ثم توعدهم - سبحانه - بسوء المصير بسبب مخالفتهم لله ورسوله فقال :
{ أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا } .
وقوله : { يُحَادِدِ } من المحادة بمعنى المخالفة والجانبة والمعاداة ، مأخذوة من الحد بمعنى الجانب ، كأن كل واحد من المتخاصمين في جانب غير جانب صاحبه . ويقال : حاد فلان فلانا ، إذا صار في غير حده وجهته بأن خالفه وعاداه .
والاستفهام في الآية الكريمة للتوبيخ والتأنيب وإقامة الحجة .
والمعنى : ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين مردوا على الفسوق والعصيان أنه من يخالف تعاليم الله ورسوله ، فجزاؤه نار جهنم يصلاها يوم القيامة خالداً فيها ؟ ! إن كانوا لا يعلمون ذلك - على سبيل الفرض - فأعلمهم يا محمد بسوء مصيرهم إذا ما استمروا على نفاقهم ومعاداتهم لله ولرسوله .
قال الجمل ما ملخصه : " من " شرطية مبتدأ . وقوله : { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } في موضع المبتدأ المحذوف الخبر ، والتقدير . فحق أن له نار جهنم ، أى : فكون نار جهنم له أمر حق ثابت . وهذه الجملة جواب من اشلرطية ، والجملة الشرطية ، أى مجموع اسم الشرط وفعله والجزاء خبر أن الأولى ، وهى { أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ } وجملة أن الثانية واسمها وخبرها سدت مسد مفعولى يعلم إن لم يكن بمعنى العرفان ، ومسد مفعوله أى الواحد إن كان بمعنى العرفان .
واسم الإِشارة في قوله : { ذلك الخزي العظيم } يعود على ما ذكر من العذاب أى : ذلك الذي ذكرناه من خلودهم في النار يوم القيامة هو الذل العظيم ، الذي يتضاء أمامه كل خزى وذلك في الدنيا .
فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد ذكرتا جانباً من راذئل المنافقين وأكاذيبهم ، وتوعدتا كل مخالف لأوامر الله روسوله بسوء المصير .
( ألم يعلموا أنه من يحادد اللّه ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها ، ذلك الخزي العظيم ) سؤال للتأنيب والتوبيخ ، فإنهم ليدعون الإيمان ، ومن يؤمن يعلم أن حرب اللّه ورسوله كبرى الكبائر ، وأن جهنم في انتظار من يرتكبها من العباد ، وأن الخزي هو الجزاء المقابل للتمرد . فإذا كانوا قد آمنوا كما يدعون ، فكيف لا يعلمون ?
إنهم يخشون عباد اللّه فيحلفون لهم ليرضوهم ، ولينفوا ما بلغهم عنهم . فكيف لا يخشون خالق العباد ، وهم يؤذون رسوله ، ويحاربون دينه . فكأنما يحاربون اللّه ، تعالى اللّه أن يقصده أحد بحرب ! إنما هو تفظيع ما يرتكبون من إثم ، وتجسيم ما يقارفون من خطيئة ، وتخويف من يؤذون رسول اللّه ، ويكيدون لدينه في الخفاء .
وقوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا } {[13592]} أي : ألم يتحققوا ويعلموا أنه من حاد{[13593]} الله ، أي : شاقه وحاربه وخالفه ، وكان في حَدٍّ والله ورسوله في حدٍّ { فأن له نار جهنم خالدا فيها } أي : مهانًا معذبا ، { ذلك الخزي العظيم } أي : وهذا هو الذل العظيم ، والشقاء الكبير .
{ ألم يعلموا أنه } أن الشأن وقرئ بالتاء . { من يُحادد الله ورسوله } يشاقق مفاعلة من الحد . { فأنّ له نار جهنم خالدا فيها } على حذف الخبر أي فحق أن له أو على تكرير أن للتأكيد ويحتمل أن يكون معطوفا على أنه ويكون الجواب محذوفا تقديره من يحادد الله ورسوله يهلك ، وقرئ { فإن } بالكسر . { ذلك الخزي العظيم } يعني الهلاك الدائم .
وقوله { ألم يعلموا } الآية ، قولهم { ألم } تقرير ووعيد ، وفي مصحف أبي بن كعب «ألم تعلم » على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو وعيد لهم ، وقرأ الأعرج والحسن «ألم تعلموا » بالتاء ، و { يحادد } معناه يخالف ويشاق ، وهو أن يعطي هذا حده وهذا حده لهذا ، وقال الزجاج : هو أن يكون هذا في حد وهذا في حد ، وقوله { فإن } مذهب سيبويه أنها بدل من الأولى وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى ، والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد إذ لم يتم جواب الشرط ، وتلك الجملة هي الخبر ، وأيضاً فإن الفاء تمانع البدل ، وأيضاً فهي في معنى آخر غير الأول فيقلق البدل ، وإذا تلطف للبدل فهو بدل الاشتمال وقال غير سيبويه : هي مجردة لتأكيد الأولى وقالت فرقة من النحاة : هي في موضع خبر ابتداء تقديره فواجب أن له ، وقيل المعنى فله أن له ، وقالت فرقة : هي ابتداء والخبر مضمر تقديره فإن له نار جهنم واجب ، وهذا مردود لأن الابتداء ب «أن » لا يجوز مع إضمار الخبر ، قاله المبرد : وحكي عن أبي علي الفارسي قول يقرب معناه من معنى القول الثالث من هذه التي ذكرنا لا أقف الآن على لفظه ، وجميع القراء على فتح «أن » الثانية ، وحكى الطبري عن بعض نحويي البصرة أنه اختار في قراءتها كسر الألف ، ذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة ابن أبي عبلة ، ووجهه في العربية قوي لأن الفاء تقتضي القطع والاستئناف ولأنه يصلح في موضعها الاسم ويصلح الفعل وإذا كانت كذلك وجب كسرها{[5764]} .
هذه الجملة تتنزل من جملة { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] منزلة التعليل ، لأنّ العاقل لا يرضى لنفسه عملاً يَؤول به إلى مثل هذا العذاب ، فلا يُقدم على ذلك إلاّ مَن لاَ يعلم أنّ من يحادد الله ورسوله يصير إلى هذا المصير السيىءّ .
والاستفهام مستعمل في الإنكار والتشنيع ، لأنّ عدم علمهم بذلك محقّق بِضرورة أنّهم كافرون بالرسول ، وبأنّ رضى الله عند رضاه ولكن لمّا كان عدم علمهم بذلك غريباً لوجود الدلائل المقتضية أنّه ممّا يحقّ أن يعلموه ، كان حال عدم العلم به حالاً منكراً . وقد كثر استعمال هذا ونحوه في الإعلام بأمر مهمّ ، كقوله في هذه السورة : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } [ التوبة : 104 ] وقوله : { ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم } [ التوبة : 78 ] وقول مَوْيَال بن جهم المذحجي ، أو مبشر بن هذيل الفزاري :
ألَمْ تعلَمي يا عَمْرَكِ اللَّهَ أنّني *** كريمٌ على حينَ الكرامُ قليل
فكأنّه قيل : فلْيعلموا أنّه من يُحادد الله الخ .
والضمير المنصوب ب { أنّه } ضمير الشأن ، وفسّر الضمير بجملة { من يحادد الله } إلى آخرها .
والمعنى : ألم يعلموا شأناً عظيماً هو من يحادد الله ورسوله له نار جهنّم .
وفكّ الدَّالان من { يحادد } ولم يُدغما لأنّه وقع مجزوماً فجاز فيه الفَكّ والإدغام ، والفكّ أشهر وأكثر في القرآن ، وهو لغة أهل الحجاز ، وقد ورد فيه الإدغام نحو قوله : { ومن يشاق الله } في سورة الحشر ( 4 ) في قراءة جميع العشرة وهو لغة تميم .
والمحادَّة : المُعاداة والمخالفة .
والفاء في { فأن له نار جهنم } لربط جواب شرط { مَن } .
وأعيدت { أنَّ } في الجواب لتوكيد { أنَّ } المذكورة قبلَ الشرط توكيداً لفظياً ، فإنّها لما دخلت على ضمير الشأن وكانت جملة الشرط وجوابه تفسيراً لضمير الشأن ، كان حكم { أنَّ } سارياً في الجملتين بحيث لو لم تذكر في الجواب لعُلِم أنّ فيه معناها ، فلمّا ذكرت كان ذكرها توكيداً لها ، ولا ضيرَ في الفصل بين التأكيد والمؤكَّد بجملة الشرط ، والفصل بين فاء الجواب ومدخولها بحرفٍ ، إذ لا مانع من ذلك ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : { ثم إن ربك للذين عملوا السوءَ بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } [ النحل : 119 ] وقول الحماسي ، وهو أحد الأعراب :
وإنَّ امرءاً دامت مواثيق عهده *** على مثل هذا إنَّه لكريم
و { جهنّم } تقدّم ذكرها عند قوله تعالى : { فحسبه جهنم وبئس المهاد } في سورة البقرة ( 206 ) .
