وبعد أن ذكر القرآن في الآيات السابقة أحوال الكافرين من أهل الكتاب أخذ في بيان حال المؤمنين ، فقال : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } .
أي : يقرءونه قراءة حقه ، مصحوبة بضبط لفظه ، وتدبر معانيه ، ولا شك أن ضبط لفظه يقتضي عدم تحريف ما لا يوافق أهواء أهل الكتاب ، كالجمل الواردة في نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تدبره يستدعي اتباعه والعمل به .
وجملة { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } حال من الضمير ( هم ) أو من الكتاب وهذه احلال من قبيل الأحول التي تلابس صاحبها بعد وقوع عاملها ، فإنهم إنما يتلون الكتاب بعد أن يؤتوه . وهي التي تسمى بالحال المقدرة أي : مقدراً وقوعها بعد وقوع عاملها .
والمراد بالذين أوتوا الكتاب ، مؤمنوا أهل الكتاب . والمراد بالكتاب التوارة والإِنجيل . أو هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب : القرآن .
وأجاز بعضهم أن تكون الآية سيقت مدحاً لمن آمن من أهل الكتاب بالقرآن ، فيكون الضمير في يتلونه القرآن .
وقوله : { أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } خبر عن قوله : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } .
وفي ذكر الإشارة ووضعه في صدر الجملة المخبر بها ، زيادة تأكيد لإثبات إيمانهم .
وفي هذه الجملة تعريض بأولئك المعاندين الذين كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونهن من بعد ما عقلوه ، فكاأن الآية التي معنا تقول : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } وكان من حالهم أن قرءوه حق قراءته ، يؤمنون به إيماناً لا ريبه فيه ، بخلاف المعاندين المحرفين للكلم عن مواضعه .
ثم بين - سبحانه - عاقبة الكافرين يكتبه فقال : { وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون } .
والكفر بالكتاب يتحقق بتحريفه وإنكار بع ما جاء فيه ، أي ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون في الدنيا حيث لا يعيشون فيها عيش المؤمنين وهم الخاسرون في الآخرة ، إذ سيفونهم ما أعده الله لعباده من نعيم دائم ، ومقام كريم .
والذين يتجردون منهم من الهوى يتلون كتابهم حق تلاوته ، ومن ثم يؤمنون بالحق الذي معك ؛ فأما الذين يكفرون به فهم الخاسرون ، لا أنت ولا المؤمنون !
( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته . أولئك يؤمنون به . ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ) . .
وأي خسارة بعد خسارة الإيمان ، أعظم آلاء الله على الناس في هذا الوجود ؟
{ الذين آتيناهم الكتاب } يريد به مؤمني أهل الكتاب { يتلونه حق تلاوته } بمراعاة اللفظ عن التحريف والتدبر في معناه والعمل بمقتضاه ، وهو حال مقدرة والخبر ما بعده ، أو خبر على أن المراد بالموصول مؤمنوا أهل الكتاب { أولئك يؤمنون به } بكتابهم دون المحرفين . { ومن يكفر به } بالتحريف والكفر بما يصدقه { فأولئك هم الخاسرون } حيث اشتروا الكفر بالإيمان .
{ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ( 121 )
وقوله تعالى : { الذين آيتناهم الكتاب } الآية ، { الذين } رفع بالابتداء ، و { آيتناهم الكتاب } صلة ، وقال قتادة : المراد ب { الذين } في هذا الموضع من أسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، و { الكتاب } على هذا التأويل القرآن ، وقال ابن زيد : المراد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل ، و { الكتاب } على هذا التأويل التوراة ، و { آتيناهم } معناه أعطيناهم ، وقال قوم : هذا مخصوص في الأربعين الذين وردوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في السفينة ، فأثنى الله عليهم ، ويحتمل أن يراد ب { الذين } العموم في مؤمني بني إسرائيل والمؤمنين من العرب ، ويكون { الكتاب } اسم الجنس ، و { يتلونه } معناه يتبعونه حق اتباعه بامتثال الأمر والنهي ، وقيل { يتلونه } يقرؤونه حق قراءته ، وهذا أيضاً يتضمن الاتباع والامتثال( {[1203]} ) ، و { يتلونه } إذا أريد ب { الذين } الخصوص فيمن اهتدى يصح أن يكون خبر الابتداء ويصح أن يكون { يتلونه } في موضع الحال والخبر { أولئك } ، وإذا أريد ب { الذين } العموم لم يكن الخبر إلا { أولئك } ، و { يتلونه } حال لا يستغنى عنها وفيها الفائدة ، لأنه لو كان الخبر في { يتلونه } لوجب أن يكون كل مؤمن يتلو الكتاب { حق تلاوته }( {[1204]} ) ، و { حق } مصدر ، والعامل فيه فعل مضمر ، وهو بمعنى أفعل ، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرف ، وإنما جازت هنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض ، وإنما هو بمنزلة قولهم رجل واحد أمة ، ونسيج وحده ، والضمير في { به }( {[1205]} ) عائد على { الكتاب } ، وقيل : يعود على محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن متبعي التوراة يجدونه فيها فيؤمنون به .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل عندي أن يعود على { الهدى } الذي تقدم( {[1206]} ) ، وذلك أنه ذكر كفار اليهود والنصارى في أول لآية وحذر رسوله من اتباع أهوائهم ، وأعلمه بأن { هدى الله هو الهدى } الذي أعطاه وبعثه به ، ثم ذكر له أن المؤمنين التالين لكتاب الله هم المؤمنون بذاك الهدى المقتدون بأنواره ، والضمير في { يكفر به } يحتمل من العود ما ذكر في الأول( {[1207]} ) ، و { فأولئك هم الخاسرون } ابتداء وعماد وخبر ، أو ابتداء وابتداء وخبر ، والثاني خبره خبر الأول ، والخسران نقصان الحظ .
استئناف ناشىء عن قوله : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } [ البقرة : 120 ] مع قوله : { إن هدى الله هو الهدى } [ البقرة : 120 ] لتضمنه أن اليهود والنصارى ليسوا يومئذ على شيء من الهدى ؟ كأنَّ سائلاً سأل : كيف وهم متمسكون بشريعة ؟ ومَن الذي هو على هدى ممن اتَّبع هاتين الشريعتين ؟ فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب وَتَلْوه حقَّ تلاوته هم الذين يؤمنون به .
ويجوز أن يكون اعتراضاً في آخر الكلام لبيان حال المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب لقصد إبطال اعتقادهم أنهم على التمسك بالإيمان بالكتاب ، وهو ينظر إلى قوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه } [ البقرة : 91 ] إلخ . وهو صدر هاته المحاورات وما تخللها من الأمثال والعِبر والبيان . فقوله : { الذين آتيناهم الكتاب } فذلكة لما تقدم وجواب قاطع لمعذرتهم المتقدمة ، وهو من باب رَد العجز على الصدر . ولأحد هذين الوجهين فُصلت الجملة ولم تعطف لأنها في معنى الجواب ، ولأن المحكي بها مباين لما يقابله المتضمن له قوله : { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } ولِما انتُقِلَ منه إليه وهو قوله : { وقالوا اتخذ الله ولداً } [ البقرة : 116 ] وقوله : { وقال الذين لا يعلمون } [ البقرة : 118 ] . وقوله : { يتلونه حق تلاوته } حال من الذين أوتوا الكتاب إذ هم الآن يتلونه حق تلاوته . وانتصب { حقَّ تلاوته } على المفعول المطلق وإضافته إلى المصدر من إضافة الصفة إلى الموصوف أي تلاوةً حَقاً .
و ( الحق ) هنا ضد الباطل أي تلاوة مستوفية قِوام نوْعها لا ينقصها شيء مما يعتبر في التلاوة وتلك هي التلاوة بفهم مقاصد الكلام المتلو فإن الكلام يراد منه إفهام السامع فإذا تلاه القارىء ولم يفهم جميع ما أراده قائلُه كانت تلاوته غامضة ، فحق التلاوة هو العلم بما في المتلو .
