المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (276)

276- إن الله يُذهب الزيادة المأخوذة من الربا ، ويبارك في المال الذي تؤخذ منه الصدقات ، ويثيب عليها أضعافاً مضاعفة . والله لا يحب الذين يصرون على تحليل المحرمات كالربا ، ولا الذين يستمرون على ارتكابها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (276)

ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المرابين ، وحسن عاقبة المتصدقين فقال : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } .

والمحق : النقصان والإِزالة للشيء حالا بعد حال ، ومنه محاق القمر ، أي انتقاصه في الرؤية شيئاً فشيئاً حتى لا يرى ، فكأنه زال وذهب ولم يبق منه شيء .

أي : أن المال الذي يدخله الربا يمحقه الله ، ويذهب بركته ، أما المال الذي يبذل منه صاحبه في سبيل الله فإنه - سبحانه - يباركه وينميه ويزيده لصاحبه .

قال الإِمام الرازي عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : اعلم أنه لما كان الداعي إلى التعامل بالربا تحصيل المزيد من الخيرات ، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان المال ، لما كان الأمر كذلك بين - سبحانه - أن الربا ، وإن كان زيادة في الحال إلا أنه نقصان في الحقيقة ، وأن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى ، واللائق بالعقال أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس والدواعي والصوارف ، بل يعول على ما أمر به الشرع .

ثم قال : واعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة . أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه :

أحدها : أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤول عاقبته إلى الفقر ، وتزول البركة عنه ، ففي الحديث : الربا وإن كثر فإلى قل .

وثانيها : إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم والنقص وسقوط العدالة وزوال الأمانة .

وثالثها : إن الفقراء يلعنونه ويبغضونه بسبب أخذه لأموالهم . . .

ورابعها : أن الأطماع تتوجه إليه من كل ظالم وطماع بسبب اشتهاره أنه قد جمع ماله من الربا ويقولون : إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده .

وأما أن الربا مسبب للمحق في الآخرة فلوجوه منها أن الله - تعالى - لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ولا صلة رحم - كما قال ابن عباس - ، ومنها أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت بل الباقي هو العقاب وذلك هو الخسران الأكبر .

وأما إرباء الصدقات في الدنيا فمن وجوه : منها : أن من كان لله كان الله له ، ومن أحسن إلى عباد الله أحسن الله إليه وزاده من فضله ، ومنها أن يزداد كل يوم في ذكره الجميل وميل القلوب إليه ، ومنها أن الفقراء يدعون له بالدعوات الصالحة وتنقطع عنه الأطماع .

وأما إرباؤها في الآخرة فقد روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله - تعالى - يقبل الصدقات ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره ، أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد " .

ففي هذه الجملة الكريمة بشارة عظيمة للمتصدقين ، وتهديد شديد للمرابين ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } .

و { كَفَّارٍ } فعيل بمعنى فاعل فهي صيغة مبالغة من آثم ، والأثيم هو المكثر من ارتكاب الآثام المبطئ عن فعل الخيرات .

أي : أن الله - تعالى - لا يرضى عن كل من كأن شأنه الستر لنعمه والجحود لها ، والتمادي في ارتكاب المنكرات ، والابتعاد عن فعل الخيرات .

وقد جمع - سبحانه - بين الوصفين للإِشارة إلى أن الإِيمان المرابين ناقص إن لم يستحلوه وهم كفار إن استحلوه ، وهم في الحالتين آثمون معاقبون ، يعيدون عن محبة الله ورضاه . وسيعاقب - سبحانه - الناقصين في إيمانهم ، والكافرين به بما يستحقون من عقوبات .

فالجملة الكريمة لمن استحلوا الربا ، أو فعلوه مع عدم استحلالهم له .

وبعد هذا التهديد الشديد للمتعاملين بالربا ، ساق - سبحانه - آية فيها أحسن البشارات للمؤمنين الصادقين فقال - تعالى - :

{ إِنَّ الذين آمَنُواْ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (276)

275

ولكن لعل كثيرين يغريهم طول الأمد ، وجهل الموعد ، فيبعدون من حسابهم حساب الآخرة هذا ! فها هو ذا القرآن ينذرهم كذلك بالمحق في الدنيا والآخرة جميعا ، ويقرر أن الصدقات - لا الربا - هي التي تربو وتزكو ؛ ثم يصم الذين لا يستجيبون بالكفر والإثم . ويلوح لهم بكره الله للكفرة الآثمين :

( يمحق الله الربا ، ويربي الصدقات ، والله لا يحب كل كفار أثيم ) . .

وصدق وعيد الله ووعده . فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة . . إن الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء . وقد ترى العين - في ظاهر الأمر - رخاء وإنتاجا وموارد موفورة ، ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد . وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التي ترين على قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد ؛ وإلى القلق النفسي الذي لا يدفعه الثراء بل يزيده . ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كله اليوم . حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة ؛ كما تصحو وتنام في هم الحرب الباردة ! وتثقل الحياة على أعصاب الناس يوما بعد يوم - سواء شعروا بهذا أم لم يشعروا - ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال !

وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون - الممثلين في الصدقات المفروض منها والمتروك للتطوع - وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة ، والتطلع دائما إلى فضل الله وثوابه ، والاطمئنان دائما إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها . . ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله - أفرادا وجماعات - في ما لهم ورزقهم ، وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم .

والذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية ، هم الذين لا يريدون أن يروا ، لأن لهم هوى في عدم الرؤية ! أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمدا وقصدا من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت ؛ فضغطوا عن رؤية الحقيقة !

( والله لا يحب كل كفار أثيم ) . .

وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي - بعد تحريمه - من الكفار الآثمين ، الذين لا يحبهم الله . وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم ، ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة : لا إله إلا الله . محمد رسول الله . فالإسلام ليس كلمة باللسان ؛ إنما هو نظام حياة ومنهج عمل ؛ وإنكار جزء منه كإنكار الكل . . وليس في حرمة الربا شبهة ؛ وليس في اعتباره حلالا وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم . . والعياذ بالله . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (276)

يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا ، أي : يذهبه ، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه ، أو يَحْرمَه بركة ماله فلا ينتفع به ، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة . كما قال تعالى : { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } [ المائدة : 100 ] ، وقال تعالى : { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّم } [ الأنفال : 37 ] ، وقال : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه } [ الآية ]{[4587]} [ الروم : 39 ] .

وقال ابن جرير : في قوله : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " الربا وإن كثر فإلى قُلّ " .

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده ، فقال : حدثنا حجاج [ قال ]{[4588]} حدثنا شريك عن الركين بن الربيع [ بن عميلة الفزاري ]{[4589]} عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل " {[4590]} وقد رواه ابن ماجة ، عن العباس بن جعفر ، عن عمرو بن عون ، عن يحيى بن أبي زائدة ، عن إسرائيل ، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة " {[4591]} .

وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا أبو{[4592]} سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا الهيثم بن رافع الطاطري ، حدثني أبو يحيى - رجل{[4593]} من أهل مكة - عن فروخ مولى عثمان : أن عمر - وهو يومئذ أمير المؤمنين - خرج إلى المسجد ، فرأى طعاما منثورًا . فقال : ما هذا الطعام ؟ فقالوا : طعام جلب إلينا . قال : بارك الله فيه وفيمن جلبه . قيل : يا أمير المؤمنين ، إنه قد احتكر . قال : ومن احتكره ؟ قالوا : فروخ مولى عثمان ، وفلان مولى عمر . فأرسل إليهما فدعاهما فقال : ما حملكما على احتكار طعام المسلمين ؟ قالا يا أمير المؤمنين ، نشتري بأموالنا ونبيع ! ! فقال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من احتكر على المسلمين{[4594]} طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام{[4595]} " . فقال فروخ عند ذلك : أعاهد الله وأعاهدك ألا أعود في طعام أبدًا . وأما مولى عمر فقال : إنما نشتري بأموالنا ونبيع . قال أبو يحيى : فلقد رأيت مولى عمر مجذومًا .

