113- ومن عجب أنهم كما يعادون الإسلام يعادي بعضهم بعضاً ، فيقول اليهود : ليست النصارى على شيء من الحق ، ويقول النصارى في اليهود مثل ذلك ، وكلاهما يستدل بأسفاره ، ويقول المشركون من العرب الذين لا يعلمون شيئاً عن الكتب المنزلة في اليهود والنصارى معاً ما يقوله كلاهما في الآخر ، ولقد صدقوا جميعاً في ذلك ، فليس منهم فريق على حق ، وسيتبين ذلك حينما يحكم الله بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون .
ثم بين القرآن بعد ذلك أن أهل الكتاب قد دأبوا على تضليل بعضهم البعض ، وأن الخلاف بينهم قد أدى إلى التنازع والتخاصم فقال : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى . . . }
الآية الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } إلخ ، لزيادة بيان طبيعة أهل الكتاب ، المعوجة ، وأن رمي المخالف لهم بأنه ضال شنشنة فيهم .
والشيء : يطلق على الموجود ، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، وقد ينفى مبالغة في عدم الاعتداد به واليهود كفرت عيسى - عليه السلام - ومازالوا يزعمون أن المسيح المبشر به في التوارة لم يأت ، وسيأتي بعد ، فهم يعتقدون أن النصارى باتباعهم له ليسوا على أمر حقيقي من التدين ، والنصارى تكفر اليهود لعدم إيمانهم بالمسيح الذي جاء لإتمام شريعتهم ، ونشأ عن هذه النزاع عداوة اشتدت بها الأهواء والتعتصب حتى صار كل فريق منهم يطعن في دين الآخر ، وينفى عنه أن يكون له أصل من الحق .
وجملة { وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب } حالية ، والكتاب للجنس . أي : قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب ، إذ اليهود يقرءون والنصارى يقرءون الإِنجيل ، وحق من حمل التوارة والإِنجيل وغيرهما من كتب الله وآمن به ألا يكفر بالباقي ، لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني ، شاهد بصحته وكذلك كتب الله جميعاً متواردة على تصديق بعضها البعض .
وقوله : { كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } معناه : كما أن أهل الكتاب قد قال كل فريق منهم فيمن خالفه إنه ليس على شيء من الدين الحق . فكذلك قال الذين لا يعلمون ، وهم مشركوا العرب ، في شأن المسلمين . إنهم ليسوا على شيء من الدين الحق ، فتشابهت قلوب هؤلاء وقلوب أولئك في الزيغ والضلال .
والهدف الذي ترمى إليه هذه الجملة ، هو أن إنكار اليهود والنصارى لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يثيير شبهة على عدم صحتها ، حيث يسبق إلى أذهان الضعفاء من الناس أن تلاوتهم للكتاب تجعهلم أعرف بالنبوة الصادقة من غيرها . فكأن القرآن يقول : إن تلاوتهم للكتاب وحدها لا ينبغي أن تكون شبهه .
ألا ترون اليهود والنصارى وهم يتلون الكتاب كيف أنكر كل فريق منهما أن يكون الآخر على شيء حقيقي من التدين ، فسبيلهم في إنكار دين الإِسلام كسبيل المشركين الذين أنكروه عن جهالة به .
وفي هذه الجملة توبيخ شديد لأهل الكتاب ، حيث نظموا أنفسهم - مع علمهم - في سلك من لا يعلم .
وقوله : { فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . صدر بالفاء ، لأن التوعد بالحكم بينهم يوم القيامة ، وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والضلال ، متفرع عن هذه المقالات ومسبب عنها ، وهو خبر المقصود منه التوبيخ والوعيد .
والضمير المجرور بإضافة بين إليه راجع إلى الفرق الثلاث ، وما كانوا فيه يختلفون يعم ما ذكر وغيره وقيل الضمير يعود على اليهود والنصارى .
والاختلاف : تقابل رأيين فيما ينبغي انفراد الرأي فيه .
ولم تصرح الآية الكريمة بماذا يحكم الله بينهم ، لأنهن من المعلوم أن من مظاهر حكم الله يوم القيامة إثابة من كان على حق ، وعقاب من كان على باطل .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد فضحت أهل الكتاب ، حيث بينت كيف أن كل فريق منهم قد رمى صاحبه بالضلال ، وفي هذا تثبيت للمؤمنين ونهى لهم عن أن ينهجوا نهجهم .
ولقد كانوا - يهودا ونصارى - يطلقون تلك الدعوى العريضة ، بينما يقول كل منهما عن الفريق الآخر إنه ليس على شيء ؛ وبينما كان المشركون يجبهون الفريقين بالقولة ذاتها :
( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء - وهم يتلون الكتاب - كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) . .
والذين لا يعلمون هم الأميون العرب الذين لم يكن لهم كتاب ؛ وكانوا يرون ما عليه اليهود والنصارى من الفرقة ومن التقاذف بالإتهام ، ومن التمسك بخرافات وأساطير لا ترتفع كثيرا على خرافات العرب وأساطيرهم في الشرك ونسبة الأبناء - أو البنات - لله سبحانه ؛ فكانوا يزهدون في دين اليهود ودين النصارى ويقولون : إنهم ليسوا على شيء !
