وبعد أن بين لهم صالح - عليه السلام - وظيفته ، وكشف لهم عن معجزته ، وأنذرهم بسوء العاقبة إذا ما خالفوا أمره ، أخذ في تذكيرهم بنعم الله عليهم . وبمصائر الماضين قبلهم . فقال - كما حكى القرآن عنه - : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ } .
أى : واذكروا بتدبر واتعاظ نعم الله عليكم حيث جعلكم خلفاء لقبيلة عادة في الحضارة والعمران والقوة والبأس ، بعد أن أهلكهم الله بسبب طغيانهم وشركهم .
وقوله : { وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض } أى : أنزلكم فيها وجعلها مباءة ومساكن لكم . يقال : بوأه منزلا ، أى : أنزله وهيأه له ومكن له فيه .
والمراد بالأرض : أرض الحجر التي كانوا يسكنونها وهى بين الحجاز والشام ، تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا .
السهول : الأراضى السهلة المنبسطة . والجبال : الأماكن المتحجرة المترفعة .
أى أنزلكم في أرض الحجر ، ويسر لكم أن تتخذوا من سهولها قصورا جميلة ، ودورا عالية ، ومن جبالها بيوتا تسكنونها بعد نحتكم إياها .
يقال : نحته ينحته - كيضربه وينصره ويعلمه - أى : براه وسواه .
قيل إنهم كانوا يسكنون الجبال في الشتاء لما في البيوت المنحوتة من القوة التي لا تؤثر فيها الأمطار والعواصف ، ولما فيها من الدفء . أما في غير الشتاء فكانوا يسكنون السهول لأجل الزراعة والعمل ومن التعبير القرآنى نلمح أثر النعمة والتمكين في الأرض لقوم صالح ، وندرك طبيعة الموقع الذي كانوا يعيشون فيه ، فهو سهل وجبل ، يتخذون في السهل القصور ، وينحتون في الجبال البيوت ، فهم في حضارة عمرانية واضحة المعالم ، ولذا نجد صالح - عليه السلام - يكرر عليهم التذكير بشكر النعم فيقول :
{ فاذكروا آلآءَ الله وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ } .
أى : فاذكروا بتدبر واتعاظ نعم الله عليكم ، واشكروه على هذه النعم الجزيلة ، وخصوه وحده بالعبادة ، ولا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم في الأرض .
والمقصود النهى عما كانوا عليه من التمادى في الفساد . مأخوذ من العيث وهو أشد الفساد . يقال : عثى - كرضى - عثوا إذ أفسد أشد الإفساد .
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد ذكرت لنا جانبا من النصائح التي وجهها صالح لقومه فماذا كان موقفهم منه .
وبعد عرض الآية والإنذار بالعاقبة ، يأخذ صالح في النصح لقومه بالتدبر والتذكر ، والنظر في مصائر الغابرين ، والشكر على نعمة الاستخلاف بعد هؤلاء الغابرين :
( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ، وبوأكم في الأرض ، تتخذون من سهولها قصوراً ، وتنحتون الجبال بيوتاً . فاذكروا آلاء الله ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) .
ولا يذكر السياق هنا أين كان موطن ثمود ، ولكنه يذكر في سورة أخرى أنهم كانوا في الحجر - وهي بين الحجاز والشام . . ونلمح من تذكير صالح لهم ، أثر النعمة والتمكين في الأرض لثمود ، كما نلمح طبيعة المكان الذي كانوا يعيشون فيه . فهو سهل وجبل ، وقد كانوا يتخذون في السهل القصور ، وينحتون في الجبال البيوت . فهي حضارة عمرانية واضحة المعالم في هذا النص القصير . . وصالح يذكرهم استخلاف الله لهم من بعد عاد ، وإن لم يكونوا في أرضهم ذاتها ، ولكن يبدو أنهم كانوا أصحاب الحضارة العمرانية التالية في التاريخ لحضارة عاد ، وأن سلطانهم امتد خارج الحجر أيضا . وبذلك صاروا خلفاء ممكنين في الأرض ، محكمين فيها . وهو ينهاهم عن الانطلاق في الأرض بالفساد ، اغتراراً بالقوة والتمكين ، وأمامهم العبرة ماثلة في عاد الغابرين !