ورواه ابن ماجة من حديث الهيثم بن رافع ، به{[4596]} . ولفظه : " من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس " .

وقوله : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } قُرئ بضم الياء والتخفيف ، من " ربا الشيء يربو " و " أرباه يربيه " أي : كثّره ونماه ينميه . وقرئ : " ويُرَبِّي " بالضم والتشديد ، من التربية ، كما قال البخاري : حدثنا عبد الله بن منير ، سمع أبا النضر ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، وإن الله ليقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوَّه ، حتى يكون مثل الجبل " .

كذا رواه في كتاب الزكاة . وقال في كتاب التوحيد : وقال خالد بن مخلد ، عن سليمان بن بلال ، عن عبد الله بن دينار ، فذكر بإسناده ، نحوه{[4597]} .

وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم ، عن خالد بن مخلد ، فذكره{[4598]} . قال البخاري : ورواه مسلم بن أبي مريم ، وزيد بن أسلم ، وسهيل ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قلت : أما رواية مسلم بن أبي مريم : فقد تفرد البخاري بذكرها ، وأما طريق زيد بن أسلم : فرواها مسلم في صحيحه ، عن أبي الطاهر بن السرح ، عن ابن وهب ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، به{[4599]} . وأما حديث سهيل فرواه مسلم ، عن قتيبة ، عن يعقوب بن عبد الرحمن ، عن سهيل ، به{[4600]} . والله أعلم .

قال البخاري : وقال ورقاء عن ابن دينار ، عن سعيد بن يسار{[4601]} عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم{[4602]} .

وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن الحاكم وغيره ، عن الأصم ، عن العباس المروزي{[4603]} عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن ورقاء - وهو ابن عمر اليشكري - عن عبد الله بن دينار ، عن سعيد بن يسار{[4604]} عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب ، فإن الله يقبلها بيمينه ، فيربيها لصاحبها ، كما يربي أحدكم فلوه ، حتى تكون مثل أحد " {[4605]} .

وهكذا روى هذا الحديث مسلم ، والترمذي ، والنسائي جميعًا ، عن قتيبة ، عن الليث بن سعد ، عن سعيد المقبري . وأخرجه النسائي - من رواية مالك ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري - ومن طريق يحيى القطان ، عن محمد بن عجلان ، ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره{[4606]} .

وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا وَكِيع ، عن عباد بن منصور ، حدثنا القاسم بن محمد قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه ، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره - أو فلوه - حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد " . وتصديق ذلك في كتاب الله : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } .

وكذا رواه أحمد ، عن وكيع ، وهو في تفسير وكيع . ورواه الترمذي ، عن أبي كُرَيْب ، عن وكيع ، به{[4607]} وقال : حسن صحيح ، وكذا رواه الثوري عن عباد{[4608]} بن منصور ، به . ورواه أحمد أيضا ، عن خلف بن الوليد ، عن ابن المبارك ، عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور كلاهما عن أبي نضرة ، عن القاسم ، به{[4609]} .

وقد رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق{[4610]} عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن أيوب ، عن القاسم بن محمد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد إذا تصدق من طيب ، يقبلها الله منه ، فيأخذها بيمينه ، ويُرَبِّيها كما يربي أحدكم مُهْره أو فصيله{[4611]} وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله - أو قال : في كف الله - حتى تكون مثل أحد ، فتصدقوا " {[4612]} .

وهكذا رواه أحمد ، عن عبد الرزاق{[4613]} . وهذا طريق غريب صحيح الإسناد ، ولكن لفظه عجيب ، والمحفوظ ما تقدم . وروي عن عائشة أم المؤمنين ، فقال الإمام أحمد :

حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة ، كما يربي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله ، حتى يكون مثل أحد " . تفرد به أحمد من هذا الوجه{[4614]} .

