وقوله : { وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى } أى : وأنه - سبحانه - هو الذى أغنى الناس بالأموال الكثيرة المؤثلة ، التى يقتنيها الناس ويحتفظون بها لأنفسهم ولمن بعدهم .
فقوله : { أقنى } من القنية بمعنى الادخار للشىء ، والمحافظة عليه .
قال الآلوسى : قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى } أى : وأعطى القُنْية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ، ببقاء نفسه ، كالرياض والحيوان والبناء .
وأفرد - سبحانه - ذلك بالذكر مع دخوله فى { أغنى } لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها .
وفي النشأة الأولى . وفي النشأة الأخرى . يغني الله من يشاء من عباده ويقنيه :
أغنى من عباده من شاء في الدنيا بأنواع الغنى وهي شتى . غنى المال . وغنى الصحة . وغى الذرية . وغنى النفس . وغنى الفكر . وغنى الصلة بالله والزاد الذي ليس مثله زاد .
وأغنى من عباده من شاء في الآخرة من غنى الآخرة !
وأقنى من شاء من عباده . من كل ما يقتنى في الدنيا كذلك وفي الآخرة !
والخلق فقراء ممحلون . لا يغتنون ولا يقتنون إلا من خزائن الله . فهو الذي أغنى . وهو الذي أقنى . وهي لمسة من واقع ما يعرفون وما تتعلق به أنظارهم وقلوبهم هنا وهناك . ليتطلعوا إلى المصدر الوحيد . ويتجهوا إلى الخزائن العامرة وحدها ، وغيرها خواء !
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } أي : مَلَّك عباده المال ، وجعله لهم قُنْيَة مقيما عندهم ، لا يحتاجون إلى بيعه ، فهذا تمام النعمة عليهم . وعلى هذا يدور كلام كثير من المفسرين ، منهم أبو صالح ، وابن جرير ، وغيرهما . وعن مجاهد : { أَغْنَى } : مَوَّل ، { وَأَقْنَى } : أخدم . وكذا قال قتادة .
وقال ابن عباس ومجاهد أيضا : { أَغْنَى } : أعطى ، { وَأَقْنَى } : رَضّى .
وقيل : معناه : أغنى نفسه وأفقر الخلائق إليه ، قاله الحضرمي بن لاحق .
وقيل : { أَغْنَى } من شاء من خلقه و { وَأَقْنَى } : أفقر من شاء منهم ، قاله ابن زيد . حكاهما ابن جرير {[27717]} وهما بعيدان من حيث اللفظ .
{ وأقنى } معناه : أكسب ، يقال : قنبت المال ، أي كسبته ، ثم يعدى بعد ذلك بالهمزة ، وقد يعدى بالتضعيف ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
كم من غني أصاب الدهر ثروته*** ومن فقير يقنّى بعد إقلالِ{[10731]}
وعبر المفسرون عن { أقنى } بعبارات مختلفة . وقال بعضهم : { أقنى } معناه : أكسب ما يقتني ، وقال مجاهد معناه : أغنى وأرضى . وقال حضرمي معناه : أغنى عن نفسه { وأقنى } أفقر عباده إليه . وقال الأخفش : { أقنى } أفقر ، وهذه عبارات لا تقتضيها اللفظة ، والوجه فيها بحسب اللغة أكسب ما يقتني . وقال ابن عباس : { أقنى } قنع . والقناعة خير قنية ، والغنى عرض زائل ، فلله در ابن عباس .
ومعنى { أغنى } جَعَل غنِيًّا ، أي أعطى ما به الغِنى ، والغنى التمكن من الانتفاع بما يحب الانتفاع به .
ويظهر أن معنى { أقنى } ضد معنى { أغنى } رعيا لنظائره التي زاوجت بين الضدين من قوله : { أضحك وأبكى } [ النجم : 43 ] و { أمات وأحيا } [ النجم : 44 ] ، و { الذكر والأنثى } [ النجم : 45 ] ، ولذلك فسره ابن زيد والأخفش وسليمان التميمي بمعنى أرضى .
وعن مجاهد وقتادة والحسن : { أقنى } : أخدَم ، فيكون مشتقاً من القِنّ وهو العبد أو المولود في الرّق فيكون زيادة على الإِغناء . وقيل : { أَقنى } : أعطى القنية . وهذا زيادة في الغنى . وعن ابن عباس : { أقنى } : أرضى ، أي أرضى الذي أغناه بما أعطاه ، أي أغناه حتى أرضاه فيكون زيادة في الامتنان .