وقولُه : { أولئك يؤمنون به } جملة هي خبر المبتدأ وهو اسم الموصول ، وجيء باسم الإشارة في تعريفهم دون الضمير وغيره للتنبيه على أن الأوصاف المتقدمة التي استحضروا بواسطتها حتى أشير إليهم باتصافهم بها هي الموجبة لجدارتهم بالحكم المسند لاسم الإشارة على حد { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] فلا شك أن تلاوتهم الكتاب حق تلاوته تثبت لهم أوْحَدِيَّتهم بالإيمان بذلك الكتاب لأن إيمان غيرهم به كالعدم . فالقصر ادعائي . فضمير { به } راجع إلى ( الكتاب ) من قوله : { الذين آتيناهم الكتاب } . وإذا كانوا هم المؤمنين به كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم لانطباق الصفات التي في كتبهم عليه ولأنهم مأخوذ عليهم العهد أن يؤمنوا بالرسول المقفى وأن يجتهدوا في التمييز بين الصادق من الأنبياء والكذبة حتى يستيقنوا انطباق الصفات على النبيء الموعود به فمن هنا قال بعض المفسرين إن ضمير { به } عائد إلى النبيء صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يتقدم له معاد .
ويجوز أن يعود الضمير من قوله : { يؤمنون به } إلى الهدى في قوله : { قل إن الهدى هدى الله } [ البقرة : 120 ] أي يؤمنون بالقرآن أنه منزل من الله فالضمير المجرور بالباء راجع للكتاب في قوله : { آتيناهم الكتاب } والمراد به التوراة والإنجيل واللام للجنس ، أو التوراة فقط لأنها معظم الدينين والإنجيل تكملة فاللام للعهد . ومن هؤلاء عبد الله بن سلام من اليهود وعدي بن حاتم وتميم الداري من النصارى .
والقول في قوله : { ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون } كالقول في { أولئك يؤمنون به } وهو تصريح بحكم مفهوم { أولئك يؤمنون به } وفيه اكتفاء عن التصريح بحكم المنطوق وهو أن المؤمنين به هم الرابحون ففي الآية إيجاز بديع لدلالتها على أن الذين أوتوا الكتاب يتلونه حق تلاوته هم المؤمنون دون غيرهم فهم كافرون فالمؤمنون به هم الفائزون والكافرون هم الخاسرون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر مؤمني أهل التوراة، عبد الله بن سلام وأصحابه، فقال عز وجل: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته}، يعني: أعطيناهم التوراة،
{يتلونه} يعني: نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة.
{حق تلاوته} في التوراة ولا يحرفون نعته.
{أولئك يؤمنون به}: أولئك يصدقون بمحمد، يعني: عبد الله بن سلام وأصحابه،
ثم قال: {ومن يكفر به} يعني: بمحمد من أهل التوراة.
{فأولئك هم الخاسرون} في العقوبة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في الذين عناهم الله جل ثناؤه بقوله:"الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ"؛ فقال بعضهم: هم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من أصحابه.
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل الذين آمنوا بالله وصدّقوا رُسُلَه، فأقرّوا بحكم التوراة، فعملوا بما أمر الله فيها من اتّباع محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان به، والتصديق بما جاء به من عند الله.
وهذا القول أولى بالصواب...لأن الآيات قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين، وتبديل من بدل منهم كتاب الله، وتأوّلهم إياه على غير تأويله، وادّعائهم على الله الأباطيل. ولم يَجْرِ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الآية التي قبلها ذكر، فيكون قوله: {الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ} موجها إلى الخبر عنهم، ولا لهم بعدها ذكر في الآية التي تتلوها، فيكون موجها ذلك إلى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء قصص غيرهم، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسليم له. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى الآية أن يكون موجها إلى أنه خبر عمن قَصّ الله جل ثناؤه في الآية قبلها والآية بعدها، وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: الذين آتيناهم الكتاب الذي قد عرفته يا محمد، وهو التوراة، فقرأوه واتبعوا ما فيه، فصدّقوك وآمنوا بك، وبما جئت به من عندي، أولئك يتلونه حقّ تلاوته. وإنما أدخلت الألف واللام في «الكتاب» لأنه معرفة، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عرفوا أيّ الكتب عنى به.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عزّ وجل: {يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ}؛
فقال بعضهم: معنى ذلك يتبعونه حقّ اتباعه.
وقال آخرون: يقرأونه حقّ قراءته.
والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى: يتبعونه حقّ اتباعه، من قول القائل: ما زلت أتلو أَثَره، إذا اتبع أثره، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله. وإذا كان ذلك تأويله، فمعنى الكلام: {الذين آتيناهم الكتاب} يا محمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبما جئتهم به من الحقّ من عندي، يتبعون كتابي... الذي أنزلته على رسولي موسى صلوات الله عليه، فيؤمنون به، ويقرّون بما فيه من نعتك وصفتك، وأنك رسولي فُرض عليهم طاعتي في الإيمان بك والتصديق بما جئتهم به من عندي، ويعملون بما أحللتُ لهم، ويجتنبون ما حرّمت عليهم فيه، ولا يحرّفونه عن مواضعه ولا يبدّلونه ولا يغيرونه كما أنزلته عليهم بتأويل ولا غيره.
أما قوله: {حَقّ تِلاَوَتِهِ} فمبالغة في صفة اتباعهم الكتاب ولزومهم العمل به، كما يقال: إن فلانا لعالم حَقّ عالم...
يعني جل ثناءه بقوله: "أُولَئِكَ "هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته.
{يُؤْمِنُونَ بِهِ}: فإنه يعني يصدّقون به. والهاء التي في قوله «به» عائدة على الهاء التي في «تلاوته»، وهما جميعا من ذكر الكتاب الذي قاله الله: {الّذِينَ آتَيْنَاهُم الكِتابَ}. فأخبر الله جل ثناؤه أن المؤمن بالتوراة هو المتبع ما فيها من حلالها وحرامها، والعامل بما فيها من فرائض الله التي فرضها فيها على أهلها، وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته دون من كان محرّفا لها مبدلاً تأويلها مغيرا سننها تاركا ما فرض الله فيها عليه.
وإنما وصف جل ثناؤه من وصف بما وصف به من متبعي التوراة، وأثنى عليهم بما أثنى به عليهم، لأن في اتباعها اتباع محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه، لأن التوراة تأمر أهلها بذلك وتخبرهم عن الله تعالى ذكره بنبوّته وفرض طاعته على جميع خلق الله من بني آدم، وإن في التكذيب بمحمد التكذيب لها. فأخبر جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم العاملون بما فيها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقيل: {يتلونه حق تلاوته} يعني يعملون به حق عمله، ولا يكتمون بعثه صلى الله عليه وسلم ولا يحرفونه. {أولئك يؤمنون به} وهم الذين أسلموا منهم، وقيل: يتبعونه حق اتباعه، وهو واحد...
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
لا خلاف بين العلماء في تأويل قول الله –عز وجل-: {يتلونه حق تلاوته}، أي يعملون به حق عمله، ويتبعونه حق اتباعه، قال عكرمة: ألم تستمع إلى قول الله –عز وجل-: {والقمر إذا تلاها}، أي تبعها. (ت: 14/133)...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المسألة الثانية:... أما قوله تعالى: {يتلونه حق تلاوته} فالتلاوة لها معنيان.
(الثاني): الإتباع فعلا، لأن من اتبع غيره يقال تلاه فعلا، قال الله تعالى: {والقمر إذا تلاها} فالظاهر أنه يقع عليهما جميعا، ويصح فيهما جميعا المبالغة لأن التابع لغيره قد يستوفي حق الإتباع فلا يخل بشيء منه، وكذلك التالي يستوفي حق قراءته فلا يخل بما يلزم فيه،
والذين تأولوه على القراءة هم الذين اختلفوا على وجوه.
(فأولها): أنهم تدبروه فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما.
(وثانيها): أنهم خضعوا عند تلاوته، وخشعوا إذا قرؤا القرآن في صلاتهم وخلواتهم.
(وثالثها): أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه وفوضوه إلى الله سبحانه.
(ورابعها): يقرأونه كما أنزل الله، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يتأولونه على غير الحق.
(وخامسها): أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه لأنها مشتركة في مفهوم واحد، وهو تعظيمها، والانقياد لها لفظا ومعنى، فوجب حمل اللفظ على هذا القدر المشترك تكثيرا لفوائد كلام الله تعالى والله أعلم...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
الخسران والخسارة: هو النقص من رأس المال في التجارة، هذا أصله، ثم يستعمل في النقص مطلقاً، وفعله متعد، كما أن مقابله متعد، وهو الربح...
