59- لقد عاند المشركون ، وكذبوا بالحق إذ جاءهم مؤيداً بالحُجج القاطعة ، وذلك شأن الكافرين مع أنبيائهم في الماضي . لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه الذين بعث فيهم ، وقال لهم - مذكراً بأنه منهم - : يا قوم اعبدوا الله تعالى - وحده - فليس لكم أي إله غيره ، وأنه سيكون البعث والحساب في يوم القيامة ، وهو يوم عظيم ، أخاف عليكم فيه عذابه الشديد .
والآن فلنستمع بتدبر واعتبار إلى السورة الكريمة وهى تحدثنا عن قصة نوح مع قومه فتقول : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا . . } .
تلك هى قصة نوح مع قومه كماوردت في هذه السورة ، وقد وردت بصورة أكثر تفصيلا في سورة هود ، والمؤمنون ، ونوح وغيرها .
وقوله : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } جواب قسم محذوف ، أى : والله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه والدليل على هذا القسم وجود لامه في بدء الجملة .
قال الآلوسى : " واطرد استعال هذه اللام مع قد في الماضى - على ما قال الزمخشرى - وقل الاكتفاء بها وحدها . والسر في ذلك أن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها ، فكانت مظنة لتوقع المخاطب حصول المقسم عليه ، لأن القسم دل على الاهتمام فناسب ذلك إدخال قد " .
وينتهى نسب نوح - عليه السلام - إلى شيث بن آدم - عليه السلام - وقد ذكر نوح في القرآن في ثلاث وأربعين موضعا .
وقوم الرجل أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جد واحد . وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازا للمجاورة .
وكان قوم نوح يعبدون الأصنام فأرسل الله إليهم نوحا ليدلهم على طريق الرشاد . قال ابن كثير : قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير : كان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا ، فبنى قومهم عليهم مساجد ، وصوروا صور أولئك الصالحين فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم ، فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور ، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين : وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا فلما تفاقم الأمر بعث الله - تعالى - رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له " .
وقوله : { فَقَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } حكاية لما وجهه نوح لقومه من إرشادات ، أى : قال لهم بتلطف وأدب تلك الكلمة التي وجهها كل رسول لمن أرسل إليهم : اعبدوا الله وحده لا شريك له ، فإنه هو المستحق للعبادة ، أما سواه فلا يملك نفعا أو ضرا .
وكلمة { غَيْرُهُ } قرئت بالحركات الثلاث ، بالرفع على أنها صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية . وقرأ الكسائى بالجر باعتبار اللفظ ، وقرىء بالنصب على الاستثناء بمعنى ، ما لكم من إله إلا إياه .
ثم حكى القرآن أن نوحا حذر قومه من سوء عاقبة التكذيب ، وأظهر لهم شفقته بهم وخوفه عليهم فقال : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أى : إنى أخاف عليكم إذا ما سرتم في طريق الكفر والضلال وتركتم عبادة الله وحده عذاب يوم عظيم ، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه ولتكميل الإنذار .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما موقع الجملتين بع قوله : { اعبدوا الله } قلت : الأولى - وهى ما لكم من إله غيره - بيان لوجه اختصاصه بالعبادة ، والثانية وهى - إنى أخاف .
. . إلخ - بيان الداعى إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله . واليوم العظيم : يوم القيامة ، أو يوم نزول العذاب بهم وهو الطوفان " .
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ، فقال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . قال الملأ من قومه : إنا لنراك في ضلال مبين . قال : يا قوم ليس بي ضلالة ، ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربي ، وأنصح لكم ، وأعلم من الله ما لا تعلمون . أو عجبتم أن جاءكم ذكر منربكم على رجل منكم لينذركم ، ولتتقوا ، ولعلكم ترحمون ؟ فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك ، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ، إنهم كانوا قوماً عمين ) . .