وقال البزار : حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور ، حدثنا إسماعيل ، حدثني أبي ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن الضحاك بن عثمان ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها ، كما يربي أحدكم فلوه - أو وَصيفه - أو قال : فصيله " ثم قال : لا نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن سعيد بن عمرة إلا أبو أويس{[4615]} .

وقوله : { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } أي : لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل ، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة ، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح ، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل ، بأنواع المكاسب الخبيثة ، فهو جحود لما عليه من النعمة ، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل .


[4587]:زيادة من جـ، أ، و.
[4588]:زيادة من جـ، أ، و.
[4589]:زيادة من جـ.
[4590]:المسند (1/395).
[4591]:سنن ابن ماجة برقم (2289) وقال البوصيري في الزوائد (2/199): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
[4592]:في أ: "حدثنا ابن".
[4593]:في جـ: "رجل خرج".
[4594]:في أ: "على الناس".
[4595]:في جـ: "والجذام".
[4596]:المسند (1/21) وسنن ابن ماجة برقم (2155).
[4597]:صحيح البخاري برقم (1410) وبرقم (7430).
[4598]:صحيح مسلم برقم (1014).
[4599]:صحيح مسلم برقم (1014).
[4600]:صحيح مسلم برقم (1014).
[4601]:في أ: "بن بشار".
[4602]:صحيح البخاري برقم (1410، 7430).
[4603]:في أ، و: "الدوري".
[4604]:في أ: "بن بشار".
[4605]:السنن الكبرى للبيهقي (4/176).
[4606]:صحيح مسلم برقم (1014) وسنن الترمذي برقم (661) وسنن النسائي الكبرى برقم (7735).
[4607]:المسند (2/471) وسنن الترمذي برقم (662).
[4608]:في جـ، أ: "عن حماد".
[4609]:المسند (2/404).
[4610]:في أ، و: "عن محمد بن عبد الملك زنجويه".
[4611]:في جـ، أ: "أو فلوه".
[4612]:تفسير الطبري (6/19).
[4613]:المسند (2/268).
[4614]:المسند (6/251).
[4615]:مسند البزار برقم (931) "كشف الأستار" وقال الحافظ ابن حجر: "أبو أويس لين، وقد ذكر البزار أنه تفرد به".تنبيه: لم يقع في كشف الأستار: "عن الضحاك، عن أبي هريرة"؛ وذلك لأنه مخرج في الصحيحين فليس من الزوائد.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (276)

{ يمحق الله الربا } يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه . { ويربي الصدقات } يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه ، وعنه عليه الصلاة والسلام " إن الله يقبل الصدقة ويربيها كما يربي أحدكم مهره " . وعنه عليه الصلاة والسلام " ما نقصت زكاة من مال قط " { والله لا يحب } لا يرضى ولا يحب محبته للتوابين . { كل كفار } مصر على تحليل المحرمات . { أثيم } منهمك في ارتكابه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (276)

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( 276 )

{ يمحق } معناه : ينقص ويذهب ، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه ، { ويربي الصدقات } معناه ينميها ويزيد ثوابها تضاعفاً ، تقول : ربت الصدقة وأرباها الله تعالى ورباها وذلك هو التضعيف لمن يشاء ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله ، أو فلوه ، حتى يجيء يوم القيامة وأن اللقمة لعلى قدر أحد »( {[2719]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وقد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم ، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق ، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة( {[2720]} ) ، وقرأ ابن الزبير : «يُمحِّق الله » بضم الياء وكسر الحاء مشددة ، «ويرَبّي » بفتح الراء وشد الباء ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك .

وقوله تعالى : { والله لا يحب كل كفار أثيم } يقتضي أن الزجر في هذه الآيات للكفار المستحلين للربا القائلين على جهة التكذيب للشرع { إنما البيع مثل الربا }( {[2721]} ) ووصف الكفار ب { أثيم } ، إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان ، وإما ليذهب الاشتراك الذي في كفار ، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض( {[2722]} ) ، قاله ابن فورك( {[2723]} ) قال ومعنى قوله : { والله لا يحب } أي لا يحب الكفار الأثيم .

