اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (281)

قوله : { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ } الآية انتصب قوله " يَوْماً " على المفعول به ، لا على الظرف ؛ لأنه ليس المعنى واتَّقوا في هذا اليوم ، لكن المعنى تأهَّبوا للقائه ، بما تقدِّمون من العمل الصالح ، ومثله : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيباً } [ المزمل :17 ] أي : كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه ، مع الكفر بالله تعالى .

فصل في آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن

قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هذه آخر آيةٍ نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما حجَّ نزلت { وَيَسْتَفْتُونَكَ } [ النساء :172 ] وهي آية الكلالة ثم نزلت ، وهو واقفٌ بعرفة { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة :3 ] ثم نزل { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ } فقال جبريل - عليه السلام - يا محمد ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة ، وعاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها أحداً وثمانين يوماً{[4783]} ، وقيل أحداً وعشرين يوماً .

وقال ابن جريجٍ : تسع ليالٍ{[4784]} .

وقال سعيد بن جبير : سبع ليالٍ ، وقيل : ثلاث ساعاتٍ ، ومات يوم الاثنين ، لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ، حين زاغت الشمس ، سنة إحدى عشرة من الهجرة{[4785]} .

وقال الشعبي ، عن ابن عباس : آخر آيةٍ نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية الرِّبا{[4786]} .

قوله تعالى : { تُرْجَعُونَ فِيهِ } : هذه الجملة في محلِّ نصبٍ ؛ صفةً للظرف . وقرأ أبو عمرو{[4787]} : " تَرْجِعُونَ " بفتح التاء ؛ مبنياً للفاعل ، والباقون بضَمِّ التَّاءِ مبنياً للمفعُولِ . وقرأ الحسنُ{[4788]} : " يَرْجِعُون " بياء الغيبة ؛ على الالتفات . قال ابن جنِّي{[4789]} : " كأنَّ اللهَ تعالى رَفَقَ بالمؤمنينَ عن أنْ يواجِهَهُم بذكر الرَّجْعَة ، إذ هي ممَّا تتفطَّر لها القلوب ، فقال لهم : " واتَّقُوا " ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة ، فقال : يَرْجِعُون " .

واعلم أنَّ الرجوع لازمٌ ومتعدٍّ ، وعليه خرِّجت القراءتان .

فصل في المراد باليوم

قال القاضي : اليوم : عبارةٌ عن زمانٍ مخصوصٍ ، وذلك لا يتَّقى ؛ إنَّما يتقى ما يحدث فيه من الشِّدة ، والأهوال ، واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلاَّ في دار الدُّنيا بمجانبة المعاصي ، وفعل الواجبات ؛ فصار قوله : { وَاتَّقُوا يَوْماً } يتضمن الأمر بجميع أنواع التكليف .

قال جمهور العلماء : المراد بهذا اليوم المحذَّر منه هو يوم القيامة .

وقيل يوم الموت ، قال ابن عطية : والأول أصحُّ .

فصل

اعلم أنَّ الرجوع إلى الله ليس المراد منه ، ما يتعلق بالمكان والجهة ؛ فإن ذلك محالٌ على الله تعالى ، وليس المراد الرجوع إلى علمه ، وحفظه ؛ فإنه معهم أينما كانوا ، لكن كل ما في القرآن من الرجوع إلى الله ، فله معنيان :

الأول : أن الإنسان له ثلاثة أحوالٍ مرتَّبين ، فالأولى : كونهم في بطون أمَّهاتهم لا يملكون نفعهم ، ولا ضرَّهم ؛ بل المتصرف فيهم ليس إلاَّ الله تعالى .

والثانية : بعد خروجهم من البطون ، فالمتكفل بإصلاح أحوالهم في أوَّل الأمر الأبوان ، ثم بعد ذلك ، يتصرف بعضهم في بعض ، في حكم الظاهر .

الثالثة : بعد الموت وهناك لا يتصرف فيهم إلاَّ الله تعالى ، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا ، فهذا معنى الرجوع إلى الله .

المعنى الثاني : أن المراد يرجعون إلى ما أعدَّ الله لهم من ثوابٍ ، وعقابٍ .

قوله : { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَت } معناه : أنَّ المكلف يصل إليه جزاء عمله بالتمام ، كما قال : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة :7 ، 8 ] ، وقال : { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء :47 ] .

وفي تأويل قوله : { مَا كَسَبَتْ } وجهان :

أحدهما : فيه حذفٌ تقديره : جزاء ما كسبت .

والثاني : أنَّ المكتسب إنَّما هو الجزاء في الأصل ، فقوله " مَا كَسَبَتْ " معناه : ذلك الجزاء وهذا أولى ؛ لأنه لا يحتاج إلى الإضمار .

قوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } جملة حالية من " كلِّ نَفْسٍ " وجمع اعتباراً بالمعنى ، وأعاد الضمير عليها أولاً مفرداً في " كَسَبَتْ " اعتباراً باللفظ ، وقدِّم اعتبار اللفظ ؛ لأنه الأصل ، ولأنَّ اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة ؛ فكان تأخيره أحسن .

قال أبو البقاء{[4790]} : وَيَجُوزُ أن يكون حالاً من الضمير في : " يُرْجَعُون " على القراءة بالياء ، ويجوز أن يكون حالاً منه - أيضاً - على القراءة بالتاء ، على أنَّه خروج من الخطاب إلى الغيبة ؛ كقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس :22 ] ، قال شهاب الدين : ولا ضرورة تدعو إلى ذلك .

فإن قيل : لما قال { تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ } فهم منه عدم الظلم ، فيكون قوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } من باب التكرير .

فالجواب : أنه تعالى لما قال { تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ } دلَّ على إيصال العذاب إلى الكفار والفسَّاق ، فكان لقائلٍ أن يقول : كيف يليق بأكرم الأكرمين تعذيب عبيده ؟ فأجاب بقوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } والمعنى : أن العبد هو الذي ورط نفسه ؛ لأن الله تعالى مكَّنه ، وأزاح عذره ، فهو الذي أساء إلى نفسه .

وهذا الجواب إنَّما يستقيم على أصول المعتزلة ، وأمَّا على أصولنا ، فالله سبحانه مالك الخلق ، يتصرف في ملكه كيف شاء ، وأراد ؛ فلا يكون ظلماً .


[4783]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/40) والطبراني كما في "المجمع" (6/324). وقال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/653) وزاد نسبته لأبي عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس.
[4784]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/41) عن ابن جريج.
[4785]:- أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في "الدر المنثور" (1/653).
[4786]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 1/266.
[4787]:- انظر: السبعة 193، والكشف 1/319، والعنوان 76، والحجة 2/417، وإعراب القراءات 1/104، وحجة القراءات 149، وشرح شعلة 304، وإتحاف 1/459.
[4788]:- انظر: المحرر الوجيز: 1/378، والبحر المحيط 2/456، والدر المصون: 1/671.
[4789]:- ينظر: المحتسب لابن جني 1/145.
[4790]:- ينظر الإملاء لأبي البقاء 1/118.