تعرض القصة هنا باختصار ، ليست فيها التفصيلات التي ترد في مواضع أخرى من القرآن في سياق يتطلب تلك التفصيلات ، كالذي جاء في سورة هود ، وفي سورة نوح . . إن الهدف هنا هو تصوير تلك المعالم التي تحدثنا عنها آنفاً . . طبيعة العقيدة . طريقة التبليغ . طبيعة استقبال القوم لها . حقيقة مشاعر الرسول . تحقق النذير . . لذلك تذكر من القصة فحسب تلك الحلقات المحققة لتلك المعالم ، على منهج القصص القرآني .
( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ) . .
على سنة الله في إرسال كل رسول من قومه ، وبلسانهم ، تأليفاً لقلوب الذين لم تفسد فطرتهم ، وتيسيراً علي البشر في التفاهم والتعارف . وإن كان الذين فسدت فطرتهم يعجبون من هذه السنة ، ولا يستجيبون ، ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم ، ويطلبون أن تبلغهم الملائكة ! وإن هي إلا تعلة . وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى ، مهما جاءهم من أي طريق !
لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ، فخاطبهم بتلك الكلمة الواحدة التي جاء بها كل رسول :
( فقال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) .
فهي الكلمة التي لا تتبدل ، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها ، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره ، وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف ووحدة الرباط . وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى ، والعبودية لأمثالهم من العبيد ، وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد .
إن دين الله منهج للحياة ، قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها لله . وهذا هو معنى عبادة الله وحده ، ومعنى ألا يكون للناس إله غيره . . والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة الله وقدره . كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبير أمره بقدرة الله وقدره . وعلى نفس المستوى يتمثل في الاعتقاد بربوبية الله لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية ، وقيامها على شريعته وأمره ، تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده . . كلها حزمة واحدة . . غير قابلة للتجزئة . وإلا فهو الشرك ، وهو عبادة غير الله معه ، أو من دونه !
ولقد قال نوح لقومه هذه القولة الواحدة ، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه ، وفي صدق الرائد الناصح لأهله :
( إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) . .
وهنا نرى أن ديانة نوح . . أقدم الديانات . . كانت فيها عقيدة الآخرة . عقيدة الحساب والجزاء في يوم عظيم ، يخاف نوح على قومه ما ينتظرهم فيه من عذاب . . وهكذا تتبين مفارقة منهج الله وتقريره في شأن العقيدة ، ومناهج الخابطين في الظلام من " علماء الأديان " وأتباعهم الغافلين عن منهج القرآن .
لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة ، وما يتعلق بذلك وما يتصل به ، وفرغ منه ، شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء ، عليهم السلام ، الأول فالأولَ ، فابتدأ بذكر نوح ، عليه السلام ، فإنه أول رسول إلى أهل الأرض بعد آدم ، عليه السلام ، وهو : نوح بن لامك بن متوشلح بن خَنُوخ - وهو إدريس [ النبي ]{[11845]} عليه السلام - فيما ، يزعمون ، وهو أول من خط بالقلم - ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم ، عليه{[11846]} السلام .
هكذا نسبه [ محمد ]{[11847]} بن إسحاق وغير واحد من أئمة النسب ، قال محمد بن إسحاق : ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل .
وقال يزيد الرقاشي : إنما سمّي نوحًا لكثرة ما ناح على نفسه .