والإشارة بذلك إلى المذكور من العذاب أو إلى ضمير الشأن باعتبار تفسيره . والمقصود من الإشارة : تمييزه ليتقرّر معناه في ذهن السامع .
و{ الخزي } الذلّ والهوان ، وتقدّم عند قوله تعالى : { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا } في سورة البقرة ( 85 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم يعلموا} يعني المنافقين، {أنه من يحادد الله ورسوله} يعني يعادي الله ورسوله، {فأن له نار جهنم خالدا فيها} لا يموت، {ذلك} العذاب {الخزي العظيم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يحلفون بالله كذبا للمؤمنين ليرضوهم وهم مقيمون على النفاق، أنه من يحارب الله ورسوله ويخالفهما فيناوئهما بالخلاف عليهما، "فأنّ لَهُ نارَ جَهَنّمَ "في الآخرة، "خالِدا فِيها" يقول: لابثا فيها، مقيما إلى غير نهاية. "ذلكَ الخِزْيُ العَظِيمُ" يقول: فلبثه في نار جهنم وخلوده فيها هو الهوان والذلّ العظيم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِد اللَّهَ وَرَسُولَهُ) في الآية دلالة أنهم علموا أنهم معاندون في صنيعهم، وعلموا أن من عاند وكابر بغير حق (فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ). وقوله تعالى: (يُحَادِد اللَّهَ) يحتمل: يعاند الله، وقيل يشاقق الله، ويخالف الله، وهو واحد. وقوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) يخرج على وجهين: أحدهما: أي قد علموا (أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ) ما ذكر، لكنهم عاندوا بالخلاف والمحادة مع علمهم. والثاني: أي علموا (أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ) ما ذكرنا، أن حرف الاستفهام من الله يخرج على الإيجاب والإلزام. وقوله تعالى: (ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) يحتمل وجهين: يحتمل الخزي الفضيحة العظمى في الدنيا، ويحتمل (ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) في الآخرة نار جهنم خزي عظيم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يقول الله تعالى على وجه التهديد والتقريع والتوبيخ لهؤلاء المنافقين "ألم يعلموا "أي: أوَمَا علموا "أنه من يحادد الله" أي يتجاوز حدود الله التي أمر المكلفين أن لا يتجاوزوها، فالمحادة مجاوزة الحد بالمشاقة، ومثله المباعدة. والمعنى مصيرهم في حد غير حد أولياء الله. فالمخالفة والمحادة والمجانبة والمعاداة نظائر في اللغة. وإنما قال: لمن لا يعلم "ألم يعلموا" لأحد أمرين: أحدهما -على وجه الاستبطاء لهم والتخلف عن علمه. والآخر- أنه يجب أن تعلموا الآن هذه الأخبار...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
في مصحف أبي بن كعب «ألم تعلم» على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وعيد لهم، وقرأ الأعرج والحسن «ألم تعلموا» بالتاء، و {يحادد} معناه يخالف ويشاق، وهو أن يعطي هذا حده وهذا حده لهذا، وقال الزجاج: هو أن يكون هذا في حد وهذا في حد...
اعلم أن المقصود من هذه الآية أيضا، شرح أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك...
قال أهل المعاني: قوله: {ألم يعلموا} خطاب لمن حاول الإنسان تعليمه مدة وبالغ في ذلك التعليم ثم إنه لم يعلم فيقال له: ألم تعلم بعد هذه الساعات الطويلة والمدة المديدة، وإنما حسن ذلك لأنه طال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، وكثرت نهاياته للتحذير عن معصية الله والترغيب في طاعته، فالضمير في قوله: {أنه من يحادد الله} ضمير الأمر والشأن، والمعنى: أن الأمر والشأن كذا وكذا. والفائدة في هذا الضمير هو أنه لو ذكر بعد كلمة {أن} ذلك المبتدأ والخبر لم يكن له كثير وقع، فأما إذا قلت الأمر والشأن كذا وكذا أوجب مزيد تعظيم وتهويل لذلك الكلام.
وقوله: {من يحادد الله} قال الليث: حاددته أي خالفته، والمحاددة كالمجانبة والمعاداة والمخالفة، واشتقاقه من الحد، ومعنى حاد فلان فلانا، أي صار في حد غير حده، كقوله: شاقه أي صار في شق غير شقه، ومعنى {يحادد الله} أي يصير في حد غير حد أولياء الله بالمخالفة. وقال أبو مسلم: المحادة مأخوذة من الحديد حديد السلاح، ثم للمفسرين ههنا عبارات: يخالف الله، وقيل: يحارب الله، وقيل: يعاند الله. وقيل: يعاد الله.