ودل مقابلة الخسران على ربح من آمن به وفوزه ووفور حظه عند الله، فاكتفى بثبوت السبب عن ذكر المسبب عنه. وقصد في الجملة الثانية إلى ذكر المسبب على تقدير حصول السبب، فكان في ذلك تنفير عن تعاطي السبب لما يترتب عليه من المسبب الذي هو الخسران ونقص الحظ.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
في الصحيح:"والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار"...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
وللَّه دَرُّ مَنِ اتبع كلامَ ربِّهِ، واقتفى سُنَّة نبيِّه، وإِن قلَّ عِلْمُهُ، قال القُضَاعِيُّ في اختصاره لِلمدارك: قال في ترجمة سُحْنُون: كان سُحْنُون يقول:"ومَثَلُ العلْمِ القليلِ في الرجُلِ الصالحِ مَثَلُ العَيْنِ العَذْبَةِ، في الأرض العَذْبة، يزرع علَيْها صاحبُها ما ينتفعُ به، ومَثَلُ العلْمِ الكثيرِ في الرجُلِ الطالحِ، مَثَلُ العَيْن الخَرَّارة، في السَّبِخَةِ، تهرُّ الليلَ والنَّهارَ، ولا ينتفعُ بها"...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الصلة بين قوله تعالى {الذين آتيناهم الكتاب} الآية وبين ما قبلها واضحة جلية وهي أن هذه جاءت في موضع الاستدراك على ما سبقها من إيئاس النبي والمؤمنين من أهل الكتاب. فقد علمنا أن آية {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى} قد سلت ما كان يخالج النفوس من الرجاء بإيمان أهل الكتاب كلهم، وهذه الآية تنطق بأن منهم من يرجى إيمانه وهم الذين وصفهم بما هو علة الرجاء ومناط الأمل وهو تلاوة كتابهم حق تلاوته، وعدم الجمود على الظواهر والتقاليد، والاكتفاء بالأماني والظنون، كأنه يقول إن كانت نفسك تحدثك بأن أهل الكتاب أقرب إلى الإيمان بما جئت به لأنه يشبه ما عندهم ويصدق أنبياءهم وأصول شرائعهم من حيث يقتلع جذور دين الوثنيين ويمحوه محوا فيكون الوثنيون أجدر من أهل الكتاب بمعاندتك ومجاحدتك – فاعلم أن هؤلاء قد ألحقوا بدينهم من التقاليد والمخترعات، وألصقوا به من البدع والعادات، ما غرهم في دينهم بغير فهم؛ وجعلهم يتعصبون له بغير عقل، فكانوا بذلك أبعد عن حقيقة الإيمان من أولئك الذين يعبدون الأوثان، وذلك أنهم اتخذوا الدين جنسية فليس لهم منه إلا الجمود على عادات صارت مميزة للمنتسبين إليه، ولكن لا يزال فيهم نفر يرجى منهم تدبر الشيء والتمييز بين الحق والباطل وهم {الذين آتيناهم الكتاب} وهم {يتلونه حق تلاوته} أي يفهمون أسراره ويفقهون حكمة تشريعه، وفائدة نوط التكليف به، لا يتقيدون في ذلك بآراء من سبقهم فيه، ولا بتحريفهم كلمه عن مواضعه {أولئك} هم الذين يقدرون ما جئت به من الترقي في الدين، وإقامة قواعده على الأساس المتين؛ و {يؤمنون به} بعد العلم بأنه الحق الذي يزيل ما بينهم من الخلاف ويهديهم إلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة
{ومن يكفر به} من الرؤساء المعاندين والمقلدين الجاهلين وهم إلا الأكثرون، {فأولئك هم الخاسرون} لهذه السعادة، المحرمون مما يكون للمؤمنين من المجد والسيادة، سواء [أكان] كفرهم بتحريفه ليوافق مذاهبهم التقليدية، أم بإهماله اكتفاء بقول علمائهم، ويجوز أن يكون الضمير في قوله (به) للهدى الذي ذكر في الآيات السابقة...
(الأستاذ الإمام): عبر عن التدبر والفهم بالتلاوة حق التلاوة ليرشدنا إلى أن ذلك هو المقصود من التلاوة التي يشترك فيها أهل الأهواء والبدع مع أهل العلم والفهم. والتعبير يشعر بأن أولئك الذين حكم بنفي رضاهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نفيا مؤكدا لا حظ لهم من الكتاب إلا مجرد التلاوة وتحريك اللسان بالألفاظ، لا يعقلون عقائده، ولا يتدبرون حكمه ومواعظه، ولا يفقهون أحكامه وشرائعه، لأنهم استغنوا عنه بتقليد بعض الرؤساء والاكتفاء بما يقولون، فلا عجب إذا أعرضوا عما جاء به النبي ولا ضرر في إعراضهم.
