الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فِيهِنَّ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ لَمۡ يَطۡمِثۡهُنَّ إِنسٞ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَآنّٞ} (56)

قوله : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ } : اختُلِفَ في هذا الضمير ، فقيل : يعود على الجنات ، فيقال : كيف تَقَدَّمَ تثنيةٌ ثم أُتِي بضمير جَمْع ؟

فالجوابُ : أنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان على قولٍ ، وله شواهدُ قد تقدَّم أكثرُها . وإمَّا أن يقالَ : عائدٌ على الجنات المدلولِ عليها بالجنتْين ، وإمَّا أَنْ يقالَ : إنَّ كل فردٍ فردٍ له جنتان فصَحَّ أنها جناتٌ كثيرة ، وإمَّا أنَّ الجنةَ تشتمل على مجالسَ وقصورٍ ومنازلَ فأطلقَ على كلِّ واحدٍ منها جنة . وقيل : يعودُ على الفُرُش . وهذا قولٌ حَسَنٌ قليلُ الكُلْفَةِ .

وقال الزمشخري : " فيهِنَّ : في هذه الآلاءِ المعدودة من الجنَّتَيْن والعينَيْن والفاكهةِ والفُرُشِ والجَنَى " . قال الشيخ : " وفيه بُعْدٌ " وكان قد اسْتَحْسَنَ الوجهَ الذي قبله . وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ الاستعمالَ أَنْ يُقال : على الفِراش كذا ، ولا يقال : في الفِراش كذا إلاَّ بتكلُّف ؛ فلذلك جَمَعَ الزمخشريُّ مع الفُرُش غيرَها حتى صَحَّ له أَنْ يقولَ : " فيهن " بحرف الظرفيَّة ، ولأن الحقيقةَ أنَّ الفُرُشَ يكون الإِنسانُ عليها ؛ لأنه مُستَعْلٍ عليها . وأمَّا كونُه فيها فلا يقال إلاَّ بمجازٍ . وقال الفراء : " كلُّ موضع في الجنةِ جنةٌ ، فلذلك صَحَّ أَنْ يُقالَ : فيهِنَّ ، والقاصِراتُ : الحابساتُ الطرفِ ، أي : أعينُهُنَّ عن غيرِ أَزْواجهن . ومعناه : قَصَرْنَ ألحاظَهُنَّ على أزواجِهنَّ . قال امرؤ القيس :

مِن القاصِراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ *** من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا

وقاصراتُ الطرفِ : مِنْ إضافةِ اسم الفاعلِ لمنصوبِه تخفيفاً إذ يقال : قَصَرَ طَرْفَه على كذا . وحُذِف متعلَّقُ القَصْرِ للعلمِ به ، أي : على أزواجِهِنَّ ، كما تقدَّم تقريرُه . وقيل : المعنى : قاصراتٌ طَرْفَ غيرِهن عليهنَّ ، أي : إذا رآهن أحدٌ لم يتجاوَزْ طرفُه إلى غيرِهنَّ .

قوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } هذه الجملةُ يجوز أَنْ تكونَ نعتاً لقاصِرات ؛ لأن إضافتَها لفظيةٌ ، كقولِه

{ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] و [ وقوله ] :

يا رُبَّ غابطِنا لو كان يَطْلُبُكمْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِ النكرةِ بالإِضافة . واخْتُلِفَ في هذا الحرفِ والذي بعدَه عن الكسائيِّ : فنُقِل عنه أنَّه كان يُخَيِّرُ في ضَمِّ أيِّهما شاءَ القارىءَ . ونَقَل عنه الدُّوريُّ ضمَّ الأولِ فقط ونَقَل عنه أبو الحارث ضمَّ الثاني فقط ، وهما لغتان . يُقال : طَمَثَها يَطْمِثُها ويَطْمُثُها إذا جامَعَها . وأصلُ الطَّمْثِ : الجماعُ المؤدِّي إلى خروجِ دمِ البِكْرِ ، ثم أُطْلِقَ على كلِّ جِماع : طَمْثٌ ، وإنْ لم يَكُنْ معه دمٌ . وقيل : الطَمْثُ دَمُ الحَيْضِ أو دمُ الجِماع . وقيل : الطَمْثُ المَسُّ الخاص . وقرأ الجحدري " يَطْمَثْهُنَّ " بفتح الميم في الحرفَيْن ، وهو شاذٌّ إذ ليسَتُ عينُه ولا لامُه حرفَ حَلْقٍ . والضميرُ في " قبلَهُمْ " عائدٌ على الأزواجِ الدالِّ عليهم قولُه " قاصراتُ الطَّرْفِ " أو الدالِّ عليه " مُتَّكئين " .