والقرآن يسجل على الجميع ما يقوله بعضهم في بعض ؛ عقب تفنيد دعوى اليهود والنصارى في ملكية الجنة ! ثم يدع أمر الخلاف بينهم إلى الله :
( فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) .
فهو الحكم العدل ، وإليه تصير الأمور . . وهذه الإحالة إلى حكم الله هي وحدها المجدية في مواجهة قوم لا يستمدون من منطق ، ولا يعتمدون على دليل ، بعد دحض دعواهم العريضة في أنهم وحدهم أهل الجنة ، وأنهم وحدهم المهديون !
وقوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } يبين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم . كما قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رافع بن حُرَيْملة{[2535]} ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى وبالإنجيل . وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء . وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة . فأنزل الله في ذلك من قولهما{[2536]} { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } قال : إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به ، أي : يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة ، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى ، وما جاء{[2537]} من التوراة من عند الله ، وكل يكفر بما في يد{[2538]} صاحبه .
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء .
وقال قتادة : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ } قال : بلى ، قد كانت أوائل النصارى على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا . { وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } قال : بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا .
وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية ، والربيع بن أنس في تفسير{[2539]} هذه الآية : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى . ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه ، مع علمهم بخلاف ذلك ؛ ولهذا قال تعالى : { وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } أي : وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل ، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت ، ولكن تجاحدوا فيما بينهم عنادًا وكفرًا{[2540]} ومقابلة للفاسد بالفاسد ، كما تقدم عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة في الرواية الأولى عنه في تفسيرها ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } يُبَيِّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا من القول ، وهذا من باب الإيماء والإشارة . وقد اختلف فيما عنى بقوله تعالى : { الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ }
فقال الربيع بن أنس وقتادة : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } قالا وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم . وقال ابن جُرَيج : قلت لعطاء : من هؤلاء الذين لا يعلمون ؟ قال : أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل . وقال السدي : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فهم : العرب ، قالوا : ليس محمد على شيء .
واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع ، وليس ثمَّ دليل قاطع يعين واحدًا من هذه الأقوال ، فالحمل على الجميع أولى ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : أنه تعالى يجمع{[2541]} بينهم يوم المعاد ، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة . وهذا كقوله تعالى في سورة الحج : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ الحج : 17 ] ، وكما قال تعالى : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ سبأ : 26 ] .
معطوف على قوله : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] لزيارة بيان أن المجازفة دأبهم وأن رمي المخالف لهم بأنه ضال شنشنة قديمة فيهم فهم يرمون المخالفين بالضلال لمجرد المخالفة ، فقديماً ما رمت اليهود النصارى بالضلال ورمت النصارى اليهود بمثله فلا تعجبوا من حكم كل فريق منهم بأن المسلمين لا يدخلون الجنة ، وفي ذلك إنحاء على أهل الكتاب وتطمين لخواطر المسلمين ودفع الشبهة عن المشركين بأنهم يتخذون من طعن أهل الكتاب في الإسلام حجة لأنفسهم على مناوأته وثباتاً على شركهم .
والمراد من القول التصريح بالكلام الدال فهم قد قالوا هذا بالصراحة حين جاء وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أعيان دينهم من النصارى{[158]} فلما بلغ مقدمهم اليهود أتوهم وهم عند النبيء صلى الله عليه وسلم فناظروهم في الدين وجادلوهم حتى تسابوا فكفر اليهود بعيسى وبالإنجيل وقالوا للنصارى ما أنتم على شيء فكفر وفد نجران بموسى وبالتوراة وقالوا لليهود لستم على شيء .
وقولهم { على شيء } نكرة في سياق النفي والشيء الموجود هنا مبالغة أي ليسوا على أمر يعتد به . فالشيء المنفي هو العرفي أو باعتبار صفة محذوفة على حد قول عباس بن مرداس :
وقد كنت في الحرب ذا تُدْرَا *** فلم أُعْطَ شيئاً ولم أُمنع
أي لم أعط شيئاً نافعاً مغنياً بدليل قوله ولم أُمنع ، وسئل رسول الله عن الكهان فقال : « ليسوا بشيء » ، فالصيغة صيغة عموم والمراد بها في مجاري الكلام نفي شيء يعتد به في الغرض الجاري فيه الكلام بحسب المقامات فهي مستعملة مجازاً كالعام المراد به الخصوص أي ليسوا على حظ من الحق فالمراد هنا ليستْ على شيء من الحق وذلك كناية عن عدم صحة ما بين أيديهم من الكتاب الشرعي فكل فريق من الفريقين رمَى الآخر بأن ما عنده من الكتاب لاحظ فيه من الخير كما دل عليه قوله بعده : { وهم يتلون الكتاب } فإن قوله : { وهم يتلون الكتاب } جملة حالية جيء بها لمزيد التعجب من شأنهم أن يقولوا ذلك وكل فريق منهم يتلون الكتاب وكل كتاب يتلونه مشتمل على الحق لو اتبعه أهله حق اتباعه ، ولا يخلو أَهل كتاب حق من أن يتبعوا بعض ما في كتابهم أو جل ما فيه فلا يصدق قولُ غيرهم أنهم ليسوا على شيء .
وجيء بالجملة الحالية لأن دلالتها على الهيئة أقوى من دلالة الحال المفردة لأن الجملة الحالية بسبب اشتمالها على نسبة خبرية تفيد أن ما كان حقه أن يكون خبراً عدل به عن الخبر لادعاء أنه معلوم اتصاف المخبر عنه به فيؤتى به في موقع الحال المفردة على اعتبار التذكير به ولفت الذهن إليه فصار حالاً له .
وضمير قوله : { هم } عائد إلى الفريقين وقيل عائد إلى النصارى لأنهم أقرب مذكور .
والتعريف في { الكتاب } جعله صاحب « الكشاف » تعريف الجنس وهو يرمي بذلك إلى أن المقصود أنهم أهل علم كما يقال لهم أهل الكتاب في مقابلة الأميين ، وحداه إلى ذلك قوله عقبه { كذلك قال الذين لا يعلمون } فالمعنى أنهم تراجموا بالنسبة إلى نهاية الضلال وهم من أهل العلم الذين لا يليق بهم المجازفة ومن حقهم الإنصاف بأن يبينوا مواقع الخطأ عند مخالفيهم .
وجعل ابن عطية التعريف للعهد وجعل المعهود التوراة أي لأنها الكتاب الذي يقرأه الفريقان . ووجه التعجيب على هذا الوجه أن التوراة هي أصل للنصرانية والإنجيل ناطق بحقيتها فكيف يَسُوغُ للنصارى ادعاء أنها ليست بشيء كما فعلت نصارى نجران ، وأن التوراة ناطقة بمجيء رسل بعد موسى فكيف ساغ لليهود تكذيب رسول النصارى .
وإذا جعل الضمير عائداً للنصارى خاصة يحتمل أن يكون المعهود التوراة كما ذكرنا أو الإنجيل الناطق بأحقية التوراة وفي { يتلون } دلالة على هذا لأنه يصير التعجب مشرباً بضرب من الاعتذار أعني أنهم يقرأون دون تدبر وهذا من التهكم وإلا لقال وهم يعلمون الكتاب وبهذا يتبين أن ليست هذه الآية واردة للانتصار لأحد الفريقين أو كليهما .
وقوله : { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } أي يشبه هذا القول قول فريق آخر غير الفريقين وهؤلاء الذين لا يعلمون هم مقابل الذين يتلون الكتاب وأريد بهم مشركو العرب وهم لا يعلمون لأنهم أمّيون وإطلاق { الذين لا يعلمون } على المشركين وارد في القرآن من ذلك قوله الآتي : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية } [ البقرة : 118 ] بدليل قوله : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } [ البقرة : 118 ] يعني كذلك قال اليهود والنصارى ، والمعنى هنا أن المشركين كذبوا الأديان كلها اليهودية والنصرانية والإسلام والمقصود من التشبيه تشويه المشبه به بأنه مشابه لقول أهل الضلال البحت .
وهذا استطراد للإنحاء على المشركين فيما قابلوا به الدعوة الإسلامية ، أي قالوا للمسلمين مثل مقالة أهل الكتابين بعضهم لبعض وقد حكى القرآن مقالتهم في قوله : { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] .
والتشبيه المستفاد من الكاف في { كذلك } تشبيه في الادعاء على أنهم ليسوا على شيء والتقدير مثل ذلك القول الذي قالته اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون ، ولهذا يكون لفظ { مثل قولهم } تأكيداً لما أفاده كاف التشبيه وهو تأكيد يشير إلى أن المشابهة بين قول { الذين لا يعلمون } وبين قول اليهود والنصارى مشابهة تامة لأنهم لما قالوا { ما أنزل الله على بشر من شيء } قد كذَّبوا اليهود والنصارى والمسلمين .
وتقديم الجار والمجرور على متعلقه وهو { قال } إما لمجرد الاهتمام ببيان الماثلة وإما ليغني عن حرف العطف في الانتقال من كلام إلى كلام إيجازاً بديعاً لأن مفاد حرف العطف التشريك ومفاد كاف التشبيه التشريك إذ التشبيه تشريك في الصفة .
ولأجل الاهتمام أو لزيادته أكد قوله { كذلك } بقوله { مثل قولهم } فهو صفة أيضاً لمعمول قالوا المحذوف أي قالوا مقولاً مثل قولهم . ولك أن تجعل { كذلك } تأكيداً لمثل قولهم وتعتبر تقديمه من تأخير ، والأول أظهر .
