ثم بين - سبحانه - ألوانا أخرى من نعيمهم فقال : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } .
وقوله - سبحانه - : { قَاصِرَاتُ الطرف } صفة لموصوف محذوف . والطمث : كناية عن افتضاض البكارة . يقال : طمث الرجل امرأته - من باب ضرب وقتل - ، إذا أزال بكارتها . وأصل الطمث : الجماع المؤدى إلى خروج دم الفتاة البكر ، ثم أطلق على كل جماع وإن لم يكن معه دم .
أى : فى هاتين الجنتين اللتين أعدهما - سبحانه - لمن خاف مقامه . . . نساء قاصرات عيونهم على أزواجهن ، ولا يتلفتن إلى غيرهم . وهؤلاء النساء من صفاتهن - أيضا - أنهن أبكار ، لم يلمسهن ولم يزل بكارتهن أحد قبل هؤلاء الأزواج . . . وكأن هؤلاء النساء فى صفائهن وجمالهن وحمرة خدودهن . . . الياقوت والمرجان .
ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك : { فِيهِنَّ } أي : في الفرش { قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي غضيضات عن غير أزواجهن ، فلا يرين شيئا أحسن في الجنة من أزواجهن . قاله ابن عباس ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، وابن زيد .
وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها : والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ، ولا في الجنة شيئ أحب إلي منك ، فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك .
{ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } أي : بل هن أبكار عرب أتراب ، لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن . وهذه أيضا من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة .
قال أرطاة بن المنذر : سئل ضَمْرَةُ بن حبيب : هل يدخل الجن الجنة ؟ قال : نعم ، وينكحون ، للجن جنيات ، وللإنس إنسيات . وذلك قوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنّ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } .
يقول تعالى ذكره في هذه الفرش التي بطائنها من إستبرق قاصِرَاتُ الطّرْفِ وهنّ النساء اللاتي قد قُصرَ طرفهنّ على أزواجهنّ ، فلا ينظرن إلى غيرهم من الرجال . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثني أبي ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، في قوله : فِيهِنّ قاصِرَاتُ الطّرْفِ قال : قَصُر طرفهنّ عن الرجال ، فلا ينظرن إلا إلى أزواجهنّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فِيهِنّ قاصِرَاتُ الطّرْفِ . . . الاَية ، يقول : قُصِر طرفهنّ على أزواجهنّ ، فلا يردن غيرهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قاصِراتُ الطّرْفِ قال : لا ينظرن إلا إلى أزواجهنّ ، تقول : وعزّة ربي وجلاله وجماله ، إن أرى في الجنة شيئا أحسن منَك ، فالحمد لله الذي جعلك زوجي ، وجعلني زوجَك .
وقوله : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ يقول : لم يمسهن إنس قبل هؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم ، وهم الذين قال فيهم ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ ولا جان يقال منه : ما طمث هذا البعيرَ حبلٌ قطّ : أي ما مَسّهُ حبل .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين يقول : الطمث هو النكاح بالتدمية ، ويقول : الطمث هو الدم ، ويقول : طمثها إذا دماها بالنكاح . وإنما عنى في هذا الموضع أنه لم يجامعهنّ إنس قبلهم ولا جانّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ يقول : لم يُدْمِهنّ إنس ولا جانّ .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن رجل عن عليّ لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ قال : منذ خلقهنّ .
حدثنا الحسين بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن مغيرة بن مسلم ، عن عكرمة ، قال : لا تقل للمرأة طامث ، فإن الطّمْث هو الجماع ، إن الله يقول : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ قال : لم يَمَسّهنّ شيء إنس ولا غيره .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ قال : لم يَمَسّهنّ .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن عاصم ، قال : قلت لأبي العالية امرأة طامث ، قال : ما طامث ؟ فقال رجل : حائض ، فقال أبو العالية : حائض ، أليس يقول الله عزّ وجل لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ .
فإن قال قائل : وهل يجامع النساءَ الجنّ ، فيقال : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ ؟ فإن مجاهدا روي عنه ما .
حدثني به محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا سهل بن عامر ، قال : حدثنا يحيى بن يَعْلَى الأسلميّ عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : إذا جامع ولم يسمّ ، انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه ، فذلك قوله : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْس قَبْلَهُمْ وَلا جانّ .
وكان بعض أهل العلم ينتزع بهذه الاَية في أن الجنّ يدخلون الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو حُمَيد أحمد بن المغيرة الحمصي ، قال : ثني أبو حَيْوة شريح بن يزيد الحضرمي ، قال : ثني أرطاة بن المنذر ، قال : سألت ضَمْرة بن حبيب : هل للجنّ من ثواب ؟ قال : نعم ، ثم نزع بهذه الاَية لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ فالإنسيات للإنس ، والجنيات للجنّ .
ضمير { فيهن } عائد إلى فرش وهو سبب تأخير نعم أهل الجنة بلذة التأنّس بالنساء عن ما في الجنات من الأفنان والعيون والفواكه والفرش ، ليكون ذكر الفرش مناسباً للانتقال إلى الأوانس في تلك الفرش وليجيء هذا الضمير مفيداً معنى كثيراً من لفظ قليل ، وذلك من خصائص الترتيب في هذا التركيب .
ف { قاصرات الطرف } كائنة في الجنة وكائنة على الفُرش مع أزواجهن قال تعالى : { وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً } [ الواقعة : 34 36 ] الآية .
و { قاصرات الطرف } : صفة لموصوف محذوف تقديره نساء ، وشاع المدح بهذا الوصف في الكلام حتى نُزّل منزلة الاسم ف { قاصرات الطرف } نساء في نظرهن مثل القصور والغضِّ خِلقة فيهن ، وهذا نظير ما يقول الشعراء من المولّدين مراض العيون ، أي : مثل المراض خِلقة . والقصور : مثل الغضِّ من صفات عيون المها والظباء ، قال كعب بن زهير :
وما سعاد غداةَ البين إذْ رحلُوا *** إلاّ أَغَنُّ غَضِيضُ الطرف مكحول
والطمْث بفتح الطاء وسكون الميم مسيس الأنثى البِكر ، أي من أبكار . وعُبِّر عن البكارة ب { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } إطناباً في التحسين ، وقد جاء في الآية الأخرى { فجعلناهن أبكاراً } [ الواقعة : 36 ] . وهؤلاء هن نساء الجنة لا أزواج المؤمنين اللآئي كُنَّ لهم في الدنيا لأنهن قد يكنّ طمثهم أزواج فإن الزوجة في الجنة تكون لآخر من تزوجها في الدنيا .
وقرأ الجمهور { يطمثهن } هنا ، وفي نظيره الآتي بكسر الميم . وقرأه الدُوري عن الكسائي بضم الميم وهما لغتان في مضارع طمث . ونقل عن الكسائي : التخييرُ بين الضم والكسر .
وقوله : { إنس قبلهم } أي لم يطمثهن أحد قبل ، وقوله : { ولا جان } تتميم واحتراس وهو إطناب دعا إليه أن الجنة دار ثواب لصالحي الإِنس والجن فلما ذكر { إنس } نشأ توهم أن يمَسهن جن فدفع ذلك التوهم بهذا الاحتراس .