وقد كان بين آدم إلى زمن نوح ، عليهما السلام ، عشرة قرون ، كلهم على الإسلام [ قاله عبد الله ابن عباس ]{[11848]}
قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير : وكان أول ما عبدت الأصنام ، أن قومًا صالحين ماتوا ، فبنى قومهم عليهم مساجدَ وصوروا صور أولئك فيها ، ليتذكروا حالهم وعبادتهم ، فيتشبهوا بهم . فلما طال الزمان ، جعلوا تلك الصور أجسادًا على تلك الصور . فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين " ودًا وسواعًا ويَغُوث وَيَعُوق ونسرًا " . فلما تفاقم الأمر بعث الله ، سبحانه وتعالى - وله الحمد والمنة - رسوله نوحا يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له ، فقال : { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : من عذاب يوم القيامة إنْ{[11849]} لقيتم الله وأنتم مشركون به
استئناف انتقل به الغرض من إقامة الحجّة والمنّةِ ( المبتدئة بقوله تعالى : { ولقد مكناكم في الأرض } [ الأعراف : 10 ] ، وتنبيه أهل الضّلالة أنّهم غارقون في كيد الشّيطان ، الذي هو عدوّ نوعهم ، من قوله : { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صِراطك المستقيم إلى قوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [ الأعراف : 16 33 ] ، ثمّ بالتّهديد بوصف عذاب الآخرة وأحوال النّاس فيه ، وما تخلّل ذلك من الأمثال والتّعريض ) ؛ إلى غرض الاعتبار والموعظة بما حلّ بالأمم الماضية . فهذا الاستئناف له مزيد اتّصال بقوله في أوائل السّورة [ 4 ] : { وكم من قرية أهلكناها } الآية ، وقد أفيض القول فيه في معظم السّورة وتَتْبَعُ هذا الاعتبار أغراضٌ أخرى : وهي تسلية الرّسول ، وتعليم أمّته بتاريخ الأمم التي قبلها من الأمم المرسل إليهم ، ليعلم المكذّبون من العرب أنّ لا غضاضة على محمّد ولا على رسالته من تكذيبهم ، ولا يجعله ذلك دون غيره من الرّسل ، بله أن يؤيّد زعمهم أنّه لو كان صادقاً في رسالته لأيَّده الله بعقاب مكذّيبه ( لما قالوا على سبيل التّهكّم أو الحجاج : { اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم } ) . وليعلَمَ أهل الكتاب وغيرهم أنّ ما لقيه محمّد من قومه هو شنشنة أهل الشّقاوة تلقاء دعوة رسل الله . وأكّد هذا الخبر بلام القسم وحرف التّحقيق لأنّ الغرض من هذه الأخبار تنظير أحوال الأمم المكذّبة رسلَها بحال مشركي العرب في تكذيبهم رسالة محمّد .
وكثُر في الكلام اقترانُ جملة جواب القسم : { بقَدْ } لأنّ القسم يُهيىء نفس السّامع لتوقع خبر مهم فيؤتى بقَد لأنّها تدلّ على تحقيق أمر متوقّع ، كما أثبته الخليل والزّمخشري ، والتّوقّع قد يكون توقعاً للمخبَر به ، وقد يكون توقعاً للخبر كما هنا .
وتقدّم التّعريف بنوح عند قوله تعالى { إنّ الله اصطفى آدم ونوحا } في سورة [ آل عمران : 33 ] . وكان قوم نوح يسكنون الجزيرة والعراق ، حسب ظن المؤرّخين . وعبر عنهم القرآن بطريق القومية المضافة إلى نوح إذ لم يكن لهم اسْم خاص من أسماء الأمم يعرفون به ، فالتّعريف بالإضافة هنا لأنّها أخصر طريق .
وعطف جملة { فقال يا قوم } على جملة { أرسلنا } بالفاء إشعاراً بأنّ ذلك القول صدر منه بفور إرساله ، فهي مضمون ما أرسل به .
وخاطب نوح قومه كلّهم لأنّ الدّعوة لا تكون إلاّ عامة لهم ، وعبّر في ندائهم بوصف القوم لتذكيرهم بآصرة القرابة ، ليتحقّقوا أنّه ناصح ومريد خيرهم ومشفق عليهم ، وأضاف ( القوم ) إلى ضميره للتحبيب والتّرقيق لاستجلاب اهتدائهم .
وقوله لهم : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } إبطال للحالة التي كانوا عليها ، وهي تحتمل أن تكون حالة شرك كحالة العرب ، وتحتمل أن تكون حالة وثنيّة باقتصارهم على عبادة لأصنام دون الله تعالى ، كحالة الصّابئه وقدماء اليونان ، وآيات القرآن صالحة للحالين ، والمنقول في القصص : أنّ قوم نوح كانوا مشركين ، وهو الذي يقتضيه ما في « صحيح البخاري » عن ابن عبّاس أنّ آلهة قوم نوح أسماء جماعة من صالحيهم فلمّا ماتُوا قال قومهم : لو اتَّخذنا في مجالسهم أنصاباً فاتّخَذوها وسمَّوْها بأسمائهم حتّى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت .
وظاهر ما في سورة نوح أنّهم كانوا لا يعبدون الله لقوله : { أن اعبدوا الله واتَّقُوه } [ نوح : 3 ] وظاهر ما في سورة فُصِّلت أنّهم يعترفون بالله لقولهم : { لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة } [ فصلت : 14 ] مع احتمال أنّه خرج مخرج التّسليم الجدلي فإن كانوا مشركين كان أمرُه إياهم بعبادة الله مقيَّداً بمدلول قوله : { ما لكم من إله غيره } أي أفردوه بالعبادة ولا تشركوا معه الأصنام ، وإن كانوا مقتصرين على عبادة الأوثان كان قوله : { ما لكم من إله غيره } تعليلاً للاقبال على عبادة الله ، أي هو الإله لا أوثانُكم .
وجملة : { ما لكم من إله غيره } على الوجه الأوّل بيان للعبادة التي أمَرَهم بها ، أي أفردوه بالعبادة دون غيره ، إذ ليس غيره لكم بالإله .
وعلى الوجه الثّاني يكون استئنافاً بيانياً للأمر بالإقلاع عن عبادة غيره .
وقرأ الجمهور { غيرهُ } بالرّفع على الصّفة ( لإله ) باعتبار محلّه لأنّه في محلّ رفع إذ هو مبتدأ وإنّما جرّ لدخول حرف الجرّ الزائد ولا يُعتد بجرّه ، وقرأه الكسائي ، وأبو جعفر : بجرّ { غير } على النّعت للّفظ ( إلاه ) نظراً لحرف الجر الزّائد .
وجملة : { إني أخاف عليكم عذاب يوم } يجوز أن تكون في موقع التّعليل ، كما في « الكشاف » : أي لمضمون قوله : { ما لكم من إله غيره } كأنّه قيل : اتركوا عبادة غير الله خوفاً من عذاب يوم عظيم ، وبُني نظم الكلام على خوففِ المتكلّم عليهم ، دلالة على إمحاضه النّصح لهم وحرصه على سلامتهم ، حتّى جعل ما يُضر بهم كأنّه يُضِرّ به ، فهو يخافه كما يخافون على أنفسهم ، وذلك لأنّ قوله هذا كان في مبدأ خطابهم بما أرسل به ، ويحتمل أنّه قاله بعد أن ظَهر منهم التّكذيب : أي إن كنتم لا تخافون عذاباً فإنّي أخافه عليكم ، وهذا من رحمة الرّسل بقومهم .
وفعل الخوف يتعدّى بنفسه إلى الشّيء المخوف منه ، ويتعدّى إلى مفعول ثان بحرف ( على ) إذا كان الخوف من ضر يلحقُ غيرَ الخائف ، كما قال الأحوص :
فإذا تزول تزول على مُتَخَمِّطٍ *** تُخْشَى بوادِرُهُ على الأقران
ويجوز أن تكون مستأنفة ثانية بعد جملة { اعبدوا الله } لقصد الإرهاب والإنذار ، ونكتة بناءِ نظم الكلام على خوف المتكلّم عليهم هي هي .
