ثم حكى - سبحانه - بعض الشبهات التى أثارها المشركون حول القرآن الكريم الذى أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { وَقَالَ الذين كفروا . . . . } .
الإفك : أسوأ الكذب . يقال : أفك فلان - كضرب وعلم - أفكا ، إذا قال أشنع الكذب وأقبحه .
والزور فى الأصل : تحسين الباطل . مأخوذ من الزورِ وهو الميل وأطلق على الباطل زور لما فيه من الميل عن الصدق إلى الكذب ، ومن الحق إلى ما يخالفه .
أى : وقال الذين كفروا فى شأن القرآن الكريم الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ما هذا إلى كذب وبهتان { افتراه } واختلقه محمد صلى الله عليه وسلم من عند نفسه ، { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ } أى وأعانه وساعده على هذا الاختلاق { قَوْمٌ آخَرُونَ } من اليهو أو غيرهم ، كعداس - مولى حويطب بن عبد العزى - ويسار - مولى العلاء بن الحضرمى - وأبى فكيهة الرومى . وكان هؤلاء من أهل الكتاب الذين أسلموا .
وقوله - تعالى - : { فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } رد على أقوال الكافرين الفاسدة وجاءوا بمعنى فعلوا ، وقوله : { ظُلْماً } منصوب به . والتنوين للتهويل .
أى : فقد فعل هؤلاء الكافرون بقولهم هذا ظلما عظيما وزورا كبيرا ، حيث وضعوا الباطل موضع الحق ، والكذب موضع الصدق .
ويصح أن يكون قوله : { ظُلْماً } منصوبا بنزع الخافض أى : فقد جاءوا بظلم عظيم ، وكذب فظيع ، انحرفوا به عن جادة الحق والصواب .
وبعد عرض هذا التطاول على مقام الخالق جل وعلا ، يعرض تطاولهم على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويرد عليه عقب عرضه بما يظهر سخفه وكذبه :
وقال الذين كفروا : إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون . فقد جاءوا ظلما وزورا . وقالوا : أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا . قل : أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، إنه كان غفورا رحيما . .
وأكذب شيء أن يقول كفار قريش هذه المقالة ، وهم يوقنون في أنفسهم أنها الفرية التي لا تقوم على أساس . فما يمكن أن يخفى على كبرائهم الذين يلقنونهم هذا القول أن القرآن الذي يتلوه عليهم محمد [ صلى الله عليه وسلم ] شيء آخر غير كلام البشر ؛ وهم كانوا يحسون هذا بذوقهم في الكلام ؛ وكانوا لا يملكون أنفسهم من التأثر بالقرآن . ثم هم كانوا يعلمون عن محمد قبل البعثة أنه الصادق الأمين الذي لا يكذب ولا يخون . فكيف به يكذب على الله وينسب إليه قولا لم يقله ?
ولكنه العناد والخوف على مراكزهم الاجتماعية المستمدة من سيادتهم الدينية ، كان يجنح بهم إلى هذه المناورات يطلقونها في وسط جمهور العرب ، الذين قد لا يميزون بين الكلام ، ولا يعرفون درجته : ( إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) . قيل : إنهم عبيد أعاجم ثلاثة أو أكثر ، هم الذين كانوا يعنونهم بهذه المقالة . وهو كلام متهافت تافه لا يقف للجدل . فإن كان بشر يملك أن يفتري مثل هذا القرآن بمعاونة قوم آخرين ، فما يمسكهم هم عن الإتيان بمثله ، مستعينين بأقوام منهم ، ليبطلوا حجة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يتحداهم به وهم عاجزون ? !
ومن ثم لا يجادلهم هنا ولا يناقشهم في هذا القول المتهافت ؛ إنما يدمغهم بالوصف البارز الثابت : فقد جاؤوا ظلما وزورا . . ظلما للحق ، ولمحمد ، ولأنفسهم ، وزورا واضح الكذب ظاهر البطلان .
يقول تعالى مخبرًا عن سخافة عقول الجهلة من الكفار ، في قولهم عن القرآن : { إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ } : أي : كذب ، { افْتَرَاهُ } يعنون النبي{[21399]} صلى الله عليه وسلم ، { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } أي : واستعان على جمعه بقوم آخرين . قال الله تعالى : { فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا } أي : فقد افتروا هم قولا باطلا هم
يعلمون أنه باطل ، ويعرفون كذب أنفسهم فيما يزعمون{[21400]} .
{ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك } كذب مصروف عن وجهه . { افتراه } اختلقه . { أعانه عليه قوم آخرون } أي اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته ، وقيل جبر ويسار وعداس وقد سبق في قوله { إنما يعلمه بشر } . { فقد جاءوا ظلما } بجعل الكلام المعجز { إفك } مختلفا متلقفا من اليهود . { وزورا } بنسبة ما هو بريء منه إليه وأتى وجاء يطلقان بمعنى فعل فيعديان تعديته .
المراد ب { الذين كفروا } قريش وذلك أن بعضهم قال { هذا إفك } وكذب { افتراه } محمد واختلف المتأولون في «القوم » المعينين على زعم قريش ، فقال مجاهد أشاروا إلى قوم من اليهود ، وقال ابن عباس أشاروا إلى عبيد كانوا للعرب من الفرس أحدهم أبو فكيهة مولى الحضرميين وجبر ويسار وعداس وغيرهم ، ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم ما { جاؤوا } إلا إفكاً { وزوراً } أي ما قالوا إلا باطلاً وبهتاناً ، و «الزور » تحسين الباطل هذا عرفه وأصله التحسين مطلقاً ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : فأردت أن أقدم بين يدي أبي بكر مقالة كنت زورتها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الكافرون بالله الذين اتخذوا من دونه آلهة: ما هذا القرآن الذي جاءنا به محمد "إلاّ إفْكٌ "يعني: إلاّ كذب وبُهتان، "افْتَرَاهُ": اختلقه وتخرّصه بقوله، "وأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ" ذكر أنهم كانوا يقولون: إنما يُعَلّم محمدا هذا الذي يجيئنا به اليهود، فذلك قوله: "وأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ" يقول: وأعان محمدا على هذا الإفك الذي افتراه يهود...
وقوله: "فَقَدْ جاءُوا ظُلْما وَزُورا" يقول تعالى ذكره: فقد أتى قائلو هذه المقالة، يعني الذين قالوا: "إنْ هَذَا إلاّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ" ظلما، يعني بالظلم: نسبتهم كلام الله وتنزيله إلى أنه إفك افتراه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بيّنا فيما مضى أن معنى الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فكأنّ ظلم قائلي هذه المقالة القرآن بقيلهم هذا وصفُهم إياه بغير صفته. والزور: أصله تحسين الباطل. فتأويل الكلام: فقد أتى هؤلاء القوم في قيلهم "إنْ هَذَا إلاّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ" كذبا مَحْضا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إن أهل الشرك كانوا يكذبون الأنباء والأخبار من غير أن كانت لهم الأسباب التي بها ما يوصل إلى معرفة صدق الأخبار وكذبها. وكذلك كانت عادتهم وهمتهم. والأسباب التي يعرف بها صدق الأخبار وكذبها، هي الكتب السماوية والرسل الذين نطقوا عن وحي السماء. فكفار مكة لم يكن لهم واحد من هذين. فكيف ادعوا على رسول الله اختلاق هذا القرآن واختراعه من نفسه وأنه مفتر على غير كون أسباب معرفة الكذب والصدق لهم في الأخبار مع ما ظهرت لهم آيات رسالته وأعلام صدقه في الأخبار حين لم يؤخذ عليه كذب قط، ولا رأوه اختلف إلى أحد من أهل الكتاب، ولا كان يحسن أن يخط بيده كتابا، وما قرع أسماعهم من أول الأمر إلى آخر الأبد...فدل عجزهم وترك تكذيبهم ذلك على أنهم عرفوا أنه من عند الله وأنهم كذبة في قولهم:"إن هذا إلا إفك افتراه..."
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَوْمٌ ءاخَرُونَ} قيل: هم اليهود. وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكيهة الرومي: قال ذلك النضر بن الحرث بن عبد الدار...
وظلمهم: أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب. والزور: أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه.
... {فقد جاءوا ظلما وزورا}... أي جاءوا بالظلم والزور.. أما أنه ظلم فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه وذلك هو الظلم، وأما الزور فلأنهم كذبوا فيه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما وصف منزل الفرقان بما لا يحيط به علم أحد غيره من الشؤون، فاتضح بذلك إعجاز المنزل الذي أبان ذلك، وهو هذا القرآن، وأنه وحده الفرقان، عجب من حال المكذبين به فقال موضع {وقالوا}: {وقال الذين كفروا} مظهراً الوصف الذي حملهم على هذا القول، وهو ستر ما ظهر لهم ولغيرهم كالشمس والاجتهاد في إخفائه: {إن} أي ما {هذا} أي القرآن {إلا إفك} أي كذب مصروف عن ظاهره ووجه هو أسوأ الكذب {افتراه} أي تعمد كذبه هذا النذير، فكان قولهم هذا موضع العجب لكونه ظاهر الخلل.
