البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّهُۥ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَأَنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدٗا فِيهَاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡخِزۡيُ ٱلۡعَظِيمُ} (63)

{ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم } أي ألم يعلم المنافقون ؟ وهو استفهام معناه التوبيخ والإنكار .

وقرأ الحسن والأعرج : بالتاء على الخطاب ، فالظاهر أنه التفات ، فهو خطاب للمنافقين .

قيل : ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين ، فيكون معنى الاستفهام التقرير .

وإن كان خطاباً للرسول فهو خطاب تعظيم ، والاستفهام فيه للتعجب ، والتقدير : ألا تعجب من جهلهم في محادّة الله تعالى : وفي مصحف أبيّ ألم يعلم .

قال ابن عطية : على خطاب النبي عليه السلام انتهى .

والأولى أن يكون خطاباً للسامع ، قال أهل المعاني : ألم تعلم ، الخطاب لمن حاول تعليم إنسان شيئاً مدة وبالغ في ذلك التعليم فلم يعلم فقال له : ألم تعلم بعد المباحث الظاهرة والمدة المديدة ، وحسن ذلك لأنه طال مكث النبي صلى الله عليه وسلم معه ، وكثر منه التحذير عن معصية الله والترغيب في طاعة الله .

قال بعضهم : المحادّة المخالفة ، حاددته خالفته ، واشتقاقه من الحد أي كان على حد غير حادة كقولك : شاقة ، كان في شق غير شقه .

وقال أبو مسلم : المحادة مأخوذة من الحديد ، حديد السلاح .

والمحادة هنا ، قال ابن عباس : المخالفة .

وقيل : المحاربة .

وقيل : المعاندة .

وقيل : المعادة .

وقيل : مجاوزة الحد في المخالفة .

وهذه أقوال متقاربة .

وقرأ الجمهور فإنّ له بالفتح ، والفاء جواب الشرط .

فتقتضي جملة وإنّ له مفرد في موضع رفع على الابتداء ، وخبره محذوف قدره الزمخشري : مقدماً نكرة أي : فحق أن يكون وقدره غيره : متأخراً أي فإن له نار جهنم واجب ، قاله : الأخفش ، ورد عليه بأن أنْ لا يبتدأ بها متقدمة على الخبر ، وهذا مذهب سيبويه والجمهور .

وأجاز الأخفش والفراء وأبو حاتم الابتداء بها متقدمة على الخبر ، فالأخفش خرج ذلك على أصله .

أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب أنّ له النار .

قال علي بن سليمان : وقال الجرمي والمبرد : إن الثانية مكررة للتوكيد ، كان التقدير : فله نار جهنم ، وكرر أنّ توكيداً .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون فإن له معطوفاً على أنه ، على أن جواب من محذوف تقديره : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فإن له نار جهنم انتهى ، فيكون فإنّ له نار جهنم في موضع نصب .

وهذا الذي قدره لا يصح ، لأنهم نصوا على أنه إذا حذف الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ ، أو مضارعاً مجزوماً بلم ، فمن كلامهم : أنت ظالم إن فعلت ، ولا يجوز أن تفعل ، وهنا حذف جواب الشرط ، وفعل الشرط ليس ماضي اللفظ ولا مضارعاً مقروناً بلم ، وذلك إنْ جاء في كلامهم فمخصوص بالضرورة .

وأيضاً فتجد الكلام تاماً دون تقدير هذا الجواب .

ونقلوا عن سيبويه أنّ أنّ بدل من أنه .

قال ابن عطية : وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى .

والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد أن لم يتم جواب الشرط ، وتلك الجملة هي الخبر .

وأيضاً فإنّ الفاء مانع البدل وأيضاً ، فهي معنى آخر غير الأول ، فيقلق البدل .

وإذا تلطف للبدل فهو بدل اشتمال انتهى .

وقال أبو البقاء : وهذا يعني البدل ضعيف لوجهين : أحدهما : أن الفاء التي معها تمنع من ذلك ، والحكم بزيادتها ضعيف .

والثاني : أن جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب الكلام انتهى .

وقيل : هو على إسقاط اللام أي : فلأن له نار جهنم ، فالفاء جواب الشرط ، ويحتاج إلى إضمار ما يتم به جواب الشرط جملة أي : فمحادته لأن له نار جهنم .

وقرأ ابن أبي عبلة : فإن له بالكسر في الهمزة حكاها عنه أبو عمرو الداني ، وهي قراءة محبوب عن الحسن ، ورواية أبي عبيدة عن أبي عمرو ، ووجهه في العربية قوي لأنّ الفاء تقتضي الاستئناف ، والكسر مختار لأنه لا يحتاج إلى إضمار ، بخلاف الفتح .

وقال الشاعر :

فمن يك سائلاً عني فإني *** وجروة لا ترود ولا تعار

وعلى هذا يجوز في أنّ بعد فاء الجزاء وجهان : الفتح ، والكسر .

ذلك لأن كينونة النار له خالداً فيها هو الهوان العظيم كما قال : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته }