ثم جاءت بعد ذلك العقوبة لقارون ، بعد أن تجاوز الحدود فى البغى والفخر والإفساد فى الأرض . وقد حكى سبحانه - هذه العقوبة فى قوله : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } .
وقوله - تعالى - { فَخَسَفْنَا } من الخسف وهو النزول فى الأرض ، يقال : خسف المكان خسفا - من باب ضرب - إذا غار فى الأرض . ويقال : خسف القمر ، إذا ذهب ضؤوه ، وخسف الله بفلان الأرض ، إذا غيبه فيها .
قال ابن كثير لما ذكر الله - تعالى - اختيال قارون فى زينته ، وفخره على قومه وبغيه عليهم ، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض ، كما ثبت فى الصحيح - عند البخارى من حديث الزهرى عن سالم - أن أباه حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به ، فهو يتجلجل فى الأرض إلى يوم القيامة " .
أى : تمادى قارون فى بغيه ، ولم يستمع لنصح الناصحين ، فغيبناه فى الأرض هو وداره ، وأذهبناهما فيها ذهابا تاما .
{ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله } أى : فما كان لقارون من جماعة أو عصبة تنصره من عذاب الله ، بأن تدفعه عنه ، أو ترحمه منه .
{ وَمَا كَانَ } قارون { مِنَ المنتصرين } بل كان من الأذلين الذين تلقوا عقوبة الله - تعالى - باستسلام وخضوع وخنوع ، دون أن يستطيع هو أو قومه رد عقوبة الله - تعالى - .
وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها ، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى ، تتدخل يد القدرة لتضع حدا للفتنة ، وترحم الناس الضعاف من إغرائها ، وتحطم الغرور والكبرياء تحطما . ويجيء المشهد الثالث حاسما فاصلا :
( فخسفنا به وبداره الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وما كان من المنتصرين ) . .
هكذا في جملة قصيرة ، وفي لمحة خاطفة : ( فخسفنا به وبداره الأرض )فابتلعته وابتعلت داره ، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا . وذهب ضعيفا عاجزا ، لا ينصره أحد ، ولا ينتصر بجاه أو مال .
وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس ؛ وردتهم الضربة القاضية إلى الله ؛ وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال . وكان هذا المشهد الأخير :
لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته ، وفخره على قومه وبغيه عليهم ، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض ، كما ثبت في الصحيح - عند البخاري من حديث الزهري ، عن سالم - أن أباه حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به{[22418]} ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة " .
ثم رواه من حديث جرير بن زيد ، عن سالم عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه{[22419]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص ، حدثنا الأعمش ، عن عطية{[22420]} ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله{[22421]} صلى الله عليه وسلم : " بينا رجل فيمَنْ كان قبلكم ، خرج في بُرْدَيْن أخضرين يختال فيهما ، أمر الله الأرض فأخذته ، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة " . تفرد به أحمد{[22422]} ، وإسناده حسن .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو خَيْثَمَةَ ، حدثنا أبو معلى بن منصور{[22423]} ، أخبرني محمد بن مسلم ، سمعت زيادًا النميري يحدث عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينا رجل فيمن{[22424]} كان قبلكم خرج في بردين فاختال فيهما ، فأمر الله الأرض فأخذته ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " {[22425]} .
وقد ذكر [ الحافظ ]{[22426]} محمد بن المنذر - شكَّر - في كتاب العجائب الغريبة بسنده عن نوفل بن مساحق قال : رأيت شابًّا في مسجد نجران ، فجعلت أنظر إليه وأتعجب من طوله وتمامه وجماله ، فقال : ما لك تنظر إلي ؟ فقلت : أعجب من جمالك وكمالك . فقال : إن الله ليعجب مني . قال : فما زال ينقص وينقص حتى صار بطول الشبر ، فأخذه بعض قرابته في كمه وذهب .
وقد ذُكر أن هلاك قارون كان عن دعوة نبي الله موسى عليه السلام{[22427]} واختلف في سببه ، فعن ابن عباس والسدي : أن قارون أعطى امرأة بَغِيَّا مالا على أن تبهت موسى بحضرة الملأ من بني إسرائيل ، وهو قائم فيهم يتلو عليهم كتاب الله ، فتقول : يا موسى ، إنك فعلت بي كذا وكذا . فلما قالت في الملأ ذلك{[22428]} لموسى عليه السلام ، أرْعِدَ من الفَرَق ، وأقبل عليها{[22429]} وصلى ركعتين ثم قال : أنشدك بالله الذي فَرَق البحر ، وأنجاكم من فرعون ، وفعل كذا و[ فعل ]{[22430]} كذا ، لما أخبرتني بالذي حملك على ما قلت ؟ فقالت : أما إذ نَشَدْتَني فإن قارون أعطاني كذا وكذا ، على أن أقول لك ، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه . فعند ذلك خَرّ موسى لله عز وجل ساجدًا ، وسأل الله في قارون . فأوحى الله إليه أني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه ، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره فكان{[22431]} ذلك .