ولما كان الإنسان مطبوعاً على أنه يتكثر بأدنى شيء من المحاسن فيحب أن تظهر عنه ولا ينسب شيء منها إلى غيره، كان أعجب من ذلك وأظهر عواراً قولهم: {وأعانه} أي محمداً {عليه} أي القرآن {قوم} أي ذوو كفاية حبوه بما يتشرف به دونهم؛ وزادوا بعداً بقولهم: {آخرون} أي من غير قومه؛ فقيل: أرادوا اليهود، وقيل: غيرهم ممن في بلدهم من العبيد النصارى وغيرهم، فلذلك تسبب عنه قوله تعالى: {فقد جاءوا} أي الكفار في ذلك {ظلماً} بوضع الإفك على ما لا أصدق منه ولا أعدل {وزوراً} أي ميلاً مع جلافة عظيمة عن السنن المستقيم في نسبة أصدق الناس وأطهرهم خليقة، وأقومهم طريقة، إلى هذه الدنايا التي لا يرضاها لنفسه أسقط الناس، فإنها -مع كونها دنيئة في نفسها- مضمونة الفضيحة؛ قال ابن جرير وأصل الزور تحسين الباطل وتأويل الكلام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد عرض هذا التطاول على مقام الخالق جل وعلا، يعرض تطاولهم على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ويرد عليه عقب عرضه بما يظهر سخفه وكذبه:
وقال الذين كفروا: إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون. فقد جاءوا ظلما وزورا. وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا. قل: أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، إنه كان غفورا رحيما..
وأكذب شيء أن يقول كفار قريش هذه المقالة، وهم يوقنون في أنفسهم أنها الفرية التي لا تقوم على أساس. فما يمكن أن يخفى على كبرائهم الذين يلقنونهم هذا القول أن القرآن الذي يتلوه عليهم محمد [صلى الله عليه وسلم] شيء آخر غير كلام البشر؛ وهم كانوا يحسون هذا بذوقهم في الكلام؛ وكانوا لا يملكون أنفسهم من التأثر بالقرآن. ثم هم كانوا يعلمون عن محمد قبل البعثة أنه الصادق الأمين الذي لا يكذب ولا يخون. فكيف به يكذب على الله وينسب إليه قولا لم يقله؟
ولكنه العناد والخوف على مراكزهم الاجتماعية المستمدة من سيادتهم الدينية، كان يجنح بهم إلى هذه المناورات يطلقونها في وسط جمهور العرب، الذين قد لا يميزون بين الكلام، ولا يعرفون درجته: (إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون). قيل: إنهم عبيد أعاجم ثلاثة أو أكثر، هم الذين كانوا يعنونهم بهذه المقالة. وهو كلام متهافت تافه لا يقف للجدل. فإن كان بشر يملك أن يفتري مثل هذا القرآن بمعاونة قوم آخرين، فما يمسكهم هم عن الإتيان بمثله، مستعينين بأقوام منهم، ليبطلوا حجة محمد [صلى الله عليه وسلم] وهو يتحداهم به وهم عاجزون؟!
ومن ثم لا يجادلهم هنا ولا يناقشهم في هذا القول المتهافت؛ إنما يدمغهم بالوصف البارز الثابت: فقد جاؤوا ظلما وزورا.. ظلما للحق، ولمحمد، ولأنفسهم، وزورا واضح الكذب ظاهر البطلان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والقصر المستفاد من قوله: {إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون} متسلط على كلتا الجملتين، أي لا يخلو هذا القرآن من مجموع الأمرين، هما: أن يكون افترى بعضه من نفسه، وأعانه قوم على بعضه...و {جاءوا} مستعمل في معنى (عملوا) وهو مجاز في العناية بالعمل والقصد إليه لأن من اهتم بتحصيل شيء مشى إليه، وبهذا الاستعمال صح تعديته إلى مفعول كما في هذه الآية... والظلم الذي أتوه هو نسبتهم الرسول إلى الاختلاق فإنه اعتداء على حقه الذي هو الصدق.