والعذاب المخوف ويومه يحتمل أنّهما في الآخرة أو في الدّنيا ، والأظهر الأوّل لأنّ جوابهم بأنّه في ضلال مبين يشعر بأنّهم أحالوا الوحدانية وأحالوا البعث كما يدلّ عليه قوله في سورة [ نوح : 17 ، 18 ] : { والله أنبتكم من الأرض نباتا ثمّ يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً } فحالهم كحال مشركي العرب لأنّ عبادة الأصنام تمحّض أهلها للاقتصار على أغراض الدّنيا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أقسم ربنا جلّ ثناؤه للمخاطبين بهذه الآية أنه أرسل نوحا إلى قومه منذرهم بأسه، ومخوّفهم سخطه على عبادتهم غيره، فقال لمن كفر منهم:"يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ" الذي له العبادة، وذلوا له بالطاعة واخضعوا له بالاستكانة، ودعوا عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، فإنه ليس لكم معبود يستوجب عليكم العبادة غيره، فإني أخاف عليكم إن لم تفعلوا ذلك "عَذَابَ يَوْمٍ عظِيم "يعني: عذاب يوم يعظم فيه بلاؤكم بمجيئه إياكم بسخط ربكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لقد أرسلنا نوحا إلى قومه} كما أرسلناك إلى قومك، ولست أنت بأول رسول كقوله تعالى: {قل ما كنت بدعا من الرسل} [الأحقاف: 9]
وفي ذلك دلالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن رسالة نوح، فدل أنه بالله عرف ذلك.
{ما لكم من إله غيره} أي ما لكم من الإله الحق الذي تثبت ألوهيته وربوبيته بالدلائل من إله غيره.
{إني أخاف عليكم عذاب يوم} قال بعضهم: {إني أخاف}...الخوف هو 75 خوف إشفاق، وذلك يحتمل أن يكون في الوقت الذي كان يطمع إيمان قومه، ثم آيسه الله عن إيمان قومه بقوله تعالى: {لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [هود: 36].
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى وأقسم على خبره -لأن اللام في قوله "لقد "لام القسم- بأنه أرسل نوحا (عليه السلام) إلى قومه، وإرساله إياه هو تكليفه القيام بالرسالة، وهي منزلة جليلة شريفة يستحق بها الرسول بتقبله إياها والقيام بأعبائها أن يعظم أعلى تعظيم البشر، وأخبر أن نوحا قال لقومه: "يا قوم اعبدوا الله" والعبادة: هي الخضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع، يعظم به من له أعظم النعم، فلذلك لا يستحق العبادة غير الله، وأخبر أنه أمرهم بأن تكون عبادتهم لله وحده، لأنه لا إله لهم غيره، ولا معبود لهم سواه. وقال لهم "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" يريد به يوم القيامة، والعذاب هو الألم الجاري على استمرار، وقد يكون غير عقاب، إلا أن المراد به -ههنا- العقاب. والعقاب: الألم على ما كان من المعاصي. ولم يجعل خوفه عليهم على وجه الشك، بل أخبرهم أن هذا العذاب سيحل بهم إن لم يقبلوا ما أتاهم به.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...فإن قلت: فما موقع الجملتين بعد قوله: {اعبدوا الله}؟ قلت: الأولى بيان لوجه اختصاصه بالعبادة. والثانية: بيان للداعي إلى عبادته، لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله. واليوم العظيم يوم القيامة أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة، وبينات قاهرة، وبراهين باهرة أتبعها بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام، وفيه فوائد: أحدها: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات ليس من خواص قوم محمد عليه الصلاة والسلام بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة، والمصيبة إذا عمت خفت. فكان ذكر قصصهم وحكاية إصرارهم على الجهل والعناد يفيد تسلية الرسول عليه السلام وتخفيف ذلك على قلبه. وثانيها: أنه تعالى يحكي في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى الكفر واللعن في الدنيا والخسارة في الآخرة وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا والسعادة في الآخرة، وذلك يقوي قلوب المحقين ويكسر قلوب المبطلين. وثالثها: التنبيه على أنه تعالى وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ولكنه لا يهملهم بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه.
في الآية فوائد: الفائدة الأولى: أنه تعالى حكى عن نوح في هذه الآية ثلاثة أشياء: أحدها: أنه عليه السلام أمرهم بعبادة الله تعالى. والثاني: أنه حكم أن لا إله غير الله، والمقصود من الكلام الأول إثبات التكليف، والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد. ثم قال عقيبه: {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} ولا شك أن المراد منه إما عذاب يوم القيامة، وعلى هذا التقدير: فهو قد خوفهم بيوم القيامة، وهذا هو الدعوى الثالثة، أو عذاب يوم الطوفان، وعلى هذا التقدير: فقد ادعى الوحي والنبوة من عند الله، والحاصل أنه تعالى حكى عنه أنه ذكر هذه الدعاوى الثلاثة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
لما ذكر في هذه السورة مبدأ الخلق الإنساني وهو آدم عليه السلام، وقصّ من أخباره ما قصّ، واستطرد من ذلك إلى المعاد ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاوة إلى النار، وأمره تعالى بترك الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، وكان من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً غير مستجيبين له ولا مصدّقين لما جاء به عن الله، قصّ تعالى عليه أحوال الرّسل الذين كانوا قبله وأحوال من بعثوا إليهم على سبيل التّسلية له صلى الله عليه وسلم والتأسي بهم، فبدأ بنوح إذ هو آدم الأصغر وأول رسول بعث إلى من في الأرض وأمته أدوم تكذيباً له وأقلّ استجابة.
وفي ندائه قومه، تنبيه لهم لما يلقيه إليهم، واستعطاف وتذكير بأنهم قومه، فالمناسب أن لا يخالفوه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان من المقاصد العظيمة: الإعلام بأن الذي دعا إليه هذا الرسول لم تزل الرسل -على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام- تدعو إليه، وكان نوح أول رسول ذكرت رسالته عقب ذكر إرساله بذكر ما أرسل به بالفاء بقوله {فقال يا قوم} أي فتحبب إليهم بهذه الإضافة {اعبدوا الله} أي الذي له جميع العظمة من الخلق والأمر، فإنه مستحق لذلك وقد كلف عباده به. ولما كان المقصود إفراده بذلك، علله بقوله مؤكداً له بإثبات الجار {ما لكم} وأغرق في النفي فقال: {من إله غيره} ثم قال معللاً أو مستأنفاً مخوفاً مؤكداً لأجل تكذيبهم: {إني أخاف عليكم} في الدنيا والآخرة، ولعله قال هنا: {عذاب يوم عظيم} وفي هود {أليم} وقال في المؤمنون {أفلا تتقون} لأن ترتيب السور الثلاث -وإن كان الصحيح أنه باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم- فلعله جاء على ترتيبها في النزول، لأنها مكيات، وعلى ترتيب مقال نوح عليه السلام لهم فألان لهم أولاً المقال من حيث إنه أوهم أن العظم الموصوف به {اليوم} لا بسبب العذاب بل لأمر آخر، فيصير العذاب مطلقاً يتناول أي عذاب كان و لو قل، فلما تمادى تكذيبهم بين لهم أن عظمه إنما هو من جهة إيلام العذاب الواقع فيه، فلما لجوا في عتوهم قال لهم قول القادر إذا هدد عند مخالفة غيره له: ألا تفعل ما أقول لك؟ أي متى خالفت بعد هذا عاجلتك بالعقاب وأنت تعرف قدرتي.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
لما بيّن سبحانه كمال قدرته، وبديع صنعته في الآيات السابقة، ذكر هنا أقاصيص الأمم وما فيها من تحذير الكفار ووعيدهم، لتنبيه هذه الأمة على الصواب، وأن لا يقتدوا بمن خالف الحق من الأمم السالفة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا سياق جديد في قصص الأنبياء المرسلين المشهور ذكرهم في الأمة العربية والشعوب المجاورة لها قد سبق التمهيد له فيما تقدم من نداء الله تعالى لبني آدم بقوله: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم} إلى آخر الآيتين 33 و34 ومنه يعلم وجه التناسب واتصال الكلام.