قال القاضي أبو محمد : محسناً صالحاً بل يريده مسيئاً فاجراً ، ويحتمل أن يريد والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم .

وهذه تأويلات مستكرهة ، أما الأول فأفرط في تعدية الفعل وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه ، وأما الثاني فغير صحيح المعنى ، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه ، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ولطف به ، وحرص على حفظه ، وتظهر دلائل ذلك ، والله تعالى يريد وجود الكافر( {[2724]} ) على ما هو عليه ، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه نحو ما ذكرناه في الشاهد ، وتلك المزية موجودة للمؤمن( {[2725]} ) .


[2719]:- ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيب – ولا يقبل الله إلا طيبا – فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل) ا هـ، والحديث روي في الدواوين بروايات. والفصيل: ولد الناقة أو البقرة بعد فطامه أو فصله عن أمه – والفِلْوُ والفُلُوُّ: الجحش أو المهر يُفطم، أو يبلغ السنة. جمعه أفْلاءٌ.
[2720]:- المرابون يظنون أن الصدقة نقصان والربا زيادة، وقد جعل الله ذلك على العكس من ظنهم فالربا نقصان، والصدقة زيادة، والربا يأتي على المال الذي خالطه فيمحق الله الجميع ويذهب ببركته. حقائـق: - الحقيقة الأولى: من الربا ما هو مُجمع على حرمته وهو ربا النَّساء، ومنه ما هو مختَلَف فيه وهو ربا الفضل، والصحيح حرمته وفسخ ما ثبت منه، والآية الكريمة تحتمل الكل بجعل (أل) جنسية، وتحتمل خصوص ربا النَّساء بجعل (أل) عهدية، وأما الطعام بالنقدِ والنقدُ بالطعام نسيئةً فهو جائز. - الحقيقة الثانية: علة الربا في الطعام عند الإمام مالك رحمه الله الاقتيات والادخار، وهما أخص صفات الطعام، وعلة الربا في النقدين كونهما ثمنين أي وسيلتين للتبادل في البضائع والطيبات في أنحاء العالم غالبا. - الحقيقة الثالثة: بيع المصوغ والمصنوع بجنسه لا يجوز إلا بمقدار زنة حليته، وأُجرة الصياغة أو الصنعة تدفع من وجه آخر، وهناك من يجيز شراءه بما يزيد وزنا ويجعل الزيادة في مقابلة الصنعة والله أعلم. - الحقيقة الرابعة: حكم الأوراق البنكية والفلوس النحاسية حكم النقدين، بناء على أنهما سند الذهب والفضة، وعليه فلا يجوز أحد النقدين بواحد منهما لعدم وجود المناجزة، إذ أحد العِوضين حاضر والآخر غائب، ولا عبرة بحضور السند، ومن الناس من يجعلها بمثابة عروض التجارة، وعليه فلا منع، والاحتياط في الدين يقضي بترجيح جانب الحرمة، والتوسعة على الناس في التعامل تقتضي العكس والله أعلم. - الحقيقة الخامسة: من مواضع الربا مسائل بيوع العينة وبيوع الآجال إذا كان التعامل في الظاهر مباحا ولكن يمكن أن يقصد به التوصل إلى زيادة الربا، فمذهب مالك – رحمه الله – أنه يمنع ما كثر قصده بناء على سد الذرائع، والذرائع الربوية المبنية على التهمة تتغير بتغير الأجيال والأحوال، ولا يسترسل تحريمها على الدوام عند القائلين بها، والله أعلم. ومن العلماء من يُجيز هذه البيوع اعتباراً بظاهرها وتغاضيا عن باطنها. - الحقيقة السادسة: التمول المحمود هو ألا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير، وألا