وقيل : إن قارون لما خرج على قومه في زينته تلك ، وهو راكب على البغال الشّهب ، وعليه وعلى خدمه الثياب الأرجوان الصّبغة{[22432]} ، فمر في جَحْفَله ذلك على مجلس نبي الله موسى عليه السلام ، وهو يذكرهم بأيام الله . فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوه الناس حوله ، ينظرون إلى ما هو فيه . فدعاه موسى عليه السلام ، وقال : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : يا موسى ، أما لئن كنت فُضِّلتَ عَلَيَّ بالنبوة ، فلقد فضلت عليك بالدنيا ، ولئن شئت لتخرجن ، فلتدعون عليّ وأدعو عليك . فخرج وخرج قارون في قومه ، فقال موسى{[22433]} : تدعو أو أدعو أنا ؟ قال : بل أنا أدعو . فدعا قارون فلم يجب له ، ثم قال موسى{[22434]} : أدعو ؟ قال : نعم . فقال موسى : اللهم ، مُر الأرض أن تطيعني{[22435]} اليوم . فأوحى الله إليه أني قد فعلت ، فقال موسى : يا أرض ، خذيهم . فأخذتهم إلى أقدامهم . ثم قال : خذيهم . فأخذتهم إلى ركبهم ، ثم إلى مناكبهم . ثم قال : أقبلي بكنوزهم وأموالهم . قال : فأقبلت بها حتى نظروا إليها . ثم أشار موسى بيده فقال : اذهبوا بني لاوى{[22436]} فاستوت بهم الأرض .
وعن ابن عباس أنه قال : خُسف بهم إلى الأرض السابعة .
وقال قتادة : ذكر لنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة ، فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة .
وقد ذكر ها هنا إسرائيليات [ غريبة ]{[22437]} أضربنا عنها صفحًا .
وقوله : { فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } أي : ما أغنى عنه مالُه ، وما جَمَعه ، ولا خدمه و [ لا ]{[22438]} حشمه . ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله [ به ]{[22439]} ، ولا كان هو في نفسه منتصرًا لنفسه ، فلا ناصر له[ لا ]{[22440]} من نفسه ، ولا من غيره .
دلت الفاء على تعقيب ساعة خروج قارون في ازدهائه وما جرى فيها من تمني قوم أن يكونوا مثله ، وما أنكر عليهم علماؤهم من غفلتهم عن التنافس في ثواب الآخرة بتعجيل عقابه في الدنيا بمرأى من الذين تمنوا أن يكونوا مثله .
والخسف : انقلاب بعض ظاهر الأرض إلى باطنها ، وعكسه . يقال : خسفت الأرض وخسف الله الأرض فانخسفت ، فهو يستعمل قاصراً ومتعدياً ، وإنما يكون الخسف بقوة الزلزال . وأما قولهم : خسفت الشمس فذلك على التشبيه . والباء في قوله { فخسفنا به } باء المصاحبة ، أي خسفنا الأرض مصاحبة له ولداره ، فهو وداره مخسوفان مع الأرض التي هو فيها ، وتقدم قوله تعالى { أن يخسف الله بهم الأرض } في سورة النحل( 45 ) .
وهذا الخسف خارق للعادة لأنه لم يتناول غير قارون ومن ظاهره ، وهما رجلان من سبط ( روبين ) وغير دار قارون ، فهو معجزة لموسى عليه السلام .
جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن قورح ( وهو قارون ) ومن معه لما آذوا موسى كما تقدم ، وذكرهم موسى بأن الله أعطاهم مزية خدمة خيمته ولكنه أعطى الكهانة بني هارون ولم تجد فيهم الموعظة غضب موسى عليهم ودعا عليهم ثم أمر الناس بأن يبتعدوا من حوالي دار قورح ( قارون ) وخيام جماعته . وقال موسى : إن مات هؤلاء كموت عامة الناس فاعلموا أن الله لم يرسلني إليكم وان ابتدع الله بدعة ففتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل مالهم فهبطوا أحياء إلى الهاوية تعلمون أن هؤلاء قد ازدروا بالرب . فلما فرغ موسى من كلامه انشقت الأرض التي هم عليها وابتلعتهم وبيوتهم وكل ما كان لقورح مع كل أمواله وخرجت نار من الأرض أهلكت المائتين والخمسين رجلاً . وقد كان قارون معتزاً على موسى بالطائفة التي كانت شايعته على موسى وهم كثير من رؤساء جماعة اللاويين وغيرهم ، فلذلك قال الله تعالى { فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله } ، إذ كان قد أعدهم للنصر على موسى رسول الله فخسف بهم معه وهو يراهم ، { وما كان من المنتصرين } كما كان يحسب . يقال : انتصر فلان ، إذا حصل له النصر ، أي فما نصره أنصاره ولا حصل له النصر بنفسه .