نفى - سبحانه - المساواة بين هؤلاء الذين يخشون ربهم ، وبين غيرهم ممن قست قلوبهم ، وانحرفت نفوسهم عن الحق ، فقال - تعالى - : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } : والاستفهام : للنفى والإِنكار ، و " من " اسم موصول مبتدأ ، والخبر محذوف . أى : أفمن كان يوم القيامة مصيره إلى النار التى يتقيها ويحاول درأها عن نفسه بوجهه الذى هو أشرف أعضائه ، كمن يأتى يوم القيامة آمنا مطمئنا بعيدا عن النار وسعيرها ؟
وفى الآية الكريمة ما فيها من تهويل عذاب يوم القيامة ، إذ جرت عادة الإِنسان أن يتقى الآلام بيديه وجوارحه ، فإذا ما اتقاها بوجهه الذى هو أشرف أعضائه ، كان ذلك دليلا على أن ما نزل به فى نهاية الفظاعة والشدة .
وفى قوله - تعالى - : { سواء العذاب } مبالغة أخرى ، إذ نفس العذاب سوء ، فإذا ما وصف بعد ذلك بالسوء ، كان أشد فى الفظاعة والإِهانة والألم .
وجملة : { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ . . . } عطف على من " يتقى . . . " أى : هذا هو مصير الظالمين ، إنهم يتقون النار بوجوههم التى هى أشرف أعضائهم ، وهذا الاتقاء لن يفيدهم شيئا ، بل ستغشاهم النار بلهبها ، ويقال لهم : ذوقوا العذاب الأليم بسبب ما كنتم تكسبون فى الدنيا من أقوال باطلة ، وأفعال قبيحة .
ثم يعرض ما ينتظر أهل الضلال يوم القيامة في مشهد بائس في موعد حصاد الأعمال !
( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ? وقيل للظالمين : ذوقوا ما كنتم تكسبون ) . .
والإنسان يقي وجهه عادة بيديه وجسمه . فأما هنا فهو لا يملك أن يدفع عن نفسه النار بيديه ولا برجليه ، فيدفعها بوجهه ، ويتقي به سوء العذاب . مما يدل على الهول والشدة والاضطراب . وفي زحمة هذا العذاب يتلقى التأنيب ، وتدفع إليه حصيلة حياته ويا لها من حصيلة : ( وقيل للظالمين : ذوقوا ما كنتم تكسبون ) !
يقول تعالى : { أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، ويُقرعُ فيقال له ولأمثاله من الظالمين : { ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } ، كمن يأتي آمنا يوم القيامة ؟ ! كما قال تعالى : { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الملك : 22 ] ، وقال : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } [ القمر : 48 ] ، وقال تعالى { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ فصلت : 40 ] ، واكتفى في هذه الآية بأحد القسمين عن الآخر ، كقول الشاعر .
فَمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا *** أريدُ الخيرَ : أيّهما يَليني ؟
{ أفمن يتقي بوجهه } يجعله درقة يقي به نفسه لأنه يكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه { سوء العذاب يوم القيامة } كمن هو آمن منه ، فحذف الخبر كما حذف في نظائره . { وقيل للظالمين } أي لهم فوضع الظاهر موضعه تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بالموجب لما يقال لهم وهو : { ذوقوا ما كنتم تكسبون } أي وباله ، والواو للحال وقد مقدرة .
هذا تقرير بمعنى التعجيب ، والمعنى : { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } المنعمين في الجنة .