يكون فيه تضييق على الناس، لما في ذلك من طغيان الثروة وفساد الأخلاق والضمائر، ومن ثم حرمت الشرائع السماوية، والحكمة الأخلاقية نظام الربا في المعاملات للمقاربة بين الناس في القوة المالية، وعدم طغيان بعضهم على بعض. وبين الأخلاق والأعمال ارتباط قوي في الإسلام، فالإنسان المسلم حينما يعمل يجب أن يتصف بأخلاق الإسلام، وأن يتصور أنه ممتحن في كل نشاط يقوم به في الدنيا، ومحاسب عليه لا محالة في الأخرى، وأنه مربوط بعهد الله الذي استخلفه في الأرض. - الحقيقة السابعة: الإسلام يحارب الربا محاربة لا هوادة فيها، ولا يقيم نظامه الاقتصادي على أساسه، بل يعدّ ذلك محقا للمال، وعيبا من عيوب الاقتصاد، وبلاء عظيما على المجتمعات البشرية، إلا أن خبراء التعامل بالربا الذين تعودوا أكل لحوم الناس وعظامهم أصبحوا يصيحون به وبهذا النظام الملوث، ويبثون في نفوس الناس أنه لا يمكن أن يقوم اقتصاد مزدهر بدونه وأن الحضارة القائمة هي نتيجة هذا النظام، وذلك كله خرافة يشهد العصر الحاضر ببطلانها وما دروا أن قبائح هذه الحضارة أكثر من محاسنها، ولو لم يكن إلا هذه الأجهزة والمؤسسات الربوية التي تسرق أموال الناس وتستغلهم استغلالا شديدا وبعيدا عن الإنسانية بمختلف الوسائل والأساليب لكفى. - الحقيقة الثامنة: المسلمون الذين يقرون نظام الربا في بلدانهم هم مخاصمون ومحاربون لله ورسوله، ومن حارب الله هلك وسقط، ولم يكن في اقتصاده زيادة ولا بركة، وإنما هناك فقر وخصاصة، وكيف يحرم الله علينا أمرا لا تتقدم الحياة البشرية بدونه ؟ فهذا شيء يستحيل تصوره واعتقاده، وكل من وقع في هذه الورطة فَلْيَتُبْ إلى الله جل علاه، ومن تاب تاب الله عليه، وتوبة الجماعة كتوبة الأفراد عند الله.
[2721]:- الآية من عموم السلب لا من سلب العموم، إذ لا فرق بين الكفار والأثيم، والمعنى أن كل كفّار أثيم لا يحبه الله، أي كل مقيم على الكفر مصر على الإثم.
[2722]:- تعليل بعيد، ووقوع ذلك على الزارع منوط بالسياق وبما يصحبه من القرائن، كقوله تعالى: [كمثل غيث أعجب الكفّار نباته].
[2723]:- بضم الفاء: أبو بكر الأصبهاني، إمام جليل في الفقه والأصول والنحو والكلام مع الزهد والورع. توفي مسموما سنة 406هـ. ، وبلغت تصانيفه مائة مصنف.
[2724]:- نقل أبو (ح هذه الجملة عن ابن عطية في البحر المحيط 2-336 هكذا: «والله تعالى يريد وجود ظهور الكافر على ما هو عليه» بزيادة لفظة (ظهور) – فتأمل.
[2725]:- الحب بمعنى الميل الطبيعي لا يليق به سبحانه، وابن فورك فسر الحب بالإرادة، وابن عطية جعله بمعنى اللطف وإظهار الدلائل، فيكون على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة فعل. بهذا علق أبو (ح) على كلام ابن عطية ونقده لابن فورك.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (276)

استئناف لبيان سوء عاقبة الربا في الدنيا بعد أن بينت عاقبته في الآخرة ، فهو استئناف بياني لتوقُّع سؤالِ من يسأل عن حال هؤلاء الذين لا ينتهون بموعظة الله . وقوله : { ويربى الصدقات } استطراد لبيان عاقبة الصدقة في الدنيا أيضاً ببيان أنّ المتصدق يفوز بالخير في الدارين كما باء المرابي بالشر فيهما ، فهذا وعد ووعيد دنيويان .

