اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّهُۥ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَأَنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدٗا فِيهَاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡخِزۡيُ ٱلۡعَظِيمُ} (63)

قوله : { أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ } الآية .

والمقصود من هذه الآية : شرح أحوال المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك .

قرأ الجمهور " يَعْلمُوا " بياء الغيبة ، رَدّاً على المنافقين ، وقرأ الحسنُ ، والأعرجُ{[17942]} " تَعْلَمُوا " بتاء الخطاب ، فقيل : هو التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ إن كان المرادُ المنافقين .

وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأتى بصيغةِ الجمع تعظيماً ؛ كقوله : [ الطويل ]

فإنْ شِئْتُ حرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ *** . . . {[17943]}

وقيل : الخطابُ للمؤمنين . وبهذه التقادير الثلاثة يختلف معنى الاستفهام ، فعلى الأول يكون الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، كقول الإنسان لمن حاول تعليمه مدة وبالغ في التعليم فلم يتعلم ، يقال له ألمْ تتعلَّم ؟ وإنما حسن ذلك ؛ لأنَّهُ طال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ، وكثر تحذيره من معصية الله ، والترغيب في طاعة الله .

وعلى الثاني يكون للتعجب من حالهم ، وعلى الثالث يكون للتقرير . والعلم هنا : يحتمل أن يكون على بابه ، فتسدَّ " أن " مسدَّ مفعولين عند سيبويه{[17944]} ، ومسدَّ أحدهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش .

وأن يكون بمعنى العرفان ، فتسدَّ " أنَّ " مسدَّ مفعوله . و " مَنْ " شرطيَّة ، و " فأنَّ لهُ نار " جوابها . وفتحت " أنَّ " بعد الفاءِ ، لما تقدَّم في الأنعام . والجملةُ الشرطيةُ في محلِّ رفعِ خبر " أنَّ " الأولى وهذا تخريجٌ واضحٌ . وقد عدل عن هذا التخريج جماعة إلى وجوهٍ أخر ، فقال الزمخشريُّ " ويجوزُ أن يكون " فأنَّ لَهُ " معطوفاً " أنَّه " على أنَّ جواب " مَنْ " محذوفٌ ، تقديره : ألم يعلموا أنَّه من يُحادد الله ورسوله يهلكْ ، فأنَّ لهُ نَار جَهَنَّمَ " وقال الجرمي والمبرد : " أنَّ " الثانية مكررةٌ للتَّوكيد ، كأن التقدير : فلهُ نارُ جهنم ، وكُرِّرت " أنَّ " توكيداً ، وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء } [ النحل : 119 ] ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } [ النحل : 119 ] ، قال : والفاءُ على هذا جوابُ الشرط . وردَّ أبو حيان على الزمخشري قوله : بأنَّهم نصُّوا على أنَّه إذا حذف جوابُ الشَّرطِ ، لزمَ أن يكون فعلُ الشرط ماضياً ، أو مضارعاً مقروناً ب " لَمْ " ، والجوابُ على قوله محذوفٌ وفعل الشَّرطِ مضارعٌ غير مقترنٍ ب " لَمْ " وأيضاً فإنَّا نجد الكلامَ تامّاً بدون هذا الذي قدَّره .

ونُقل عن سيبويه{[17945]} أنَّه قال : الثانيةُ بدلٌ من الأولى . وهذا لا يصحُّ عن سيبويه ، فإنَّه ضعيفٌ ، أو ممتنع ، وقد ضعفه أبو البقاءِ بوجهين :

أحدهما : أنَّ الفاء تمانعُ من ذلك والحكمُ بزيادتها ضعيفٌ .

والثاني : أنَّ جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب " مَنْ " من الكلام . وقال ابنُ عطية " وهذا يُعترضُ بأنَّ الشَّيء لا يبدل منه حتى يستوفى ، والأولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرها بعد ، إذ لم يأتِ جوابُ الشَّرط ، وتلك الجملةُ هي الخبرُ ، وأيضاً فإنَّ الفاء تُمانعُ البدل ، فهي معنى آخر غير البدل فيقلقُ البدل " . وقال بعضهم : فتحت على تقدير اللام ، أي : فلأنَّ لهُ نار جهنم . وهذه كلُّها تكلُّفاتٌ ، لا يحتاج إليها .