واختلف المتأولون في قوله : { يتقي بوجهه } فقال مجاهد : يخر على وجهه في النار . وقالت فرقة : ذلك لما روي أن الكافر يلقى في النار مكتوفاً مربوطة يداه إلى رجليه مع عنقه ويكب على وجهه ، فليس له شيء يتقي به إلا الوجه . وقالت فرقة : المعنى صفة كثرة ما ينالهم من العذاب ، وذلك أنه يتقيه بجميع جوارحه ولا يزال العذاب يتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه وفي حواسه ، فإذ بلغ به العذاب إلى هذه الغاية ظهر أنه لا متجاوز بعدها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى عندي أبين بلاغة ، وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر : [ الكامل ]
يلقى السيوف بوجهه وبنحره*** ويقيم هامته مقام المغفر
لأنه إنما أراد عظيم جرأته عليها فهو يلقاها بكل محن وبكل شيء منه حتى بوجهه وبنحره .
وقوله تعالى : { ذوقوا } عبارة عن باشروا ، وهنا محذوف تقديره : جزاء { ما كنتم تكسبون } ، ثم مثل لقريش بالأمم السالفة .
{ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة } .
الجملة اعتراض بين الثناء على القرآن فيما مضى وقوله الآتي : { ولقدَ ضَربْنَا للنَّاسِ في هذا القُرءَانِ من كُل مَثَلٍ } [ الزمر : 27 ] .
وجعلها المفسرون تفريعاً على جملة { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هادٍ } [ الزمر : 23 ] بدلالة مجموع الجملتين على فريقين : فريق مهتد ، وفريق ضاللٍ ، ففرع على ذلك هذا الاستفهام المستعمل في معنى مجازي . وجعل المفسرون في الكلام حذفاً ، وتقدير المحذوف : كمن أمن العذاب أو كمن هو في النعيم . وجعلوا الاستفهام تقريرياً أو إنكارياً ، والمقصود : عدم التسوية بين من هو في العذاب وهو الضالّ ومن هو في النعيم وهو الذي هداه الله ، وحُذف حال الفريق الآخر لظهوره من المقابلة التي اقتضاها الاستفهام بناء على أن هذا التركيب نظير قوله : { أفمَنْ حقَّ عليهِ كلمةُ العذابِ } [ الزمر : 19 ] وقوله : { أفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلاَمِ } [ الزمر : 22 ] ، والقول فيه مثل القول في سابقه من الاستفهام وحذف الخبر ، وتقديره : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب ، لأن الله أضله كمن أمن من العذاب لأن الله هداه ، وهو كقوله تعالى : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله } [ محمد : 14 ] . والمعنى : أن الذين اهتدوا لا ينالهم العذاب .
ويجوز عندي أن يكون الكلام تفريعاً على جملة { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 23 ] تفريعاً لتعيين مَا صْدِق ( مَنْ ) في قوله : { ومن يُضْلِل الله فما له من هَادٍ } ويكون { من يتقي } خبراً لمبتدأ محذوف ، تقديره : أفهو من يتقي بوجهه سوء العذاب ، والاستفهام للتقرير .
والاتقاء : تكلف الوقاية وهي الصون والدفع ، وفعلها يتعدى إلى مفعولين ، يقال : وقى نفسه ضربَ السيف ، ويتعدّى بالباء إلى سبب الوقاية ، يقال : وقى بترسه ، وقال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولْته واتَّقتنا باليد
وإذا كان وجه الإنسان ليس من شأنه أن يُوقى به شيء من الجسد ، إذ الوجه أعزّ ما في الجسد وهو يُوقَى ولا يُتقى به فإن من جبلِّة الإِنسان إذا توقع ما يصيب جسده ستر وجهه خوفاً عليه ، فتعين أن يكون الاتقاء بالوجه مستعملاً كناية عن عدم الوقاية على طريقة التهكم أو التلميح ، فكأنه قيل : من يطلب وقاية وجهه فلا يجد ما يقيه به إلا وجهه ، وهذا من إثبات الشيء بما يشبه نفيه ، وقريب منه قوله تعالى : { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل } [ الكهف : 29 ] .
و { سُوءَ العَذَابِ } منصوب على المفعولية لفعل { يَتَّقِي } . وأصله مفعول ثان إذ أصله : وَقَى نفسه سوءَ العذاب ، فلما صيغ منه الافتعال صار الفعل متعدياً إلى مفعول واحد هو الذي كان مفعولاً ثانياً .
{ وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تكسبون }
يجوز أن يكون { وَقِيلَ } عطفاً على الصلة . والتقدير : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب ، وقيل لهم فإن ( مَن ) مراد بها جمْع ، والتعبير ب { الظالمين } إظهار في مقام الإِضمار للإِيماء إلى أن ما يلاقونه من العذاب مسبب على ظلمهم ، أي شركهم .
والمعنى : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب فلا يجد وقاية تنجيه من ذوق العذاب فيقال لهم : ذُوقوا العذاب .
ويجوز أن يكون المراد ب { الظالمين } جميع الذين أشركوا بالله من الأمم غير خاص بالمشركين المتحدث عنهم ، فيكون { الظالمين } إظهاراً على أصله لقصد التعميم ، فتكون الجملة في معنى التذييل ، أي ويقال لهؤلاء وأشباههم ، ويظهر بذلك وجه تعقيبه بقوله تعالى : { كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } [ الزمر : 25 ] .
وجاء فعل { وَقِيلَ } بصيغة المضيّ وهو واقع في المستقبل لأنه لتحقق وقوعه نزل منزلة فعل مضَى . ويجوز أن يكون جملة { وقِيلَ للظالمين } في موضع الحال بتقدير ( قد ) ولذلك لا يحتاج إلى تأويل صيغة المضيّ على معنى الأمر المحقق وقوعه .
والذوق : مستعار لإِحساس ظاهر الجسد لأن إحساس الذوق باللسان أشد من إحساس ظاهر الجلد فوجه الشبه قوة الجنس .
والمذوق : هو العذاب فهو جزاء مَا اكتسبوه في الدنيا من الشرك وشرائعه ، فجعل المذوق نفس ما كانوا يكسبون مبالغة مشيرة إلى أن الجزاء وفق أعمالهم وأن الله عادل في تعذيبهم .
وأوثر { تَكْسِبُونَ } على ( تعملون ) لأن خطابهم كان في حال اتقائهم سوءَ العذاب ولا يخلو حال المعذّب من التبرم الذي هو كالإِنكار على معذِّبه . فجيء بالصلة الدالة على أن ما ذاقوه جزاء ما اكتسبوه قطعاً لتبرمهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أفمن يتقي بوجهه سوء} يعني شدة {العذاب يوم القيامة} يقول: ليس الضال الذي يتقي النار بوجهه كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه، ليسا بسواء، يقول الكافر يتقي بوجهه شدة العذاب وهو في النار مغلولة يده إلى عنقه...
{وقيل} وقالت الخزنة {للظالمين ذوقوا} العذاب ب {ما كنتم تكسبون} آية من الكفر والتكذيب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في صفة اتقاء هذا الضالّ بوجهه سُوء العذاب؛
فقال بعضهم: هو أن يُرْمَى به في جهنم مكبوبا على وجهه، فذلك اتقاؤه إياه... وقال آخرون: هو أن ينطلق به إلى النار مكتوفا، ثم يرمَى به فيها، فأوّل ما تمسّ النار وجهه... وهذا أيضا مما ترك جوابه استغناء بدلالة ما ذكر من الكلام عليه عنه. ومعنى الكلام: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة خير، أم من ينعم في الجنان؟.
وقوله:"وَقِيلَ للظّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ" يقول: ويقال يومئذٍ للظالمين أنفسهم بإكسابهم إياها سخط الله، ذوقوا اليوم أيها القوم وَبالَ ما كنتم في الدنيا تكسبون من معاصي الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كأنه لم يذكر مقابل هذا في هذا الموضع، فجائز أن يكون مقابله ما تقدم، وهو قوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أفمن جعل له الغرف أعلى الغرف تجري من تحتها الأنهار كمن {يتقي بوجهه سوء العذاب} ليس هذا كذاك، ولا أحد يتقي بوجهه سوء العذاب، لكن يخرج ذلك على وجوه:...