وجوز صاحب « الكشف » وجماعة أن لا يكون قوله : { مثلَ قولهم } أو قوله : { كذلك } تأكيداً للآخر وأن مرجع التشبيه إلى كيفية القول ومنهجه في صدوره عن هَوىً ، ومرجع المماثلة إلى المماثلة في اللفظ فيكون على كلامه تكريراً في التشبيه من جهتين للدلالة على قوة التشابه .
وقولُه : { فالله يحكم بينهم } الآية ، جاء بالفاء لأن التوعد بالحكم بينهم يوم القيامة وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والحسد متفرع عن هذه المقالات ومسبب عنها وهو خبر مراد به التوبيخ والوعيد والضمير المجرور بإضافة ( بين ) راجع إلى الفرق الثلاث و { ما كانوا فيه يختلفون } يعم ما ذكر وغيره . والجملة تذييل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالت اليهود}، يعني: ابن صوريا وأصحابه.
{ليست النصارى على شيء} من الدين.
{وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} من الدين.
{وهم يتلون الكتاب}، يقول: وهم يقرأون التوراة والإنجيل، يعني: يهود المدينة ونصارى نجران.
{قال الذين لا يعلمون} بتوحيد ربهم، يعني: مشركي العرب أن محمدا وأصحابه ليسوا على شيء من الدين.
{مثل قولهم}، يعني: مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض، فذلك قوله سبحانه في المائدة: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} (المائدة: 14)
{فالله يحكم بينهم يوم القيامة}، يعني: بين مشركي العرب وبين أهل الكتاب،
{فيما كانوا فيه} من الدين {يختلفون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتابين تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض... عن ابن عباس، قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى بن مريم وبالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران من النصارى: ما أنتم على شيء، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك من قولهما: {وَقالَتِ اليَهودُ لَيْسَتِ النّصَارَى على شَيْءٍ وَقالَتِ النّصارى لَيْسَتِ اليَهُودُ على شَيْءٍ} إلى قوله: {فيما كانوا فيه يختلفون}.
وأما تأويل الآية: فإن قالت اليهود: ليست النصارى في دينها على صواب، وقالت النصارى: ليست اليهود في دينها على صواب.
وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين إعلاما منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله، وجحودهم مع ذلك ما أنزل الله فيه من فروضه لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيقته النصارى يحقق ما في التوراة من نبوّة موسى عليه السلام وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيقتها اليهود تحقق نبوّة عيسى عليه السلام وما جاء به من عند الله من الأحكام والفرائض. ثم قال كل فريق منهم للفريق الاَخر ما أخبر الله عنهم في قوله: {وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النّصارَى على شَيْءٍ وقالت النّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ على شَيْءٍ} مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون، وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون.
فإن قال لنا قائل: أَوَ كانت اليهود والنصارى بعد أن بعث الله رسوله على شيء، فيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الآخر مبطلاً في قيله ما قال من ذلك؟ قيل: قد روينا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس قَبْلُ، مِنْ أن إنكار كل فريق منهم إنما كان إنكارا لنبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، الذي ينتحل التصديق به، وبما جاء به الفريق الاَخر، لا دفعا منهم أن يكون الفريق الآخر في الحال التي بعث الله فيها نبينا صلى الله عليه وسلم على شيء من دينه، بسبب جحوده نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الآخر على شيء بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، وكلا الفريقين كان جاحدا نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحال التي أنزل الله فيها هذه الآية؟ ولكن معنى ذلك: وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء من دينها منذ دانت دينها، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء منذ دانت دينها. وذلك هو معنى الخبر الذي رويناه عن ابن عباس آنفا. فكذّب الله الفريقين في قيلهما ما قالا... عن قتادة قوله: {وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النّصَارَى على شَيْءٍ} قال: بلى قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرّقوا. "وقالت النصارى ليست اليهود على شيء"، ولكن القوم ابتدعوا وتفرّقوا.
وأما قوله: {وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتابَ} فإنه يعني به كتاب الله التوراة والإنجيل، وهما شاهدان على فريقي اليهود والنصارى بالكفر، وخلافهم أمر الله الذي أمرهم به فيه...عن ابن عباس في قوله: {وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتابَ}: أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به: أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام، وفي الإنجيل مما جاء به عيسى تصديق موسى، وما جاء به من التوراة من عند الله. وكل يكفر بما في يد صاحبه.
{كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}.
اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: "كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ"، فقال بعضهم:... عن الربيع: {قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} قال: وقالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم.
وقال آخرون:...قال ابن جريج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقبل التوراة والإنجيل.
وقال بعضهم: عَنَى بذلك مشركي العرب، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب فنسبوا إلى الجهل، ونفى عنهم من أجل ذلك العلم.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أخبر تبارك وتعالى عن قوم وصفهم بالجهل، ونفى عنهم العلم بما كانت اليهود والنصارى به عالمين أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال اليهود والنصارى بعضها لبعض مما أخبر الله عنهم أنهم قالوه في قوله: {وَقالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النّصَارَى على شَيْءٍ وَقالَتِ النّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ على شَيْءٍ}. وجائز أن يكونوا هم المشركين من العرب، وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل اليهود والنصارى. ولا أمة أولى أن يقال هي التي عنيت بذلك من أخرى، إذ لم يكن في الآية دلالة على أيَ من أيَ، ولا خبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل ولا من جهة النقل المستفيض.