وأما الآخرون فإنهم لتدبرهم وفهمهم أسرار الدين، وعلمهم بوجوب مطابقتها لمصالح المكلفين، يعقلون إن ما جاء به هو الحق الذي يتفق مع مصلحة البشر في ترقية أرواحهم، وفي نظام معايشهم، فيؤمنون به وإنما ينتفع بإيمان أمثالهم.
وجملة القول أن هذا التعبير أفاد حكما جديدا وإرشادا عظيما وهو أن الذي يتلوا الكتاب لمجرد التلاوة مثله كمثل الحمار يحمل أسفارا فلاحظ له من الإيمان بالكتاب لأنه لا يفهم أسراره ولا يعرف هداية لله فيه. وقراءة الألفاظ لا تفيد الهداية وإن كان القارئ، يفهم مدلولاتها كما يقول المفسر والمعلم لها لأن هذا الفهم من قبيل التصور، إلا خيال يلوح ويتراءى، ثم يغيب ويتناءى، وإنما الفهم فهم التصديق والإذعان ممن يتدبر الكتاب مستهديا مسترشدا ملاحظا أنه [مخاطب] به من الله تعالى ليأخذا به فيهتدي ويرشد، والمقلدون محرومون من هذا فلا يخطر لهم ببال أنهم مطالبون بالاهتداء بكتاب الله تعالى وإنما الهداية عندهم محصورة في كلام رؤسائهم الدينيين، ولا سيما إذا كانوا ميتين...
(الأستاذ الإمام): إن الاستهداء بالقرآن، واجب على كل مكلف في كل زمان ومكان، فعلى كل قارئ أن يتلو القرآن بالتدبر وأن يطالب نفسه بفهمه والعمل به، ولا شك أن كل من له معرفة ولو قليلة باللغة العربية فإنه يفهم من القرآن ما يهتدي به، ومن كان أميا أو أعجميا فإنه ينبغي له أن يسأل القارئين أن يقرؤوا له القرآن ويفهموه معناه... بل قال الأستاذ في هذا المقام: إنني أعتقد أنه يجب على كل مسلم أن يقرأ القرآن أو يسمعه كله ولو مرة واحدة في عمره، ومن فوائد ذلك أن يأمن من إنكار شيء منه إذا عرض عليه أو سمعه مع التشكيك فيه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والذين يتجردون منهم من الهوى، يتلون كتابهم حق تلاوته، ومن ثم يؤمنون بالحق الذي معك؛ فأما الذين يكفرون به فهم الخاسرون، لا أنت ولا المؤمنون!...
وأي خسارة بعد خسارة الإيمان، أعظم آلاء الله على الناس في هذا الوجود؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ناشئ عن قوله: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى} [البقرة: 120] مع قوله: {إن هدى الله هو الهدى} [البقرة: 120] لتضمنه أن اليهود والنصارى ليسوا يومئذ على شيء من الهدى؟ كأنَّ سائلاً سأل: كيف وهم متمسكون بشريعة؟ ومَن الذي هو على هدى ممن اتَّبع هاتين الشريعتين؟ فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب وَتَلْوه حقَّ تلاوته هم الذين يؤمنون به...
ويجوز أن يكون اعتراضاً في آخر الكلام لبيان حال المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب لقصد إبطال اعتقادهم أنهم على التمسك بالإيمان بالكتاب، وهو ينظر إلى قوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه} [البقرة: 91] إلخ. وهو صدر هاته المحاورات وما تخللها من الأمثال والعِبر والبيان. فقوله: {الذين آتيناهم الكتاب} فذلكة لما تقدم وجواب قاطع لمعذرتهم المتقدمة، وهو من باب رَد العجز على الصدر.
ولأحد هذين الوجهين فُصلت الجملة ولم تعطف لأنها في معنى الجواب، ولأن المحكي بها مباين لما يقابله المتضمن له قوله: {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} ولِما انتُقِلَ منه إليه وهو قوله: {وقالوا اتخذ الله ولداً} [البقرة: 116] وقوله: {وقال الذين لا يعلمون} [البقرة: 118]. وقوله: {يتلونه حق تلاوته} حال من الذين أوتوا الكتاب إذ هم الآن يتلونه حق تلاوته...