أحدها: كناية عن الشفعاء وأهل النصر كأنه يقول: لا يكون له من يشفع، أو يملك دفع العذاب عنه.
والثاني: أن تكون أيديهم مغلولة إلى أعناقهم، فلا بد له يتّقي بها سوء العذاب عن وجهه؛ لأن في الشاهد من أصاب شيئا من العذاب يتقي ذلك العذاب عن وجهه بيده، فيخبر أن لا يد له في الآخرة يتقي العذاب بها عن وجهه، بل يصيب العذاب وجهه، فكأنه يتقي به.
والثالث: أن يكون ذكر الوجه كناية عن نفسه، وهو ما ذكرنا: ألا يكون له من يملك دفع العذاب عنه.
{وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} يحتمل قوله: {ذوقوا ما كنتم تكسبون} أي ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون، ويحتمل ذوقوا ما اخترتم من الكسب، وهذا بما اخترتم؛ لأنه قد بيّن لهم الكسبين جميعا، وما يكون لكل كسب في العاقبة، فاختاروا هم الكسب الذي كان عاقبته الذي أصابهم.
اعلم أنه تعالى حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وبحكم في الآخرة، أما حكمهم في الدنيا فهو الضلال التام كما قال: {ومن يضلل الله فما له من هاد} وأما حكمهم في الآخرة فهو العذاب الشديد وهو المراد من قوله: {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة} وتقريره أن أشرف الأعضاء هو الوجه؛ لأنه محل الحسن والصباحة، وهو أيضا صومعة الحواس، وإنما يتميز بعض الناس عن بعض بسبب الوجه، وأثر السعادة والشقاوة لا يظهر إلا في الوجه قال تعالى:
{وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة}، فثبت بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء هو الوجه، فإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه وفداء له، وإذا عرفت هذا فنقول: إذا كان القادر على الاتقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداء للوجه لا جرم حسن جعل الاتقاء بالوجه كناية عن العجز عن الاتقاء، فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء بوجه من الوجوه إلا بالوجه وهذا ليس باتقاء، فلا قدرة لهم على الاتقاء البتة.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ}: صيغةُ الماضِي للدِّلالةِ على التَّحقُّقِ والتَّقررِ، ووضع المُظهر في مقام المُضمرِ للتَّسجيلِ عليهم بالظُّلم والإشعار بعلَّةِ الأمرِ في قوله تعالى {ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي وبالَ ما كنتُم تكسبونَه في الدُّنيا على الدَّوامِ من الكفرِ والمعاصي.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الجملة اعتراض بين الثناء على القرآن فيما مضى وقوله الآتي: {ولقدَ ضَربْنَا للنَّاسِ في هذا القُرءَانِ من كُل مَثَلٍ} [الزمر: 27]
والمعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب فلا يجد وقاية تنجيه من ذوق العذاب فيقال لهم: ذُوقوا العذاب، والذوق: مستعار لإِحساس ظاهر الجسد؛ لأن إحساس الذوق باللسان أشد من إحساس ظاهر الجلد فوجه الشبه قوة الحس...
والمذوق: هو العذاب فهو جزاء مَا اكتسبوه في الدنيا من الشرك وشرائعه، فجعل المذوق نفس ما كانوا يكسبون مبالغة مشيرة إلى أن الجزاء وفق أعمالهم وأن الله عادل في تعذيبهم.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في الآيات تساؤل في معنى المقايسة بين الذي لا يجد ما يتقي به عذاب الله يوم القيامة إلا وجهه؛ لأنه لم يقدم عملا صالحا يتقي به، وبين من يقدم هذا العمل الذي يتقي به من النار، وحكاية تتضمن معنى الإنذار والتبكيت لما سوف يقال للظالمين الذين جنوا على نفوسهم بالكفر والانحراف عن طريق الحق والخير حينما يذوقون طعم ذلك العذاب حيث يقال لهم ذوقوا اليوم جزاء ما اجترحتم من الآثام وتذكير للكفار بالأمم السابقة التي كذبت رسلها مثلهم فحل فيها عذاب الله من حيث لا تشعر ولا تحسب وأذاقها الخزي في الحياة الدنيا.