وإنما قصد الله جل ثناؤه بقوله: {كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} إعلام المؤمنين أن اليهود والنصارى قد أتوا من قيل الباطل، وافتراء الكذب على الله، وجحود نبوّة الأنبياء والرسل، وهم أهل كتاب يعلمون أنهم فيما يقولون مبطلون، وبجحودهم ما يجحدون من ملتهم خارجون، وعلى الله مفترون مثل الذي قاله أهل الجهل بالله وكتبه ورسله الذين لم يبعث الله لهم رسولاً ولا أوحى إليهم كتابا.
وهذه الآية تنبئ عن أن من أتى شيئا من معاصي الله على علم منه بنهي الله عنها، فمصيبته في دينه أعظم من مصيبة من أتى ذلك جاهلاً به، لأن الله تعالى ذكره عظم توبيخ اليهود والنصارى بما وبّخهم به في قيلهم ما أخبر عنهم بقوله: {وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النّصَارَى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ على شَيْءٍ} من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك على علم منهم أنهم مبطلون.
{فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: فالله يقضي فيفصل بين هؤلاء المختلفين القائل بعضهم لبعض: لستم على شيء من دينكم يوم قيام الخلق لربهم من قبورهم، فيتبين المحقّ منهم من المبطل بإثابة المحقّ ما وعد أهل طاعته على أعماله الصالحة، ومجازاته المبطل منهم بما أوعد أهل الكفر به على كفرهم به فيما كانوا فيه يختلفون من أديانهم ومللهم في دار الدنيا.
وأما القيامة فهي مصدر من قول القائل: قمت قياما وقيامةً، كما يقال: عدت فلانا عيادةً، وصنت هذا الأمر صيانةً. وإنما عنى بالقيامة: قيام الخلق من قبورهم لربهم، فمعنى يوم القيامة: يوم قيام الخلائق من قبورهم لمحشرهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب} فإن قيل: كيف عاتبهم بهذا القول، وقد أمر نبيه عليه السلام في آية أخرى أن يقول لهم ذلك {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} [المائدة: 68]؟ قيل: أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ليسوا على شيء إذا لم يقيموا التوراة، فأما إذا أقاموا التوراة، وفيها أمر لهم بالإسلام واتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهم على شيء، ومعنى هذا الكلام، والله أعلم، أن قال لهم: كيف قلتم ذلك، وعندكم [من] الكتاب ما يبين لكم، ويميز الحق من الباطل، ويرفع من بينكم الاختلاف لو تأملتم، وتدبرتم؟...
ويحتمل أن كل فريق لما قال لفريق آخر ذلك: إنهم ليسوا على شيء أكذبهم الله تعالى، ورد عليهم: {بلى من أسلم} منهم فهم على شيء لأنه كان أسلم من أوائلهم، ويحتمل أنهم ليسوا على شيء على نفس دعاويهم وقولهم في الله بما لا يليق، وهم على شيء في تكذيب بعضهم بعضا بما قالوا.
{كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم} قيل: {الذين لا يعلمون} هم الذين لا يقدرون على تلاوة القرآن والكتاب وتمييز ما فيه، وهم جهالهم؛ سوى عز وجل بينهم في القول: من علم منهم ومن لم يعلم؛ لأن من علم منهم لم ينتفع بعلمه، فكان كالذي لم يعلم شيئا، وقد ذكرنا هذا في ما تقدم في قوله: {صم بكم عمي} [البقرة: 18] أنه سماهم بذلك لما لم ينتفعوا بالآيات والأسباب التي أعطاهم الله عز وجل، والله أعلم...
{فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} [بالعذاب] لاختلافهم في ما بينهم وبقولهم في الله تعالى بما لا يليق {سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا} [الإسراء: 43]...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وقيل: كان سفيان الثوري إذا قرأ هذه الآية قال: صدقوا جميعاً والله.
{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} يعني أباءهم الذّين مضوا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{على شيء}: أي على شيء يصح ويعتدّ به. وهذه مبالغة عظيمة، لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء، فإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده. وهذا كقولهم: أقل من لا شيء. {وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} الواو للحال. والكتاب للجنس؛ أي قالوا ذلك، وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب. وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي؛ لأن كل واحد من الكتابين مصدّق للثاني شاهد بصحته، وكذلك كتب الله جميعاً متواردة على تصديق بعضها بعضاً {كذلك} أي مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج {قَالَ} الجهلة {الذين} لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم قالوا لأهل كل دين: ليسوا على شيء. وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم... {فالله يَحْكُمُ} بين اليهود والنصارى {يَوْمَ القيامة} بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه. وعن الحسن: حكم الله بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار.
اعلم أنه تعالى لما جمعهم في الخبر الأول فصلهم في هذه الآية، وبين قول كل فريق منهم في الآخر، وكيف تنكر كل طائفة دين الأخرى...