والإِتيان بضمير الفصل لِقصر صفة الإِغناء والإِقناء عليه تعالى دون غيره وهو قصر ادعائي لِمقابلة ذهول الناس عن شكر نعمة الله تعالى بإسنادهم الأرزاق لوسَائله العادية ، مع عدم التنبه إلى أن الله أوجد مواد الإِرزاق وأسبابها وصرف موانعها ، وهذا نظير ما تقدم من القصر في قوله تعالى : { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 2 ] .
وموقع جملة { وأنه هو أغنى وأقنى } كموقع جملة { وأن سعيه سوف يرى } [ النجم : 40 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأنه هو أغنى وأقنى} يقول: موّل وأرضى هذا الإنسان بما أعطى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأن ربك هو أغنى من أغنى من خلقه بالمال وأقناه، فجعل له قُنية أصول أموال. واختلف أهل التأويل في تأويله؛
فقال بعضهم بالذي قلنا في ذلك...
وقال آخرون: عُنِي بقوله: أغْنَى: أخدم... عن قتادة، في قوله:"أغْنَى وأقْنَى "قال: أغنى وأخدم.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك أنه أغنى من المال وأقنى: رَضَّى... عن ابن عباس، قوله: "وأنّهُ هُوَ أغْنَى وأقْنَى" قال: فإنه أغنى وأرضَى... يقول: أعطاه وأرضاه...
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك أنه أغنى من شاء من خلقه، وأفقر من شاء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أغنى وأقنى} أي وسّع عليهم {وأقنى} أي صيّرهم ممن يقتنون الخَدم وغيرها، فيكون الإغناء، هو التوسيع بأنواع الأموال، والإغناء هو إعطاء القِنية من الخادم وما يحتاج إليه للمهنة... وقيل: {أغنى} أي أعطى ما يُغنيه، ويستغني به {وأقنى} أي أقنعه، وأرضاه، وقيل على العكس: {أغنى} أي أرضى {وأقنى} أي أُخدم. وعن ابن عباس رضي الله عنه: {أغنى وأقنى} أي أكثر...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدها: أغنى بالكفاية وأقنى بالزيادة...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
معناه: أعطى وأوسع... أعطى القنية، والقنية: هي أصل مال يتخذ...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
وأقنى، يعني: أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وأقنى} وأعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أقنى}... والوجه فيها بحسب اللغة أكسب ما يقتني. وقال ابن عباس: {أقنى} قنع. والقناعة خير قنية، والغنى عرض زائل، فلله در ابن عباس.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأنه} ولما كان ربما نسب إلى السعي وغيره، أكد بالفعل فقال: {هو} أي وحده من غير نظر إلى سعي ساع ولا غيره {أغنى} ولما كان الغنى في الحقيقة إنما هو غنى النفس، وهو رضاها بما قسم لها وسكونها وطمأنينتها، وإنما سمي ذو المال غنياً لأن المال بحيث تطمئن معه النفس، فمن كان راضياً بكل ما قسم الله به فهو غني...
. {وأقنى} أي أمكن من المال وأرضى بجميع الأحوال...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} وأعطى القنية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ببقاء نفسه أو أصله كالرياض والحيوان والبناء، وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله تعالى: {أغنى} لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: أغنى العباد بتيسير أمر معاشهم من التجارات وأنواع المكاسب، من الحرف وغيرها، وأقنى أي: أفاد عباده من الأموال بجميع أنواعها، ما يصيرون به مقتنين لها، ومالكين لكثير من الأعيان، وهذا من نعمه على عباده أن جميع النعم منه تعالى وهذا يوجب للعباد أن يشكروه، ويعبدوه وحده لا شريك له
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي النشأة الأولى. وفي النشأة الأخرى. يغني الله من يشاء من عباده ويقنيه: (وأنه هو أغنى وأقنى).. أغنى من عباده من شاء في الدنيا بأنواع الغنى وهي شتى. غنى المال. وغنى الصحة. وغنى الذرية. وغنى النفس. وغنى الفكر. وغنى الصلة بالله والزاد الذي ليس مثله زاد. وأغنى من عباده من شاء في الآخرة من غنى الآخرة! وأقنى من شاء من عباده. من كل ما يقتنى في الدنيا كذلك وفي الآخرة! والخلق فقراء ممحلون. لا يغتنون ولا يقتنون إلا من خزائن الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإِتيان بضمير الفصل لِقصر صفة الإِغناء والإِقناء عليه تعالى دون غيره وهو قصر ادعائي لِمقابلة ذهول الناس عن شكر نعمة الله تعالى بإسنادهم الأرزاق لوسَائله العادية، مع عدم التنبه إلى أن الله أوجد مواد الإِرزاق وأسبابها وصرف موانعها...