وبعد أن وبخ - سبحانه - الذين يقولون مالا يفعلون ، أتبع ذلك ببيان من يحبهم الله - تعالى - فقال : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } .
ومبحة الله - تعالى - لشخص ، معناها : رضاه عنه ، وإكرامه له .
والصف يطلق على الأشياء التى تكون منتظمة فى مظهرها ، متناسقة فى أماكنها ، والمرصوص : هو المتلاصق الذى انضم بعضه إلى بعض . يقال : رصصت البناء ، إذا ألزقت بعضه ببعض حتى صار كالقطعة الواحدة .
والمعنى : أن الله - تعالى - يحب الذين يقاتلون فى سبيل إعلاء دينه قتالا شديدا ، حتى لكأنهم فى ثباتهم ، واجتماع كلمتهم ، وصدق يقينهم . . . بنيان قد التصق بعضه ببعض ، فلا يستطيع أحد أن ينفذ من بين صفوفه .
فالمقصود بالآية الكريمة : الثناء على المجاهدين الصادقين ، الذين يثبتون أمام الأعداء وهم يقاتلونهم ، ثباتا لا اضطراب معه ولا تزلزل .
قال الإمام الرازى : أخبر الله - تعالى - أنه يحب من يثبت فى الجهاد ، ويلزم مكانه ، كثبوت البناء المرصوص .
ويجوز أن يكون على أن يستوى أمرهم فى حرب عدوهم ، حتى يكونوا فى اجتماع الكلمة ، وموالاة بعضهم بعضا ، كالبنيان المرصوص .
والآية الثالثة تشير إلى الموضوع المباشر الذي قالوا فيه ما لم يفعلوا . . وهو الجهاد . . وتقرر ما يحبه الله فيه ويرضاه :
( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) . .
فليس هو مجرد القتال . ولكنه هو القتال في سبيله . والقتال في تضامن مع الجماعة المسلمة داخل الصف . والقتال في ثبات وصمود ( صفا كأنهم بنيان مرصوص ) . .
إن القرآن - كما قلنا في مناسبات متعددة في هذا الجزء - كان يبني أمة . كان يبنيها لتقوم على أمانة دينه في الأرض ، ومنهجه في الحياة ، ونظامه في الناس . ولم يكن بد أن يبني نفوسها أفرادا ويبنيها جماعة ، ويبنيها عملا واقعا . . كلها في آن واحد . . فالمسلم لا يبنى فردا إلا في جماعة . ولا يتصور الإسلام قائما إلا في محيط جماعة منظمة ذات ارتباط ، وذات نظام ، وذات هدف جماعي منوط في الوقت ذاته بكل فرد فيها . هو إقامة هذا المنهج الإلهي في الضمير وفي العمل مع إقامته في الأرض . وهو لا يقوم في الأرض إلا في مجتمع يعيش ويتحرك ويعمل وينتج في حدود ذلك المنهج الإلهي .
والإسلام على شدة ما عني بالضمير الفردي وبالتبعة الفردية - ليس دين أفراد منعزلين ، كل واحد منهم يعبد الله في صومعة . . إن هذا لا يحقق الإسلام في ضمير الفرد ذاته ، ولا يحققه بطبيعة الحال في حياته . ولم يجئ الإسلام لينعزل هذه العزلة . إنما جاء ليحكم حياة البشرية ويصرفها . ويهيمن على كل نشاط فردي وجماعي في كل اتجاه . والبشرية لا تعيش أفرادا إنما تعيش جماعات وأمما . والإسلام جاء ليحكمها وهي كذلك . وهو مبني على أساس أن البشر يعيشون هكذا . ومن ثم فإن آدابه وقواعده ونظمه كلها مصوغة على هذا الأساس . وحين يوجه اهتمامه إلى ضمير الفرد فهو يصوغ هذا الضمير على أساس أنه يعيش في جماعة . وهو والجماعة التي يعيشون فيها يتجهون إلى الله ، ويقوم - فيها - على أمانة دينه في الأرض ، ومنهجه في الحياة ، ونظامه في الناس .
ومنذ اليوم الأول للدعوة قام مجتمع إسلامي - أو جماعة مسلمة - ذات قيادة مطاعة هي قيادة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وذات التزامات جماعية بين أفرادها ، وذات كيان يميزها عن سائر الجماعات حولها ، وذات آداب تتعلق بضمير الإنسان مراعى فيها - في الوقت ذاته - حياة هذه الجماعة . . وذلك كله قبل أن تقوم الدولة المسلمة في المدينة . بل إن قيام تلك الجماعة كان هو وسيلة إقامة الدولة في المدينة . .