فإن قيل: كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانا يثبتان الصانع وصفاته سبحانه وتعالى، وذلك قول فيه فائدة؟ قلنا: الجواب من وجهين،
(الأول): أنهم لما ضموا إلى ذلك القول الحسن قولا باطلا يحبط ثواب الأول، فكأنهم ما أتوا بذلك الحق.
(الثاني): أن يخص هذا العام بالأمور التي اختلفوا فيها، وهي ما يتصل بباب النبوات... اختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله تعالى أهم الذين كانوا من بعثة عيسى عليه السلام أو في زمن محمد عليه السلام، والظاهر الحق أنه لا دليل في الظاهر عليه وإن كان الأولى أن يحمل على كل اليهود وكل النصارى بعد بعثة عيسى عليه السلام...
واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كل طائفة تكفر الأخرى مع اتفاقهم على تلاوة القرآن...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الرازيّ: واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كل طائفة تكفّر الأخرى. مع اتفاقهم على تلاوة القرآن. انتهى. فها هنا تسكب العبرات بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر، لا بسنة ولا قرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لمّا غلت مراجل العصبية في الدين، تمكن الشيطان من تفريق كلمة المسلمين... مع أن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف. ونهى عن الفرقة والاختلاف. فقال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا}. وقال تعالى: {إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}. وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات}. وقال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والعبرة في الآية أن أهل الكتاب في تضليل بعضهم بعضا واعتقاد كل واحد في الآخر أنه ليس على شيء حقيق من أمر الدين مع أن كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى، وكتاب النصارى متمم لكتاب اليهود، قد صاروا إلى حال من التهافت واتباع الأهواء لا يعتد معها بقول أحد منهم في نفسه ولا في غيره، فطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن الإيمان به لا ينهض حجة على كونهم علموا أنه مخالف للحق، بل لا يصلح شبهة على ذلك لأنهم أهل أهواء، وتعصب للمذاهب المبتدعة والآراء،
فإذا كانت اليهود كفرت بعيسى وأنكرته وهو منهم وهم ينتظرونه لإعادة مجدهم وتجديد عزمهم، وإذا كانت النصارى قد رفضت التوراة وكفرت أهلها وهي حجتهم على دينهم، فكيف يعتد بكفر هؤلاء وهؤلاء بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو من شعب غير شعبهم، وقد جاء بشريعة ناسخة لشرائعهم، وهم لا يفهمون من الدين إلا أنه جنسية دنيوية لهم؟...
وانظر كيف ألحق التقليد أهل الكتاب الذين كانوا على علم بالدين الإلهي بالمشركين الذين لا يعلمون منه شيئا؟ هذا ما فعله التقليد بهم وبمن بعدهم لأنه عدو للعلم في كل زمان وكل مكان.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وذلك أنه بلغ بأهل الكتاب الهوى والحسد، إلى أن بعضهم ضلل بعضا، وكفر بعضهم بعضا، كما فعل الأميون من مشركي العرب وغيرهم. فكل فرقة تضلل الفرقة الأخرى، ويحكم الله في الآخرة بين المختلفين بحكمه العدل، الذي أخبر به عباده، فإنه لا فوز ولا نجاة إلا لمن صدق جميع الأنبياء والمرسلين، وامتثل أوامر ربه، واجتنب نواهيه، ومن عداهم، فهو هالك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والذين لا يعلمون هم الأميون العرب الذين لم يكن لهم كتاب؛ وكانوا يرون ما عليه اليهود والنصارى من الفرقة ومن التقاذف بالاتهام، ومن التمسك بخرافات وأساطير لا ترتفع كثيرا على خرافات العرب وأساطيرهم في الشرك ونسبة الأبناء -أو البنات- لله سبحانه؛ فكانوا يزهدون في دين اليهود ودين النصارى ويقولون: إنهم ليسوا على شيء!... والقرآن يسجل على الجميع ما يقوله بعضهم في بعض؛ عقب تفنيد دعوى اليهود والنصارى في ملكية الجنة! ثم يدع أمر الخلاف بينهم إلى الله: (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). فهو الحكم العدل، وإليه تصير الأمور.. وهذه الإحالة إلى حكم الله هي وحدها المجدية في مواجهة قوم لا يستمدون من منطق، ولا يعتمدون على دليل، بعد دحض دعواهم العريضة في أنهم وحدهم أهل الجنة، وأنهم وحدهم المهديون!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لزيادة بيان أن المجازفة دأبهم، وأن رمي المخالف لهم بأنه ضال شنشنة قديمة فيهم، فهم يرمون المخالفين بالضلال لمجرد المخالفة، فقديماً ما رمت اليهود النصارى بالضلال ورمت النصارى اليهود بمثله، فلا تعجبوا من حكم كل فريق منهم بأن المسلمين لا يدخلون الجنة، وفي ذلك إنحاء على أهل الكتاب وتطمين لخواطر المسلمين ودفع الشبهة عن المشركين بأنهم يتخذون من طعن أهل الكتاب في الإسلام حجة لأنفسهم على مناوأته وثباتاً على شركهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
زعم اليهود أنه لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وزعم النصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، وهم بذلك قد جمعهم الغرور والأماني الكاذبة، لأن الاعتقادات الباطلة يجمع أهلها الأماني الكاذبة، أو يستحسنون أعمالهم ويحسبون أنها الأمور الحسنة، لتزين لهم أعمالهم، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا وأوهامهم تسيطر عليهم وتتردى بهم في مهاوي الضلال...