مما يلفت النظر إليه، تكرر التساؤل في معرض المقايسة في آيات السورة مما يسوغ القول إنها في صدد حكاية مواقف جدل ومناظرة أو ما هو بسبيل ذلك، ولعلها في ذات الوقت ردود على بعض كفار، غلوا في الزهو والاعتداد بالنفس والمال والقوة، وفي الاستخفاف بالمؤمنين وضعفهم وفقرهم، فردت الآيات في معرض المناظرة والجدل، ردودا متتابعة استهدفت بيان الفضل الحقيقي والتفوق الحقيقي في تقوى الله والمصير السعيد الذي سيصير إليه المؤمنون، والعذاب الأكبر الذي سيكون من نصيب الكافرين.
الاستفهام في (أفمن) مثل سابقه في قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ..} [الزمر: 22] لذلك لا بدّ أن نقدر هنا المقابل، فالمعنى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: كمن لا يعذب، ويمكن أنْ نرقي المسألة فنقول: كمن يُنعّم؟ ولك أنت أن تحكم.
ومعنى {سُوۤءَ الْعَذَابِ} أي: العذاب الشديد السيئ، وتأمل {يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ الْعَذَابِ} معلوم أن الوجه أشرف أعضاء الإنسان، وبه تتميز سمات الخلق؛ لذلك يقول سبحانه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29].
ولولا سمات الوجوه لتساوت الأبدان وتشابهت بعضها ببعض، لذلك يهتم الإنسان بوجهه ويدافع عنه ويحميه أولاً، ومثّلنا لذلك برجل يسير في الطريق، فمرّت بجواره سيارة مثلاً نثرت عليه وعلى ملابسه الطين، بالله ما أول شيء يحرص على نظافته وإزالة الأذى عنه؟ إنه يمسح أول ما يمسح وجهه، ثم يلتفت إلى ملابسه، لأن الوجه هو أشرف الأعضاء وأشهرها وأكرمها، وهو المُحَافَظ عليه قبل كل الجوارح.
إذن: ما بالك بعذاب لا يجد الإنسان ما يتقيه به إلا وجهه؟ نعم يتقي العذاب بوجهه، لأن يديه مغلولة، وقدمه مُكبلة، فلا مهربَ له ولا خلاصَ، فلا يملك إلا أنْ يتقي العذاب ويدفعه عن نفسه بأعزّ ما يملك، وبأشرف أعضائه وهو الوجه.
{وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} قوله في العذاب (ذُوقُوا) تهكم بهم، واختار الذوق وهو جارحة من الجوارح التي تؤدي مهمة في جسم الإنسان مثل العين والأذن، إنما اختار الذوق خاصة، لأن الذوقَ هو الحاسة الملازمة للإنسان، وبه قوام الحياة، حيث بالتذوق ندخل الطعام والشراب، ونتمتع به ونجد له لذة تفوق الملاذّ الأخرى.
أما العين والأذن مثلاً، فقد ترَى أو تسمع ما لا يعجبك، أما في التذوق فإنك تختار ما يعجبك وتجد له لذة، وهنا يريد الحق سبحانه أن يعمم الذوق في الجسم كله، فجميع البدن يذوق العذاب.