فهذا إخبار منه تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى ، يقاتلون في سبيل الله مَن كفر بالله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا هُشَيْم ، قال مُجالد أخبرنا عن أبي الودَّاك ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث يضحك الله إليهم : الرجل يقوم من الليل ، والقوم إذا صفوا للصلاة ، والقوم إذا صفوا للقتال " .
ورواه ابن ماجة من حديث مجالد ، عن أبي الوَدَّاك جبر بن نوف ، به{[28775]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا الأسود - يعني ابن شيبان - حدثني يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال : قال مُطرف : كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه ، فلقيته فقلت : يا أبا ذر ، كان يبلغني عنك حديث ، فكنت أشتهي لقاءك ، فقال : لله أبوك ! فقد لقيت ، فهات . فقلت : كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة ؟ قال : أجل ، فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم . قلت : فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله ؟ قال : رجل غزا في سبيل الله ، خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل ، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل ، ثم قرأ { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } وذكر الحديث .
هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق ، وبهذا اللفظ ، واختصره ، وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة ، عن منصور بن المعتمر ، عن رِبْعي بن حِرَاش ، عن زيد بن ظَبْيان ، عن أبي ذَرّ بأبسط من هذا السياق وأتم{[28776]} وقد أوردناه في موضع آخر ، ولله الحمد .
وعن كعب الأحبار أنه قال : يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : " عبدي المتوكل المختار ليس بفَظّ ولا غَليظ ولا صَخَّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة ، وهجرته بطابة ، وملكه بالشام ، وأمته الحمادون يحمَدُون الله على كلّ حال ، وفي كل منزلة ، لهم دَوِيٌّ كدوي النحل في جو السماء بالسحَر ، يُوَضّون أطرافهم ، ويأتزرون على أنصافهم ، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة ، " ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } رعاة الشمس ، يصلون الصلاة حيث أدركتهم ، ولو على ظهر دابة " رواه بن أبي حاتم .
وقال سعيد بن جبير في قوله :{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم ، وهذا تعليم من الله للمؤمنين . قال : وقوله : { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } ملتصق بعضه في بعض ، من الصف في القتال . وقال مقاتل بن حيان : ملتصق بعضه إلى بعض . وقال ابن عباس : { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } مُثَبّت ، لا يزول ، ملصق بعضه ببعض . وقال قتادة : { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } ألم تر إلى صاحب البنيان ، كيف لا يحب أن يختلف بنيانه ؟ فكذلك الله عز وجل [ يحب أن ]{[28777]} لا يختلف أمره ، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم ، فعليكم بأمر الله ، فإنه عصمة لمن أخذ به . أورد ذلك كله ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثني سعيد بن عَمرو السكوني ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن يحيى بن جابر الطائي ، عن أبي بحرية{[28778]} قال : كانوا يكرهون القتال على الخيل ، ويستحبون القتال على الأرض ، لقول الله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } قال : وكان أبو بحرية{[28779]} يقول : إذا رأيتموني التفتُّ في الصف فَجَثُوا في لَحيي{[28780]} .
ثم وكد تعالى الإخبار بمحبته للمقاتلين { صفاً } ، ومحبة الله تعالى هي ما يظهر عليهم من نصره وكرامته وهي صفة فعل وليست بمعنى الإرادة ، لأن الإرادة لا يصح أن يقع ما يخالفها ، ونحن نجد المقاتلين على غير هذه الصفة كثيراً ، وقال بعض الناس : قتال الرجالة{[11069]} أفضل من قتال الفرسان لأن التراص فيه يتمكن ، وهذا ضعيف خفي على قائله مقصد الآية ، وليس المراد نفي التصاف وإنما المقصد الجد في كل أوطان القتال وأحواله ، وقصد بالذكر أشد الأحوال وهي الحالة التي تحوج إلى القتال { صفاً } متراصاً ، ونابت هذه الحال المذكورة مناب جميع الأحوال ، وقضت الآية بأن الذين يبلغ جدهم إلى هذه الحال حريون بأن لا يقصروا عن حال ، و { المرصوص } المصفوف المتضام ، وقال أبو بحرية{[11070]} رحمه الله : إذا رأيتموني ألتفت في الصف فجبوا فؤادي ومنه قول الشاعر [ ابن أبي العنبس الثقفي ] : [ مجزوء الكامل ]
وبالشعب بين صفائح . . . صم ترصص بالجنوب{[11071]}
وقال منذر بن سعيد والبراء وغيره : { المرصوص } المعقود بالرصاص ، وهذا يحتمل أن يكون أصل اللفظة .