وفي هذه بين سبحانه وتعالى ما يفرقهم بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى ما يجمعهم. وما يفرقهم هو التناكر أو التكذيب والتضليل، فاليهود يقولون: ليست النصارى على شيء والنصارى يقولون ليست اليهود على شيء، ومعنى على شيء: على شيء من العلم، ولا من الحق، ولا من الهداية، والتنكير لبيان عموم نفي الخير والأشياء الحسنة الطيبة التي ترفع صاحبها إلى مقام عال من الإنسانية الكاملة...
وإن هذا النوع من التفكير الخاضع للأهواء المردية التي يسرف فيه صاحبه لا يفترق فيه من أوتي علم الكتاب عمن لم يؤت علما بكتاب؛ ولذلك كان المشركون يقولون مثل قولهم؛ لأن المنزع واحد، وأهل كل ملة يقولون مثل قولهم إذا كان مصدر الحكم الهوى والشهوة؛ لأن كل حزب بما لديهم فرحون؛
ولذا قال تعالى: {كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم} أي قالوا ليس غيرهم على شيء من الحق والخير، بل الحق عندهم دون غيرهم وزينت لهم أفعالهم، فلم يروا غيرهم يستوجب الجنة فهي لهم وحدهم دون غيرهم... ولعل عذرهم في عدم العلم، أما الذين يتلون الكتاب من يهود ونصارى فما عذرهم؟!...
وبذلك أصبح لدينا ثلاث طوائف يواجهون الدعوة الإسلامية.. طائفة لا تؤمن بمنهج سماوي ولا برسالة إلهية وهؤلاء هم المشركون.. وطائفتان لهم إيمان ورسل وكتب هم اليهود والنصارى..
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم}.. أي الذين لا يعلمون دينا ولا يعلمون إلها ولا يعلمون أي شيء عن منهج السماء.. اتحدوا في القول مع اليهود والنصارى وأصبح قولهم واحدا...
وكان المفروض أن يتميز أهل الكتاب الذين لهم صلة بالسماء وكتب نزلت من الله ورسل جاءتهم للهداية.. كان من المفروض أن يتميزوا على المشركين.. ولكن تساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون.. وهذا معنى قوله تعالى: {كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم}.. ومادامت الطوائف الثلاث قالوا على بعضهم نفس القول.. يكون حجم الخلاف بينهم كبيرا وليس صغيرا.. لأن كل واحد منهم يتهم الآخر أنه لا دين له...
هذا الخلاف الكبير من الذي يحكم فيه؟ لا يحكم فيه إلا الله.. فهو الذي يعلم كل شيء.. وهو سبحانه القادر على أن يفصل بينهم بالحق.. ومتى يكون موعد هذا الفصل أو الحكم؟ أهو في الدنيا؟ لا.. فالدنيا دار اختبار وليست دار حساب ولا محاسبة ولا فصل في قضايا الإيمان.. ولذلك فإن الحكم بينهم يتم يوم القيامة وعلى مشهد من خلق الله جميعا...
والحق سبحانه وتعالى يقول: {فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}.. ومعنى الحكم هنا ليس هو بيان المخطئ من المصيب فالطوائف الثلاث مخطئة.. والطوائف الثلاث في إنكارها للإسلام قد خرجت عن إطار الإيمان.. ويأتي الحكم يوم القيامة ليبين ذلك ويواجه المخالفين بالعذاب...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتستمر عملية التوعية والتعرية، ليعرف المسلمون طبيعة العلاقات الداخلية التي تربط بين أفراد الجبهة المضادّة، فليست هناك وحدة في المواقف، ولا وحدة في المشاعر، بل هناك التناقض والتنافر الذي تشعر فيه كلّ فئة منهم بالذاتية المطلقة التي تفصلها عن الفرقاء الآخرين. وتقف الفواصل الفكرية والشعورية لتشكل حاجزاً معنوياً داخلياً يفصل كلّ فريق عن الآخر؛ فلا أرض موحّدة يقفون عليها، ولا قواسم مشتركة يلتقون عليها، ما يجعل كلّ فريق منهم يجرّد الفريق الآخر من كلّ الصفات أو الأفكار التي تبعث على الاحترام والتقدير، سواء في ذلك اليهود والنصارى والمشركون الذين وصفهم القرآن بكلمة «الذين لا يعلمون»، للإيحاء الدائم بأنَّ الجهل هو أساس كفرهم وشركهم..