والمَحْق هو كالمَحْو : بمعنى إزالة الشيء ، ومنه محاق القمر ذهاب نوره ليلة السِّرار . ومعنى { يمحق الله الربا } أنّه يتلف ما حصل منه في الدنيا ، { ويربي الصدقات } أي يضاعف ثوابها لأنّ الصدقة لا تقبل الزيادة إلاّ بمعنى زيادة ثوابها ، وقد جاء نظيره في قوله في الحديث : " مَن تصدّق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيباً تلقاها الرحمان بيمينه وكِلْتَا يديه يمين فيُرْبيها له كما يُرْبِي أحدُكم فُلُوّه " . ولما جعل المحق بالربا وجُعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين ، والمعنى : يمحق الله الربا ويعاقب عليه ، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها ، على طريقة الاحتباك .

وجملة : { والله لا يحب كل كفار أثيم } معترضة بين أحكام الربا . ولما كان شأن الاعتراض ألاّ يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام ، كان الإخبار بأنّ الله لا يحبّ جميع الكافرين مؤذناً بأنّ الربا من شعار أهل الكفر ، وأنّهم الذين استباحوه فقالوا إنّما البيع مثل الربا ، فكان هذا تعريضاً بأنّ المرابي متَّسم بخلال أهل الشرك .

ومفاد التركيب أنّ الله لا يحبّ أحداً من الكافرين الآثمين لأنّ ( كل ) من صيغ العموم ، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على صُبرة مجموعة ، ولذلك يقولون هي موضوعة للكل الجميعي ، وأما الكل المَجموعي فلا تستعمل فيه كل إلاّ مجازاً . فإذا أضيفت ( كل ) إلى اسم استغرقتْ جميع أفراده ، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي ، فإذا دخل النفي على ( كل ) كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد ؛ لأنّ النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبْقَى مدلول الجملة كما هو ، إلاّ أنه يتكيّف بالسلْب عوضاً عن تكيّفه بالإيجاب ، فإذا قلت كلُّ الديار مَا دخلتُه ، أو لم أدخل كلّ دار ، أو كلّ دار لم أدخل ، أفاد ذلك نفي دخولك أيةَ دار من الديار ، كما أنّ مفاده في حالة الإثبات ثبوت دخولك كلّ دار ، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ كل سواء في المعنى في قول أبي النَّجم :

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي *** عَلَيّ ذنباً كُلُّه لم أصنع

كما قال سيبويه : إنّه لو نصب لكان أولى ؛ لأنّ النصب لا يفسد معنى ولا يخلّ بميزان . ولا تخرج ( كل ) عن إفادة العموم إلاّ إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه ( كل ) صريحاً أو تقديراً ، كأنْ يقول أحد : كل الفقهاء يحرّم أكل لحوم السباع ، فتقول له : ما كل العلماء يحرّم لحوم السباع ، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض ، وكذلك في ردّ الاعتقادات المخطئة كقول المثَل : « ما كل بيضاء شَحْمة » ، فإنّه لردّ اعتقاد ذلك كما قال زفر بن الحارث الكلابي :

* وكُنَّا حَسِبْنا كُلّ بَيْضَاء شحمةً *

وقد نَظر الشيخ عبد القادر الجرجاني إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال ( كل ) إذا وقعت في حَيّز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز ، وزعم أنّ رجز أبي النجم يتغيّر معناه باختلاف رفع ( كل ) ونصبه في قوله « كلّه لم أصنع » . وقد تعقّبه العلامة التفتازاني تعقّباً مجملاً بأنّ ما قاله أغلبي ، وأنّه قد تخلّف في مواضع . وقفّيت أنا على أثر التفتازاني فبيّنت في تعليقي « الإيجاز على دلائل الإعجاز » أنّ الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا .