إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ} (59)

وقد عُقّب ذلك بما يحققه ويقرّره من قصص الأممِ الخاليةِ بطريق الاستئناف فقيل : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ } هو جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي والله لقد أرسلنا الخ ، واطّرادُ استعمالِ هذه اللامِ مع قد لكون مدخولِها مَظِنّةً للتوقع الذي هو معنى قد ، فإن الجملة القسَميةَ إنما تُساق لتأكيد الجملةِ المُقسَم عليها ، ونوحٌ هو ابنُ لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريسُ النبيُّ عليهما السلام . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : بُعث عليه السلام على رأس أربعين سنةً من عمره ولبِث يدعو قومه تسعَمِائةٍ وخمسين سنةً وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنةً فكان عمرُه ألفاً ومائتين وأربعين سنة . وقال مقاتل : بعث وهو ابنُ مائةِ سنةٍ وقيل : وهو ابنُ مائتين وخمسين سنةً ومكث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمرُه ألفاً وأربَعَمِائةٍ وخمسين سنة { فَقَالَ يا قوم اعبدوا الله } أي اعبدوه وحدَه ، وتركُ التقييدِ به للإيذان بأنها العبادةُ حقيقةً ، وأما العبادةُ بالإشراك فليست من العبادة في شيء وقوله تعالى : { مَا لَكُم منْ إله غَيْرُهُ } أي من مستحِقٍَّ للعبادة ، استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل العبادةِ المذكورةِ أو الأمرِ بها ، وغيرُه بالرفع صفةٌ لإله باعتبار محلِّه الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية ، وقرى بالجر باعتبار لفظه ، وقرئ بالنصب على الاسثناء وحكمُ غيرٍ حكمُ الاسمِ الواقعِ بعد إلا أي ما لكم من إله إلا إياه كقولك : ما في الدار من أحد إلا زيداً أو غيرَ زيدٍ ، فمن إله إن جعل مبتدأً فلكم خبرُه ، أو خبرُه محذوفٌ ولكم للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود أو في العالم إله غيرُ الله { إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ } أي إن لم تعبُدوه حسْبما أُمرت به { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } هو يومُ القيامة أو يومُ الطوفان ، والجملةُ تعليلٌ للعبادة ببيان الصارفِ عن تركها إثرَ تعليلِها ببيان الداعي إليها ، ووصفُ اليومِ بالعِظَم لبيان عظيمِ ما يقع فيه وتكميلِ الإنذار .