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه} بدأ تعالى هذه القصة بالقسم لتأكيد خبرها لأول من وجه إليهم الخطاب بها وهم أهل مكة ومن وراءهم من العرب، إذ كانوا ينكرون الرسالة والوحي، على كونهم أميين ليس عندهم من علوم الأمم وقصص الرسل شيء. إلا أن تكون كلمة في بيت شعر مأثور أو عبارة ناقصة من بعض أهل الكتاب حيث كانوا يلقونهم من بلاد العرب أو الشام أو ممن تهود أو تنصر منهم، وكلهم أو جلهم ظلوا على أميتهم. والقسم محذوف دل عليه لامه في بدء الجملة وهي لا تكاد تجيء إلا مع قد لأنها مظنة التوقع، ونوح أول رسول أرسله الله تعالى إلى قوم مشركين هم قومه كما ثبت في حديث في عدد الشفاعة وغيره، وتقدم التحقيق في هذه المسألة في تفسير سورة الأنعام عند البحث في عدد الرسل المذكورين في القرآن وهل يعد آدم منهم أم لا؟ (ج 7) وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس أن قوم نوح هم الذين صوروا بعض الصالحين منهم ثم وضعوا لهم الصور والتماثيل لإحياء ذكرهم والاقتداء بهم، ثم عدوا صورهم وتماثيلهم وقد تقدم بيان هذا في تفسير الأنعام (ج 7) وغيره.
{فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُه} أي فناداهم بصفة القومية مضافة إليه استمالة لهم، ودعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده مع بيان أنه ليس لهم إله غيره يتوجهون إليه في عبادتهم، بدعاء يطلبون به ما لا يقدرون عليه بكسبهم، وما جعله الله في استطاعتهم من الأسباب التي تنال بها المطالب، فإن مثل هذا هو الذي يتوجه في طلبه إلى الرب الخالق لكل شيء الذي بيده ملكوت كل شيء وهذا التوجه والدعاء هو مخ العبادة ولبابها فلا يحل لمؤمن بالله تعالى أن يتوجه فيه إلى غيره البتة لا استقلالا ولا بالتبع للتوجه إلى الله تعالى وإرادة التوسط به عنده فإن هذا عين الشرك، الذي ضل به أكثر من ضل من الخلق.
وقوله تعالى:"من إله" يفيد تأكيد النفي وعمومه...
والمراد من النفي العام المستغرق هنا أنه ليس لهم إله ما يستحق أن يوجه إليه نوع ما من أنواع العبادة لا لرجاء النفع أو دفع الضرر منه لذاته، ولا لأجل توسطه وشفاعته عند الله تعالى، بل الإله الحق الذي يستحق أن تتوجه القلوب إليه بالدعاء هو الله وحده...
{إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} هذا إنذار مستأنف علل به الأمر بعبادة الله تعالى وحده المستلزم لترك أدنى شوائب الشرك بها، وبيان لعقيدة البعث والجزاء وهي الركن الثاني من أركان الإيمان بعد التسليم بالرسالة. أي إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم إذا لم تمتثلوا ما أمرتكم به، وهو يوم القيامة الذي يبعث الله تعالى فيه العباد ويجازيهم بإيمانهم وكفرهم وما يترتب عليهما من أعمالهم. وقيل يوم الطوفان ويضعف بأن الإنذار به لم يكن عند تبليغ الدعوة بل بعد طول الإباء والرد والوصول معهم إلى درجة اليأس المبين بقوله تعالى من سورته حكاية عنه {قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} (نوح 5- 6) الآيات وبقوله من سورة هود: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} (هود 36) الآيات إلا أن يراد باليوم العظيم عذاب الدنيا مطلقا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تعرض القصة هنا باختصار، ليست فيها التفصيلات التي ترد في مواضع أخرى من القرآن في سياق يتطلب تلك التفصيلات، كالذي جاء في سورة هود، وفي سورة نوح.. إن الهدف هنا هو تصوير تلك المعالم التي تحدثنا عنها آنفاً.. طبيعة العقيدة. طريقة التبليغ. طبيعة استقبال القوم لها. حقيقة مشاعر الرسول. تحقق النذير.. لذلك تذكر من القصة فحسب تلك الحلقات المحققة لتلك المعالم، على منهج القصص القرآني...
(لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه).. على سنة الله في إرسال كل رسول من قومه، وبلسانهم، تأليفاً لقلوب الذين لم تفسد فطرتهم، وتيسيراً علي البشر في التفاهم والتعارف. وإن كان الذين فسدت فطرتهم يعجبون من هذه السنة، ولا يستجيبون، ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم، ويطلبون أن تبلغهم الملائكة! وإن هي إلا تعلة. وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى، مهما جاءهم من أي طريق! لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه، فخاطبهم بتلك الكلمة الواحدة التي جاء بها كل رسول: (فقال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). فهي الكلمة التي لا تتبدل، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره، وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف ووحدة الرباط. وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى، والعبودية لأمثالهم من العبيد، وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد. إن دين الله منهج للحياة، قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها لله. وهذا هو معنى عبادة الله وحده، ومعنى ألا يكون للناس إله غيره.. والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة الله وقدره. كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبير أمره بقدرة الله وقدره. وعلى نفس المستوى يتمثل في الاعتقاد بربوبية الله لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية، وقيامها على شريعته وأمره، تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده.. كلها حزمة واحدة.. غير قابلة للتجزئة. وإلا فهو الشرك، وهو عبادة غير الله معه، أو من دونه! ولقد قال نوح لقومه هذه القولة الواحدة، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه، وفي صدق الرائد الناصح لأهله: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم).. وهنا نرى أن ديانة نوح.. أقدم الديانات.. كانت فيها عقيدة الآخرة. عقيدة الحساب والجزاء في يوم عظيم، يخاف نوح على قومه ما ينتظرهم فيه من عذاب.. وهكذا تتبين مفارقة منهج الله وتقريره في شأن العقيدة، ومناهج الخابطين في الظلام من "علماء الأديان "وأتباعهم الغافلين عن منهج القرآن...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بُني نظم الكلام على خوف المتكلّم عليهم، دلالة على إمحاضه النّصح لهم وحرصه على سلامتهم، حتّى جعل ما يُضر بهم كأنّه يُضِرّ به، فهو يخافه كما يخافون على أنفسهم، وذلك لأنّ قوله هذا كان في مبدأ خطابهم بما أرسل به، ويحتمل أنّه قاله بعد أن ظَهر منهم التّكذيب: أي إن كنتم لا تخافون عذاباً فإنّي أخافه عليكم، وهذا من رحمة الرّسل بقومهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بعد الآيات الكونية التي ذكرها الله تعالى دالة على وحدانيته – سبحانه وتعالى – ساق أنباء الرسل، ودعوتهم إلى التوحيد، وتبليغهم رسالات ربهم في إصلاح الإنسان، والقيام بحق ما أنعم الله به عليه، وأنباء من أرسلوا إليهم، وكفر من كفر، وعناده، وأخبر عن دعوة كل رسول وما أجيب به، وذلك لأمور كثيرة:
أولها – العبرة بأحوال السابقين والوثنيين الذين اعترضوا على الأنبياء، لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.
وثانيها – بيان ما نزل بالمشركين الذين كفروا بالله وكذبوا الأنبياء وعاندوهم وآذوا من اتبعوهم، من عذاب حتم عليهم، ومن خسف جعل عالي ديارهم سافلها، ومن ريح صرصر عاتية، وليعلم الوثنيون الذين يخاطبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى يمهلهم ولا يهملهم، كما قال تعالى: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب (6)} (الرعد).
وثالثها – أن الآيات مهما تكن شديدة قارعة حسية لا تجعل من القلب الجاحد مؤمنا، فهؤلاء السابقون جاءتهم الآيات الحسية القارعة، ولكن لم تحمل الوثنيين على الإيمان، بل جحدوا وإن كانوا مستيقنين.
و رابعها – التسرية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يكن أول من كذب وجحدت آياته بل كذبوا من قبل.
و خامسها – أن في نبأ كل نبي من الأنبياء تساق الحجج على التوحيد، والتنبيه إلى آيات الله تعالى في الكون.
وسادسها – أن في القصص علم الأمم، وأخلاقها، وضلالها، وهداية من يهتدى.