وهكذا يعرض القرآن هذه الصورة القلقة للواقع الذي يعيشه هؤلاء، ليعرف المسلمون كيفية مواجهة كلّ فريق بمفرده، والاستفادة من ذلك في اتباع سياسة المراحل في قضايا الصراع بتفجير الخلافات فيما بينهم والتعامل معهم من ذلك الموقع، وليشعر المسلمون في هذا الاتجاه بالقوّة الذاتية المتفوّقة أمام قوّة الآخرين، فلا يستسلمون للرهبة التي توحيها الكثرة، لأنها كثرة ممزّقة مبعثرة، وليست وحدة متماسكة تثير الرعب والخوف في النفوس...
ثُمَّ يختم القرآن الآية بإعطاء الصورة مزيداً من الوضوح في ما يوحيه من الجوّ الذي نشاهد فيه كلّ هؤلاء الفرقاء وقد اجتمعوا بين يدي اللّه في موقف الخلاف والنزاع والخصومة، حيث يدلي فيه كلّ واحد بحجته، ليثبت أنه على الحقّ وأنَّ الآخرين على باطل...
ويختصر الموقف ويسدل الستار على الصورة {فَاللّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، فليس المجال مجال إعطاء الحكم وتحديد الموقف، بل هو مجال التوعية والتعرية الذي يُكتفى فيه بالصورة الواضحة التي يبصر فيها المؤمنون مواقع أقدامهم في الطريق الطويل.
وقد نجد في كلمة: «وهم يتلون الكتاب» إشارة إلى التنديد بهم بأنهم يصدرون الأحكام بالتخطئة والرفض لبعضهم البعض، مع أنهم يؤمنون بالكتاب الواحد ويتلونه، ويمكنهم الرجوع إليه بإخلاص لتدبّر الحوار في آياته، وللوصول إلى النتيجة الحاسمة فيما هو الحقّ لأي واحدٍ منهما أو لغيرهما مما يمكن أن يحكم الكتاب له...
وهذا ما يجب أن يفهمه المسلمون الذين يتلون القرآن الذي يؤمنون به جميعاً، ولكنَّهم يكفِّر بعضهم بعضاً من دون تدبّر في آياته، بسبب افتقادهم الروحية التي تضفي على الخلاف جوّاً من السعي إلى الحقيقة للوقوف معها مهما كانت النتائج، بعيداً عن كلّ تعصب وتعقيد. إنَّ الموقف هو الموقف نفسه، والنتائج السلبية والإيجابية هي النتائج ذاتها، لأنَّ الإطار في الحالتين واحد... وربما كانت مشكلة هؤلاء جميعاً أنهم ليسوا مستعدّين للدخول في نقاش فكري وحوار علميّ، ليصلوا من خلال ذلك إلى العقيدة المشتركة والموقف الواحد، لأنَّ الانتماء إلى عقيدتهم لم يعد حالة فكرية، بل تحوّل إلى حالة ذاتية، ما يجعل التنازل عنها تنازلاً عن الذات نفسها، وهذه سمة من سمات التعصّب والتخلّف والجهل، ولذلك فإنَّ من الصعب الوصول إلى مواقع اللقاء حتى في التفاصيل الصغيرة، وهذا ما يجعل حوار الأديان من أكثر أنواع الحوار صعوبةً، لانطلاقه من حالة شعورية لا من حالةٍ فكرية، فلا مجال للوصول إلى موقع تحكيم يحدّد لكلّ منها مواقعه من ناحية الواقع.
{فَاللّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، ويعرّفهم الحقيقة الحاسمة {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، فقد يرى بعضهم كالمشركين أنهم ليسوا على شيء في المبدأ والتفاصيل، وقد يرى بعضهم كاليهود والنصارى أنهم يملكون بعض الحقيقة بطريقة مختلفة، وأنهم ليسوا على الخطّ المستقيم في إنكارهم الإسلام وشرعيته...
[لابد إذا] من استيحاء الآية في محاولة الاستغراق الذاتي داخل العلاقات الفكرية والعملية بين المسلمين الذين قد يختلفون كما اختلفوا في أكثر من جانب من جوانب العقيدة والتشريع، وقد يتبادلون النظرة السلبية كما تبادلوها، فيشعر كلّ فريق منهم بالفواصل الجزئية التي تفصله عن الآخرين كما لو كانت فواصل كلية، لا يصيرون فيها إلى اجتماع، ولا ينتهون إلى لقاء، لنعرف من ذلك كلّه الأساس القويّ الذي يجمعهم ويوحّدهم، لتبقى الخلافات في نطاقها الجزئي، وتتحدّد النظرة السلبية في تلك الحدود الضيّقة التي لا تعزل أيّ فريق عن الفرقاء الآخرين، بل تشير إلى الأفق الواسع الذي تتحرّك فيه الخطى المؤمنة نحو الهدف الكبير في رحاب اللّه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآية تقرر أن المصدر الأساس للتعصب هو الجهل والبعد عن العلم، لأن الجاهل مطوّق بمحيطه المحدود، لا يقبل غيره، بل هو ملتصق بما ملأ ذهنه منذ صغره وإن كان خرافياً، ويرفض ما سواه...