وقلنا: إن اللسان هو جارحة التذوق بمراحله وما حوله يذوق ويُميِّز الطعوم، فإذا ما تجاوز الطعامُ هذه المنطقة فلا يشعر الإنسان له بأيِّ مذاق، ولذلك رأينا صناع الدواء يُغلفون الدواء المرّ بمادة مُستساغة مقبولة، تساعد على مرور الدواء من منطقة التذوق دون أنْ نشعر بمرارته.
وإذا نظرتَ إلى الجوارح كلها تجد أنها مُتعلقة بالغير، فأنا أسمع غيري وأرى غيري، وألمس غيري أو بعضي، أما الذوق فخاص بالإنسان نفسه، فلا يذوق إنسانٌ لآخر؛ لذلك اختار الله سبحانه هذه الجارحة في إظهار شدة العذاب وألمه {ذُوقُواْ} وفي موضع آخر (ذُقْ). لا رؤية ولا سماع ولا شم ولا لمس، إنما بالذوق الذي هو خاص بصاحبه، وكأن لكل واحد منهم مذاقاً يناسب عذابه.
وإذا كان للذوق منطقة خاصة هي اللسان بمراحله وما حوله، فالذوق هنا أراده الله عاماً وشاملاً، ليس في منطقة الذوق، ولكن الجسم كله يذوق العذاب، بدليل قوله سبحانه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ..} [النساء: 56] فالإذاقة هنا تعدَّت منطقة الذوق إلى الجسم كله.
وإذا ما نظرنا إلى قوله تعالى -بالاعتبار- في القرية التي كانت آمنة مطمئنة فكفرتْ بأنْعُم الله، قال الله فيها: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ..} [النحل: 112] فكأن الإذاقة تلبسهم وتحيط بهم من كل ناحية...
وقوله تعالى: {مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} مادة (كسب) في القرآن الكريم جاءت كما قلنا على صيغتين: كسب واكتسب، وقد بيَّن الحق سبحانه متعلق كل منهما في قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ..} [البقرة: 286] فكسب للخير واكتسب للشر؛ لأن كسب على وزن فعل، والخير يأتي من صاحبه طبيعياً لا تكلُّف فيه ولا افتعال، أما اكتسب فعلى وزن افتعل فيها افتعال، والافتعال لا يكون إلا في الشر، فالخير لا يحتاج منك إلى حيل وافتعال، بل يأتي طبيعياً على خلاف الشر.
وقد أوضحنا هذه المسألة بالرجل يجلس مع زوجته وبناته، وينظر إلى جمالهن نظراً طبيعياً لا يحتاط فيه لشيء ولا يخشى فيه شيئاً، أما إن أراد أن ينظر إلى امرأة جميلة في الشارع مثلاً، فإنه يتلصص لذلك ويحتال، هذا هو الافتعال.
لكن القرآن الكريم خالف هذه القاعدة في مواضع، منها هذه الآية {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ولم يقل تكتسبون، فاستخدم كسب في الشر، وفي موضع آخر أيضاً قال: {بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81].
فلماذا عَدَل القرآن عن اكتسب إلى كسب؟ قالوا: لأن الإنسان والعياذ بالله قد يتعوّد المعصية ويألف المخالفة حتى تصير له عادة يفعلها فِعْلاً طبيعياً ويأنس بها وكأنها طاعة، وهذا الذي نسميه (فاقد) ولأنه ألفها وتعوَّد عليها بل ويفرح بها عبَّر القرآنُ عنها بكسب التي هي للخير، ونقل الاكتساب إلى محل الكسب.
لذلك فرَّق القرآن بين مَنْ يفتعل المعصية ويقصدها ويسعى إليها، ومَنْ تقع عليه المعصية دون إعداد لها، واقرأ قول الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 17-18].
معنى (بِجَهَالَةٍ) أي: من غير قصد لها ولا ترتيب ولا بحث عنها، وإنْ حدث منهم السوء لا يفرحون به، بل يألمون ويندمون، أما النوع الآخر فيرتكب السيئات عن قصد ولا يبالي، وربما فرح بها وجاهر بها.