و (الحق) هنا ضد الباطل أي تلاوة مستوفية قِوام نوْعها لا ينقصها شيء مما يعتبر في التلاوة وتلك هي التلاوة بفهم مقاصد الكلام المتلو فإن الكلام يراد منه إفهام السامع فإذا تلاه القارئ ولم يفهم جميع ما أراده قائلُه كانت تلاوته غامضة، فحق التلاوة هو العلم بما في المتلو...
وقولُه: {أولئك يؤمنون به}... وجيء باسم الإشارة في تعريفهم دون الضمير وغيره للتنبيه على أن الأوصاف المتقدمة التي استحضروا بواسطتها حتى أشير إليهم باتصافهم بها هي الموجبة لجدارتهم بالحكم المسند لاسم الإشارة على حد {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5] فلا شك أن تلاوتهم الكتاب حق تلاوته تثبت لهم أوْحَدِيَّتهم بالإيمان بذلك الكتاب لأن إيمان غيرهم به كالعدم...
وإذا كانوا هم المؤمنين به كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم لانطباق الصفات التي في كتبهم عليه ولأنهم مأخوذ عليهم العهد أن يؤمنوا بالرسول المقفى وأن يجتهدوا في التمييز بين الصادق من الأنبياء والكذبة حتى يستيقنوا انطباق الصفات على النبيء الموعود به فمن هنا قال بعض المفسرين إن ضمير {به} عائد إلى النبيء صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يتقدم له معاد...
[و] في الآية إيجاز بديع لدلالتها على أن الذين أوتوا الكتاب يتلونه حق تلاوته هم المؤمنون دون غيرهم فهم كافرون، فالمؤمنون به هم الفائزون والكافرون هم الخاسرون.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الله تعالى منصف في أحكامه، فهو سبحانه وتعالى لا يعمم فتشمل البريء والسقيم؛ ولذا بعد أن ذكر حال اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من أهل الكتاب من يتلونه حق تلاوته، ويتعرفون غايته ومراميه، وإن هؤلاء يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويتبعونه؛ ولذا قال تعالت كلماته:
{الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}...
آتيناهم معناها أعطيناهم، وتقبلوا العطاء بنفس شاكرة، وعقل مدرك وقلب مؤمن، فلم يكن إعطاؤهم كأي إعطاء...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
قوله تعالى: {يتلونه حق تلاوته}؛ «التلاوة» تطلق على تلاوة اللفظ وهي القراءة؛ وعلى تلاوة المعنى وهي التفسير؛ وعلى تلاوة الحكم وهي الاتِّباع؛ هذه المعاني الثلاثة للتلاوة داخلة في قوله تعالى: {يتلونه حق تلاوته}؛ ف «التلاوة اللفظية» قراءة القرآن باللفظ الذي يجب أن يكون عليه معرباً كما جاء لا يغير؛ و«التلاوة المعنوية» أن يفسره على ما أراد الله؛ ونحن نعلم مراد الله بهذا القرآن؛ لأنه جاء باللغة العربية، كما قال لله تعالى: {بلسان عربي مبين} [الشعراء: 195]؛ وهذا المعنى في اللغة العربية هو ما يقتضيه هذا اللفظ؛ فنكون بذلك قد علمنا معنى كلام الله عزّ وجلّ؛ و«تلاوة الحكم» امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتصديق الأخبار...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هي في مجال التنبيه على قاعدة أساسية عامة في باب الإيمان والكفر، وهي تلاوة الكتاب حقّ تلاوته التي يريد بها القراءة عن تدبُّر وتفكير وروحية واعية تتحرّك من موقع البحث عن الحقّ لا من موقع التعصب الأعمى، فإنَّ ذلك هو سبيل الانفتاح على آيات اللّه وما تشتمل عليه من دلائل الحقّ وبراهينه، حيث يقود ذلك إلى الإيمان...
ومن خلال ذلك، نفهم أنَّ الكفر لا ينشأ من حالة فكرية مضادة، بل من حالة اللامبالاة والغفلة الناشئة من عدم التوفر على القراءة الواعية والفكر المسؤول، ما يجعل من الإنسان إنساناً يتحرّك في جوّ التعنّت والتعصب والعناد الذي لا يملك معه الانفتاح على الحقّ من قريب أو بعيد.
