الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ} (59)

قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا } : جوابُ قسمٍ محذوف تقديره : واللهِ لقد أرسَلْنا . قال الزمخشري : " فإن قلتَ : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع " قد " ، وقلَّ عنهم قولُه :

حَلَفْتُ لها بالله حَلْفَةَ فاجرٍ *** لَناموا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قلت : إنما كان ذلك لأن الجملةَ القسَمية لا تُساقُ إلا تأكيداً للجملة المقسمِ عليها التي هي جوابُها فكانت مَظَنَّةً لمعنى التوقع الذي هو معنى " قد " عند استماع المخاطب كلمة " القسم " ، وأمَّا غير أبي القاسم من النحاة فإنه قال : " إذا كان جواب القسم ماضياً مثبتاً متصرفاً : فإمَّا أن يكون قريباً مِنْ زمن الحال فتأتي ب " قد " وإلاَّ أَتَيْتَ باللام وحدها " فظاهر هذه العبارة جوازُ الوجهَيْن باعتبارَيْن .

وقال هنا : " لقد " من غير عاطفٍ وفي هود والمؤمنين : " ولقد " بعاطف . وأجاب الكرماني بأن في هود قد تقدَّم ذِكْرُ الرسول مرات ، وفي المؤمنين ذُكِر نوح ضمناً في قوله " وعلى الفلك " لأنه أولُ مَنْ صنعها [ فَحَسُنَ أن يُؤْتَى بالعاطف على ما تقدم ] بخلافه في هذه السورة/ .

قوله " غيره " قرأه الكسائي بخفض الراء في جميع القرآن ، والباقون برفعها . وقرأ عيسى بن عمر " غيرَه " بالنصب . فالجرُّ على النعت أو البدل من " إله " لفظاً . والرفعُ على النعتِ أو البدل من موضع " إله " لأنَّ " مِن " مزيدةٌ فيه ، وموضعهُ رفع : إمَّا بالابتداء وإمَّا بالفاعلية . ومنع مكي في وجهِ الجر أن يكونَ بدلاً من " إله " على اللفظ قال : " كما لا يجوزُ دخولُ " مِنْ " لو حَذَفْتَ المبدل منه لأنها لا تدخل في الإِيجاب " وهذا كلامٌ متهافت . والنصبُ على الاستثناء ، والقراءتان الأُوْلَيان أرجحُ ؛ لأن الكلامَ متى كان غيرَ إيجاب رَجَحَ الإِتباع على النصب على الاستثناء ، وحكمُ " غير " حكمُ الاسمِ الواقعِ بعد " إلا " . و " من إله " إذا جَعَلْته مبتدأ فلك في الخبر وجهان أظهرهما : أنه " لكم " ، والثاني : أنه محذوفٌ أي : ما لكم مِنْ إلهٍ في الوجود أو في العالم غير الله ، و " لكم " على هذا تخصيصٌ وتبيين .

وجيء هنا بفاء العطف حيث قيل " فقال " وكذا في المؤمنين ، وفي قصة هود وصالح وشعيب هنا بغير فاء ، والأصل الفاء ، وإنما حُذِفَتْ تخفيفاً وتوسُّعاً واكتفاءً بالربط المعنوي ، وكانت الثواني فما بعدها بالحذف أوْلى ، وأمَّا في هود فيقدَّر قبل قوله " إني لكم " : فقال ، بالفاء على الأصل . وجاء هنا { مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } فلم يَعْطِفْ هذه الجملةَ المنفيَّة بفاءٍ ولا غيرها لأنها مبينة ومنبِّهة على اختصاص الله تعالى بالعبادة ورَفْضِ ما سواه وكانت في غاية الاتصال .