فالأولى ما تقدم ذكره ، وهو أن يكون " أنَّ لهُ نارَ جهنَّمَ " في محل رفع بالابتداء والخبر محذوفٌ ، وينبغي أن يقدِّرَهُ متقدماً عليها ، كما فعل الزمخشريُّ ، وغيرُه ، أي : فحقٌّ أنَّ لهُ نار جهنَّم . وقدَّرهُ غيره متأخراً ، أي : فحق أنَّ له نار جهنَّمَ واجبٌ ، كذا قدَّره الأخفش وردُّوه عليه بأنَّها لا يبتدأ بها .

وهذا لا يلزمه ، فإنَّه يجيز الابتداء ب " أنَّ " المفتوحةِ من غير تقديم خبره . وغيره لا يجيز الابتداء بها إلاَّ بشرطِ تقدُّم " أمَّا " ، نحو : أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي ، أو بشرط تقدُّم الخبر ، نحو : عندي أنَّك منطلق . وقيل : " فأنَّ لهُ " خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : فالواجبُ أنَّ لهُ ، وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاءِ في محلِّ جزم ، جواباً للشَّرط . وقرأ{[17946]} أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة ، والحسن ، وابن أبي عبلة : " فإنَّ " بالكسر وهي قراءةٌ حسنةٌ قوية ، تقدَّم أنَّهُ قرأ بها بعضُ السبعة في الأنعام ، وتقدَّم هناك توجيهها .

والمحادّة : المخالفةُ ، والمعاندةُ ، ومجاوزةُ الحدِّ ، والمعاداة . قيل : مشتقةٌ من الحد وهو حدُّ السِّلاح الذي يحاربُ به من الحديد . وقيل : من الحد الذي هو الجهةُ كأنه في حدِّ غير حدِّ صاحبه كقولهم : شاقَّه ، أي : كان في شقٍّ غير شقِّ صاحبه وعاداه ، أي : كان في عدوة غير عدوته . قال ابن عباس : معناه : يخالف الله{[17947]} وقيل : يحارب الله ، وقيل : يعاند الله ، وقيل : يعادي الله .

واختار بعضهم قراءة الكسر ، بأنَّها لا تحوج إلى إضمار ، ولم يُرْوَ قوله : [ الوافر ]

فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فإنِّي *** وجِرْوةَ لا تُعارُ ولا تُبَاعْ{[17948]}

إلاَّ بالكسرِ .

وهذا غيرُ لازمٍ ، فإنَّه جاء على أحد الجائزين ، و " خَالِداً " نصبٌ على الحال .

قال الزجاج : " ويجوز كسر " أنّ " على الاستئناف بعد الفاءِ " . وجهنم : من أسماء النار وحكى أهل اللغة عن العربِ : أنَّ البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام ، فيجوزُ أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ ، ومعنى بعد قعرها أنَّه لا آخر لعذابها ، وتقدم معنى الخلود ، والخزي : قد يكون بمعنى النَّدم ، وبمعنى الاستحياء ، والمراد به ههنا : النَّدم ، لقوله : { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } [ يونس : 54 ] .


[17942]:وفي مصحف أبي بن كعب "ألم تعلم" على خطاب النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو وعيد لهم.
[17943]:نظر: الكشاف 2/285، المحرر الوجيز 3/54، البحر المحيط 5/66، الدر المصون 3/479. تقدم.
[17944]:ينظر: الكتاب 1/64.
[17945]:ينظر: الكتاب 1/467.
[17946]:ينظر: المحرر الوجيز 3/54، البحر المحيط 5/66، الدر المصون 3/479.
[17947]:ذكره الرازي في "تفسيره" (16/96).
[17948]:نسب البيت لشداد العبسي والد لعنترة وقيل: لعمه ورواية العجز: وجروة لا ترود ولا تعار *** ... ينظر: ديوان عنترة ص309 والكتاب 1/302، والصاحبي في فقه اللغة ص216، والأغاني 13917، ولسان العرب (جرا)، وقد نسب أيضا لزيد الخيل 104 وينظر: الدر المصون 3/480، وشرح أبيات سيبويه 1/357. أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/408) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/455) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. ذكره البغوي في "تفسيره" (2/307).