ثم قال: {فأن له نار جهنم} وفيه وجوه: الأول: التقدير: فحق أن له نار جهنم. الثاني: معناه فله نار جهنم، وإن تكرر للتوكيد. الثالث: أن نقول جواب {من} محذوف، والتقدير: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم... قال أبو مسلم جهنم من أسماء النار، وأهل اللغة يحكون عن العرب أن البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام عندهم، فجاز في جهنم أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ، ومعنى بعد قعرها: أنه لا آخر لعذابها، والخالد: الدائم، والخزي قد يكون بمعنى الندم وبمعنى الاستحياء، والندم هنا أولى. لقوله تعالى: {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين أن حلفهم هذا إنما هو لكراهة الخزي عند المؤمنين وبين من هو الأحق بأن يرضوه، أقام الدليل على ذلك في استفهام إنكار وتوبيخ مبيناً أنهم فرّوا من خزي منقض فسقطوا في خزي دائم، والخزي: استحياء في هوان، فقال: {ألم يعلموا} أي لدلالتهم على الأحق بالإرضاء. ولما كان ذكر الشيء مبهماً ثم مفسراً أضخم، أضمر للشأن فقال: {أنه} أي الشأن العظيم {من يحادد الله} وهو الملك الأعظم، ويظهر المحاددة -بما أشار إليه الفك {ورسوله} أي الذي عظمته من عظمته، بأن يفعل معهما فعل من يخاصم في حد أرض فيريد أن يغلب على حد خصمه، ويلزمه أن يكون في حد غير حده {فأن له نار جهنم} أي فكونها له جزاء له على ذلك حق لا ريب فيه {خالداً فيها} أي دائماً من غير انقضاء كما كانت نيته المحادة أبداً؛ ثم نبه على عظمة هذا الجزاء بقوله: {ذلك} أي الأمر البعيد الوصف العظيم الشأن {الخزي العظيم}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها} الاستفهام هنا للتوبيخ وإقامة الحجة، والمحادة مفاعلة من الحد وهو طرف الشيء، كالمشاقة من الشق وهو بالكسر الجانب ونصف الشيء المنشق منه، وكلاهما بمعنى المعاداة من العدوة وهي بالضم جانب الوادي، لأن العدو يكون في غاية البعد عمن يعاديه عداء البغض والشنآن، بحيث لا يتزاوران ولا يتعاونان، فشبه بمن يكون كل منهما في حد وشق وعدوة، كما يقال هما على طرفي نقيض، وكذلك المنافقون يكونون في الحد والجانب المقابل للجانب الذي يحبه الله لعباده والرسول لأمته من الحق والخير والعمل الصالح ولا سيما الجهاد بالمال والنفس للدفاع عن الملة والأمة وإعلاء شأنهما...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ألم يعلموا أنه من يحادد اللّه ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها، ذلك الخزي العظيم) سؤال للتأنيب والتوبيخ، فإنهم ليدعون الإيمان، ومن يؤمن يعلم أن حرب اللّه ورسوله كبرى الكبائر، وأن جهنم في انتظار من يرتكبها من العباد، وأن الخزي هو الجزاء المقابل للتمرد. فإذا كانوا قد آمنوا كما يدعون، فكيف لا يعلمون؟ إنهم يخشون عباد اللّه فيحلفون لهم ليرضوهم، ولينفوا ما بلغهم عنهم. فكيف لا يخشون خالق العباد، وهم يؤذون رسوله، ويحاربون دينه. فكأنما يحاربون اللّه، تعالى اللّه أن يقصده أحد بحرب! إنما هو تفظيع ما يرتكبون من إثم، وتجسيم ما يقارفون من خطيئة، وتخويف من يؤذون رسول اللّه، ويكيدون لدينه في الخفاء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة تتنزل من جملة {والله ورسوله أحق أن يرضوه} منزلة التعليل، لأنّ العاقل لا يرضى لنفسه عملاً يَؤول به إلى مثل هذا العذاب، فلا يُقدم على ذلك إلاّ مَن لاَ يعلم أنّ من يحادد الله ورسوله يصير إلى هذا المصير السيئ. والاستفهام مستعمل في الإنكار والتشنيع، لأنّ عدم علمهم بذلك محقّق بِضرورة أنّهم كافرون بالرسول، وبأنّ رضى الله عند رضاه ولكن لمّا كان عدم علمهم بذلك غريباً لوجود الدلائل المقتضية أنّه ممّا يحقّ أن يعلموه، كان حال عدم العلم به حالاً منكراً. وقد كثر استعمال هذا ونحوه في الإعلام بأمر مهمّ، كقوله في هذه السورة: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} [التوبة: 104] وقوله: {ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم} [التوبة: 78]... فكأنّه قيل: فلْيعلموا أنّه من يُحادد الله...
والضمير المنصوب ب {أنّه} ضمير الشأن، وفسّر الضمير بجملة {من يحادد الله} إلى آخرها. والمعنى: ألم يعلموا شأناً عظيماً هو من يحادد الله ورسوله له نار جهنّم... والمحادَّة: المُعاداة والمخالفة. والفاء في {فأن له نار جهنم} لربط جواب شرط {مَن}...
إذا سمعت {ألَمْ} فافهم أن هذا استنكار، كأن وسائل العلم قد تقدمت، وكان من الواجب أن تعلم. فإذا قلت لإنسان: ألم تعلم أنه حدث كذا وكذا؟ فمعنى ذلك أنه قد أعلن عن هذا الحادث عدة مرات، ومع ذلك لم يعلمه. وهذا استنكار لتخلف هذا للإنسان عن العلم. وهنا يستنكر الحق عدم علم المنافقين بقضية أعلنها الله مرات ومرات، وكان يجب أن يعلموها وألا تزول عن خواطرهم أبدا. وسبق أن قلنا: إن الاستفهام فيه نفي، والهمزة همزة استفهام. ولم تأت للنفي، وإذا دخلت همزة الاستفهام على النفي يكون استنكارا. فإذا قلت لإنسان: ألم أكرمك؟ كأنك أكرمته عدة مرات وهو منكر لذلك. وقول الحق سبحانه وتعالى {ألم يعلموا} هو إقامة للحجة على أن الحكم قد بلغهم، لأنه من الجائز أن يقولوا: إن الحكم لم يبلغنا، فيوضح لهم الحق: بل بلغكم الحكم وقد أعلمتكم به عدة مرات. {ألم يعلموا أنه من يحادد الله} ما معنى يحادد؟... والذين يحادون الله هم الذين يجعلون الله في جانب وهم في جانب، وبذلك لا يعيشون في معية الله ولا ينعمون بنعمة الإيمان به سبحانه ولا يطبقون منهجه، بل يجعلون حدا بينهم وبين ما أمر الله. وعندما أراد العلماء تفسير هذه الآية قالوا: {يحادد} تعني: يعادي، وقالوا: بمعنى يشاقق، أي: يجعل نفسه في شق والله ورسوله ودينه في شق آخر. أو: يحارب دين الله فيكون هو في وجهة ودين الله في وجهة أخرى، وهناك علاقة بين كلمة "بحرب "وكلمة "حد" فحد السيف هو الجزء القاطع منه الذي يفصل أي شيء إلى جزأين فكأن الذي يحادد هو من يحارب منهج الله ورسوله. فهو لا يكفر بالله فقط، ولكنه يحمل السلاح ليجعل خلق الله يكفرون أيضا. والحق سبحانه وتعالى يريد من المؤمنين أن يكونوا دائما في جانب الإيمان، وألا يقيموا حدا بينهم وبين الإيمان به. والأحكام الشرعية تسمى حدودا، أي: أن كل حكم قد وضع ليحدد حدا من حدود الله، تحفظ به الحقوق والأوامر. ومنهج الله إما أن يكون أوامر، وإما أن يكون نواهي، لأن منهج الدين كله في "افعل" و "لا تفعل" ويضع الحق سبحانه وتعالى عقابا لمن يتعدى حدوده سبحانه،... ينذر الحق سبحانه وتعالى الذين يحادون الله ورسوله فيقول: {ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم} والإنذار هنا يتمثل في أنه يوضح لهم أن ما ينتظرهم ليس هو العذاب الجسدي فقط، ولكنه عذاب فيه خزي وهوان، فمثلا بعض الناس قد يتحمل ويتجلد أمام الألم حتى لا يشمت فيه عدوه، لذلك فالعذاب الذي يعدهم الله به في الآخرة ليس أليما فقط، ولكن فيه خزي وهوان. ويتمثل الخزي في أن المتكبر في الدنيا يأتي إلى الآخرة ويهام أمام الخلق جميعا، ويكفي خزيا أن يكون في النار. والمؤمنون الذين تكبّر عليهم في الدنيا يعيشون في نعيم الجنة، وتلك حسرة تصيبه ليس بعدها حسرة...