وقد اكتفى القرآن بالحديث عن خسارة الكافرين ولم يتحدّث عن السبب في كفرهم، لأنَّ ذلك كان واضحاً في الحديث عن سبب الإيمان، وذلك كمحاولةٍ للإيحاء لهم بضرورة التوفر على السير في خطّ القراءة الواعية للحصول على فرص النجاح في الدنيا والآخرة...
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} وانطلقوا من خلاله إلى آفاق المعرفة، وتحرّكت علامات الاستفهام في وجدانهم، ليلاحقوا كلّ مفردات القضايا الفكرية والعملية، ليحصلوا على الأجوبة الشافية من خلال القراءة الواعية
{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} في فهم عميق للمضمون الفكري، وفي استيحاء للمشاعر الروحية، وفي دراسةٍ لكلّ جوانبها المتصلة باللّه وبالحياة والإنسان، ليحصلوا من ذلك على الثقافة الإيمانية في أجواء الإيمان المنفتح الباحث عن الحقيقة، لا الإيمان الأعمى الغارق في ضباب التقليد، فلا يقتصرون على الأداء اللفظي الذي يشغل البعض من النّاس أو على العنصر الأدبي البلاغي، بل يتحرّكون معه ككتاب عملٍ ووعيٍ وحركةٍ ومنهج للحياة، كما جاء في الإرشاد للديلمي «يرتلون آياته، ويتفقهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأمره، وينتهون بنواهيه، ما هو واللّه حفظ آياته، ودرس حروفه، وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه، وأضاعوا حدوده، وإنما هو تدبّر آياته، والعمل بأركانه،
قال اللّه تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ}» [ص: 29]...
وربما كان المراد بالكتاب التوراة، وربما كان المراد به ما يشمل القرآن. وعلى كلّ حالٍ، فإنَّ الفكرة تنطلق من وظيفة الكتاب في الوعي الإيماني الذي يخرج به النّاس من الظلمات إلى النور، فلا فرق في ذلك بين كتاب وكتاب، فإنَّ كلّ كتاب يصدق الكتاب الذي بين يديه والرسول الذي أنزل به.
{أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} لأنَّ القراءة الواعية للكتاب الذي يتضمن إشراقة المفاهيم الروحية والفكرية والعملية، لا بُدَّ أن تعود إلى الإيمان للذين يتطلّعون إلى حقائقه وآفاقه، ليلتزموها عقيدة وسلوكاً وانتماءً.
{وَمن يَكْفُرْ بِهِ} من النّاس الذين لا يعيشون مسؤولية المعرفة، ولا جدية الحوار، ولا وعي القراءة، بل يعيشون الحياة على أساس الغفلة واللامبالاة واللاانتماء، ويسيرون مع كلّ ريح، فلا يتدبرون الكتاب، ولا يتفهمون آياته،
{فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الذين خسروا الدنيا التي يخطط الكتاب لها في خطّ التوازن الفكري والعملي، وخسروا الآخرة التي يريد الكتاب للإنسان أن يجعلها الهدف في حركته في الدنيا، لينال الدنيا والآخرة معاً...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
صحيح أن الإِنسان الرّسالي يجب أن يسعى بأخلاقه إلى جذب الأعداء إلى صفوف الدعوة، لكن مثل هذا الموقف يجب أن يكون تجاه المخالفين المرنين الليّنين، أما الموقف تجاه المعاندين المتصلبين فينبغي أن يكون غير ذلك. لا يجوز إهدار الوقت مع هؤلاء، بل لابدّ من الإِعراض عنهم وتركهم.
{إنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى}: نفهم من الآية المذكورة أن القانون الوحيد القادر على إنقاذ البشرية هو قانون الهداية الإِلهية، لأن علم البشر ـ مهما قدر له من التكامل ـ يبقى مخلوطاً بالجهل والشك والقصور في جهات مختلفة. والهداية في ضوء مثل هذا العلم الناقص لا يمكن أن تكون هداية مطلقة، ولا يستطيع أن يضع للإنسان برنامج «الهداية المطلقة» إلا من له «علم مطلق»، ومن هو خال من الجهل والنقص، وهو الله وحده...