{ بوأكم } معناه مكنكم ، وهي مستعملة في المكان وظروفه ، تقول تبوأ فلان منزلاً حسناً ، ومنه قوله تعالى { تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال } وقال الأعشى : [ الطويل ]
فما بَّوأ الرحمان بيتك منزلاً*** بشرقيّ أجيادِ الصَّفا والمحرمِ
و «القصور » : جمع قصر وهي الدور التي قصرت على بقاع من الأرض مخصوصة بخلاف بيوت العمود وقصرت عن الناس قصراً تاماً ، و «النحت » النجر والقشر في الشيء الصلب كالحجر والعود ونحوه ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تنحَتون » بفتح الحاء ، وقرأ جمهور الناس : بكسرها وبالتاء من فوق ، وقرأ ابن مصرف : بالياء من أسفل وكسر الحاء ، وقرأ أبو مالك بالياء من أسفل وفتح الحاء ، وكانوا «ينحِتون » الجبال لطول أعمارهم ، و { تعثوا } معناه تفسدوا يقال : عثا يعثي وعثا يعثو وعثى يعثى كنسى ينسى وعليها لفظ الآية ، وقرأ الأعمش «تِعثوا » بكسر التاء و { مفسدين } : حال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد} هلاك {عاد وبوأكم في الأرض
تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا}، يعني تبنون في الجبال من الحجارة بيوتا، {فاذكروا آلاء الله}، يعني نعم الله في القصور والبيوت فتوحدوه، {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}، يعني ولا تسعوا فيها المعاصي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل صالح لقومه واعظا لهم:"وَاذْكُرُوا" أيها القوم نعمة الله عليكم، "إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ "يقول تخلفون عادا في الأرض بعد هلاكها. وخلفاء: جمع خليفة.
" وَبَوّأكُمْ فِي الأرْضِ" فإنه يقول: وأنزلكم في الأرض، وجعل لكم فيها مساكن وأزواجا. "تَتّخذُونَ منْ سُهُولِهَا قُصُورا وَتَنْحِتُونَ الجِبالَ بُيُوتا" ذكر أنهم كانوا ينقبون الصخر مساكن.
قوله: "وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ" يقول: لا تسيروا في الأرض مفسدين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وبوّأكم في الأرض} قيل: أنزلكم فيها {تتّخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا} يذكّرهم عز وجل ما أنعم عليهم من سعة المال وبسط الرزق لهم وما خصهم من اتخاذ البيوت من الجبال دون غيرهم من الناس. خص هؤلاء بسعة الرزق وبسط الأموال، وقوم هود بالقوة والبطش بقوله تعالى: {وزادكم في الخلق بسطة} [الأعراف: 69]
{فاذكروا آلاء الله} من السعة في الأموال والبسط وبما {جعلكم خلفاء من بعد عاد} وبما أقدركم من اتخاذ البيوت من الجبال، [ما] لم يقدر على مثله أحد؛ لأن غيرهم من الخلائق إنما ينتفعون بالجبال على ما هي عليها، وأما هم فقد مكّن لهم على نحتها واتخاذها بيوتا {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي اذكروا نعمته، ولا تشركوا في عبادتكم غيره.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... {تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً} والقصور ما شيد وعلا من المنازل اتخذوها في سهول الأرض ليصيِّفوا فيها.
{وَتَنْحِتَونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً} لتكون مساكنهم في الشتاء لأنها أحصن وأبقى وأدفأ فكانوا طوال الآمال طوال الأعمار.
{فَاْذْكُرُوا ءَالآءَ اللَّهِ} أي نعمه أو عهوده.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...قوله "تتخذون من سهولها "فالسهل ما ليس فيه مشقة على النفس من عمل أو أرض. وقوله "قصورا" جمع قصر، وهو الدار الكبيرة بسور تكون به مقصورة...
وقوله "وتنحتون الجبال بيوتا" فالجبل جسم عظيم بعيد الأقطار عال في السماء، ويقال: جُبِل الأنسان على كذا أي طُبع عليه، لأنه يثبت عليه لصوق الجبل، والمعنى أنهم كانوا ينحتون في الجبال سقوفا كالأبنية، فلا ينهدم، ولا يخرب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أزاح علتهم في بسط الدلالة، ووسع عليهم حالتهم بتمكينهم من العطايا على ما دعت إليه حالتُهم.. فلا الدليلَ تأمَّلُوه والسبيل لازموه، ولا النعمة عرفوا قدرها، ولا المِنَّة قدَّموا شكرها، فصادفهم من البلاء ما أدرك أشكالهم.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{بوأكم} معناه مكنكم، وهي مستعملة في المكان وظروفه، تقول تبوأ فلان منزلاً حسناً، ومنه قوله تعالى {تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال}...
...«القصور»: جمع قصر وهي الدور التي قصرت على بقاع من الأرض مخصوصة بخلاف بيوت العمود، وقصرت عن الناس قصراً تاماً، و «النحت» النجر والقشر في الشيء الصلب كالحجر والعود ونحوه...
{فاذكروا آلاء الله} يعني قد ذكرت لكم بعض أقسام ما آتاكم الله من النعم، وذكر الكل طويل فاذكروا أنتم بعقولكم ما فيها.
{ولا تعثوا في الأرض مفسدين} قيل المراد منه: النهي عن عقر الناقة، والأولى أن يحمل على ظاهره وهو المنع عن كل أنواع الفساد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
.. {فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي فتذكروا نعم الله تعالى عليكم في ذلك كله واشكروها له بتوحيده وإفراده بالعبادة واستعمالها فيما فيه صلاحكم ولا تستبدلوا الكفر بالشكر فتعثوا في الأرض مفسدين يقال عثى... بمعنى أفسد وكفر وتكبر... وفيه معنى الإسراف والتبذير مع الإفساد وقال الراغب: العيث والعثي يتقاربان نحو جذب وجبذ إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا والعثي فيما يدرك حكما اه. والمعنى: ولا تتصرفوا في هذه النعم تصرف عثيان وكفر بمخالفة ما يرضي الله فيها حال كونهم متصفين بالإفساد ثابتين عليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولا يذكر السياق هنا أين كان موطن ثمود، ولكنه يذكر في سورة أخرى أنهم كانوا في الحجر -وهي بين الحجاز والشام.. ونلمح من تذكير صالح لهم، أثر النعمة والتمكين في الأرض لثمود، كما نلمح طبيعة المكان الذي كانوا يعيشون فيه. فهو سهل وجبل، وقد كانوا يتخذون في السهل القصور، وينحتون في الجبال البيوت. فهي حضارة عمرانية واضحة المعالم في هذا النص القصير.. وصالح يذكرهم استخلاف الله لهم من بعد عاد، وإن لم يكونوا في أرضهم ذاتها، ولكن يبدو أنهم كانوا أصحاب الحضارة العمرانية التالية في التاريخ لحضارة عاد، وأن سلطانهم امتد خارج الحجر أيضا. وبذلك صاروا خلفاء ممكنين في الأرض، محكمين فيها. وهو ينهاهم عن الانطلاق في الأرض بالفساد، اغتراراً بالقوة والتمكين، وأمامهم العبرة ماثلة في عاد الغابرين!...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وأردف نبي الله صالح – عليه السلام – يبين لهم العبرة من أسلافهم عاد، ونبيهم هود – عليه السلام – قال لهم: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا} أي اذكروا أنه جعلكم خلفاء لهؤلاء الذين كانوا أقوياء وطغوا، ورأيتم ما آل إليه أمرهم، من العذاب الذي نزل بهم جزاء عصيانهم، وسكنتم في مساكنهم الذي ظلموا فيها أنفسهم، وقد بوأكم في الأرض وثبتكم، وجعلكم مستمتعين مترفين، فجعلتم من سهل الأرض قصورا بنيتموها، ونحتم الجبال فجعلتم منها بيوتا، وذلك أعلى درجات الترفه في المسكن قصور في السهول، وبيوت في أكناف الجبل، فكانت لكم الوقاية من البرد والحرور.
وإذا كنتم تمكنتم من ذلك، فاذكروا آلاء الله تعالى ونعمه، وقوموا بحق شكرها، {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} لا تطغوا وتظلموا، فيؤدي ذلك إلى فساد، ولذا قال: {و لا تعثوا في الأرض مفسدين}، العثى والعثو، لغتان في مصدر عثى، وهو الفساد، والمعنى لا تفسدوا في الأرض ويستمر فسادكم حتى تكونوا مفسدين، وقوله مفسدين حال دالة على استمرار الفساد، هذا قول صالح – عليه السلام – وهو كلام يتضمن الدعوة الرفيقة الحكيمة إلى عبادة الله تعالى وحده، والتذكير بنعمه تعالى عليهم، وتحذيرهم من الإفساد، والاستمرار عليه بالإشراك والظلم وترك أمورهم فوضى، لا ضابط من دين ولا خلق.