلى استغلال حاجة المحتاج أسوأ استغلال وكل ذلك يفضي إلى إشاعة روح التباغض والتخاصم والتحاسد بين أفراد المجتمع - كما سبق أن أشرنا - .
ومن الأحاديث الشريفة التي وردت في التحذير من تعاطي الربا ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات - أي المهلكات - قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " .
وأخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن عبيد الله قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه " .
ثم يجيء التعقيب العميق الإيحاء ، الذي ترجف منه النفس المؤمنة ، وتتمنى لو تنزل عن الدين كله ، ثم تمضي ناجية من الله يوم الحساب :
( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله . ثم توفى كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون ) . .
واليوم الذي يرجعون فيه إلى الله ، ثم توفى كل نفس ما كسبت يوم عسير ، له في القلب المؤمن وقع ؛ ومشهده حاضر في ضمير المؤمن ، وله في ضمير المؤمن هول . والوقوف بين يدي الله في هذا اليوم خاطر يزلزل الكيان !
وهو تعقيب يتناسق مع جو المعاملات . جو الأخذ والعطاء . جو الكسب والجزاء . . إنه التصفية الكبرى للماضي جميعه بكل ما فيه . والقضاء الأخير في الماضي بين كل من فيه . فما أجدر القلب المؤمن أن يخشاه وأن يتوقاه .
إن التقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير ؛ يقيمه الإسلام هناك لا يملك القلب فرارا منه لأنه في الأعماق هناك !
إنه الإسلام . . النظام القوي . . الحلم الندي الممثل في واقع أرضي . . رحمة الله بالبشر . وتكريم الله للإنسان . والخير الذي تشرد عنه البشرية ؛ ويصدها عنه أعداء الله وأعداء الإنسان !
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( 281 )
وقوله تعالى : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } إلى آخر الآية ، وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان( {[2753]} ) ، و { يوماً } منصوب على المفعول لا على الظرف . وقرأ أبو عمرو بن العلاء «تَرجِعون » بفتح التاء وكسر الجيم ، وقرأ باقي السبعة «تُرجعَون » بضم التاء وفتح الجيم ، فمثل قراءة أبي عمرو { إن إلينا إيابهم }( {[2754]} ) [ الغاشية : 25 ] ومثل قراءة الجماعة { ثم ردوا إلى الله }( {[2755]} ) [ الأنعام : 62 ] { ولئن رددت إلى ربي }( {[2756]} ) [ الكهف : 36 ] المخاطبة في القراءتين بالتاء على جهة المبالغة في الوعظ والتحذير ، وقرأ الحسن «يرْجعون » بالياء على معنى يرجع جميع الناس .
قال ابن جني كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تتفطر له القلوب . فقال لهم : { واتقوا يوماً } ، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقاً بهم( {[2757]} ) ، وقرأ أبي بن كعب «يوماً تُردون » بضم التاء ، وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية ، وقال قوم هو يوم الموت ، والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية ، وفي قوله : { إلى الله } مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه ، وقوله { وهم } رد على معنى كل نفس لا على اللفظ إلا على قراءة الحسن «يرجعون » ، فقوله : { وهم } رد على ضمير الجماعة في «يرجعون » ، وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الإنسان . وهذا رد على الجبرية( {[2758]} ) .
جيء بقوله : { واتقوا يوماً } تذييلاً لهاته الأحكام لأنّه صالح للترهيب من ارتكاب ما نهي عنه والترغيب في فعل ما أمر به أو ندب إليه ، لأن في ترك المنهيات سلامة من آثامها ، وفي فعل المطلوبات استكثاراً من ثوابها ، والكل يرجع إلى اتّقاء ذلك اليوم الذي تُطلب فيه السلامة وكثرة أسباب النجاح .
وفي « البخاري » عن ابن عباس أنّ هذه آخر آية نزلت . وعن ابن عباس هي آخر ما نزل فقال جبريل : « يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة » . وهذا الذي عليه الجمهور ، قاله ابن عباس والسُّدي والضحاك وابن جريج وابن جبير ومقاتل . وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها واحداً وعشرين يوماً ، وقيل واحداً وثمانين ، وقيل سبعة أيام ، وقيل تسعة ، وقيل ثلاث ساعات . وقد قيل : إنّ آخر آية هي آية الكلالة ، وقيل غير ذلك ، وقد استقصى الأقوال صاحب الإتقان .
وقرأه الجمهور ترجعون بضم التاء وفتح الجيم ، وقرأ يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم .