{ فِيهِنَّ } أي الجنان المدلول عليها بقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] فإنه يلزم من أنه لكل خائف جنتان تعدد الجنان ، وكذا على تقدير أن يكون المراد لكل خائفين من الثقلين جنتان لاسيما وقد تقدم اعتبار الجمعية في قوله تعالى : { مُتَّكِئِينَ } [ الرحمن : 54 ] وقال الفراء : الضمير لجنتان ، والعرب توقع ضمير الجمع على المثنى ولا حاجة إليه بعدما سمعت ، وقيل : الضمير للبيوت والقصور المفهومة من الجنتين أو للجنتين باعتبار ما فيهما مما ذكر ، وقيل : يعود على الفرش ، قال أبو حيان : وهذا قول حسن قريب المأخذ ، وتعقب بأن المناسب للفرش على ، وأجيب بأنه شبه تمكهن على الفرش بتمكن المظروف في الظرف وإيثاره للإشعار بأن أكثر حالهن الاستقرار عليها ، ويجوز أن يقال : الظرفية للإشارة إلى أن الفرش إذا جلس عليها ينزل مكان الجالس منها ويرتفع ما أحاط به حتى يكاد يغيب فيها كما يشاهد في فرش الملوك المترفهين التي حشوها ريش النعام ونحوه ، وقيل : الضمير للآلاء المعدودة من الجنتين . والعينين . والفاكهة والفرش . والجنى والمراد معهن { قاصرات الطرف } أي نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم ، أو يقصرن طرف الناظر إليهن عن التجاوز إلى غيرهن ، قال ابن رشيق في قول امرئ القيس
: من ( القاصرات الطرف ) لو ( دب محول *** من الذر فوق الأنف منها لأثرا )
أراد بالقاصرات الطرف أنها منكسرة الجفن خافضة النظر غير متطلعة لما بعد ولا ناظرة لغير زوجها ، ويجوز أن يكون معناه أن طرف الناظر لا يتجاوزها كقول المتنبي
: وخصر تثبت الأبصار فيه *** كأن عليه من حدق نطاقاً
انتهى فلا تغفل ، والأكثرون على أول المعنيين اللذين ذكرناهما بل في بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير نبوي .
أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك «لا ينظرن إلا إلى أزواجهن » ومتى صح هذا ينبغي قصر الطرف عليه ، وفي بعض الآثار تقول الواحدة منهن لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي ، و { الطرف } في الأصل مصدر فلذلك وحد { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } قال ابن عباس : لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان ، وفيه إشارة إلى أن ضمير قبلهن للأزواج ، ويدل عليه { قاصرات الطرف } وفي البحر هو عائد على من عاد عليه الضمير في { مُتَّكِئِينَ } [ الرحمن : 54 ] ، وأصل الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمث ، ثم أطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم ، وقيل : ثم عمم لكل جماع ، وهو المروى هنا عن عكرمة ، وإلى الأول ذهب الكثير ، وقيل : إن التعبير به للإشارة إلى أنهن يوجدن أبكاراً كلما جومعن ، ونفي طمثهن عن الأنس ظاهر ، وأما عن الجن فقال مجاهد .
والحسن : قد تجامع الجن نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج اسم الله تعالى فنفي هنا جميع المجامعين وقيل : لا حاجة إلى ذلك إذ يكفي في نفي الطمث عن الجن إمكانه منهم ، ولا شك في إمكان جماع الجنى إنسية بدون أن يكون مع زوجها الغير الذاكر اسم الله تعالى ، ويدل على ذلك ما رواه أبو عثمان سعيد بن دواد الزبيدي قال : كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا : إن ههنا رجلاً من الجن يزعم أنه يريد الحلال فقال ما أرى بذلك بأساً في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل : من زوجك ؟ قالت : من الجن فيكثر الفساد في الإسلام ، ثم إن دعوى أن الجن تجامع نساء البشر جماعاً حقيقياً مع أزواجهن إذا لم يذكروا اسم الله تعالى غير مسلمة عند جميع العلماء ، وقوله تعالى : { وَشَارِكْهُمْ فِي الاموال والأولاد } [ الإسراء : 64 ] غير نص في المراد كما لا يخفى ، وقال ضمرة بن حبيب : الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم ، فالمعنى لم يطمث الانسيات أحد من الإنس ، ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن ، وقد أخرج نحو هذا عنه ابن أبي حاتم ، وظاهره أن ما للجن لسن من الحور .
ونقل الطبرسي عنه أنهن من الحور وكذا الانسيات ، ولا مانع من أن يخلق الله تعالى في الجنة حوراً للإنس يشاكلنهم يقال لهن لذلك إنسيات ، وحوراً للجن يشاكلنهم يقال لهن لذلك جنيات ، ويجوز أن تكون الحور كلهن نوعاً واحداً ويعطي الجنى منهن لكنه في تلك النشأة غيره في هذه النشأة ، ويقال : ما يعطاه الانسى منهن لم يطمثها إنسي قبله ، وما يعطاه الجنى لم يطمثها جنى قبله وبهذا فسر البلخي الآية ، وقال الشعبي . والكلبي : تلك القاصرات الطرف من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن النشأة الآخرة خلق قبل ، والذي يعطاه الإنسي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا ويعطي غيرها من نسائها المؤمنات أيضاً . وكذا الجنى يعطي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا من الجن ويعطي غيرها من نساء الجن المؤمنات أيضاً ، ويبعد أن يعطي الجنى من نساء الدنيا الإنسانيات في الآخرة .
والذي يغلب على الظن أن الانسى يعطي من الانسيات والحور والجنى يعطي من الجنيات والحور ولا يعطي إنسى جنية ، ولا جنى إنسية وما يعطاه المؤمن إنسياً كان أو جنياً من الحور شيء يليق به وشتهيه نفسه ، وحقيقة تلك النشأة وراء ما يخطر بالبال ، واستدل بالآية على أن الجن يدخلون الجن ويجامعون فيها كالإنس فهم باقون فيها منعمين كبقاء المعذبين منهم في النار ، وهو مقتضى ظاهر ما ذهب إليه أبو يوسف .
ومحمد . وابن أبي ليلى . والأوزاعي . وعليه الأكثر كما ذكره العيني في «شرح البخاري » من أنهم يثابون على الطاعة ويعاقبون على المعصية ، ويدخلون الجنة فإن ظاهره أنهم كالإنس يوم القيامة ، وعن الإمام أبي حنيفة ثلاث روايات الأولى أنهم لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا تراباً كسائر الحيوانات ، والثانية أنهم من أهل الجنة ولا ثواب لهم أي زائد على دخولها ، الثالثة التوقف قال الكردري : وهو في أكثر الروايات ، وفي فتاوي أبي إسحق بن الصفار أن الإمام يقول : لا يكونون في الجنة ولا في النار ولكن في معلوم الله تعالى .
ونقل عن مالك وطائفة أنهم يكونون في ربض الجنة ، وقيل : هم أصحاب الأعراف ، وعن الضحاك أنهم يلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة وعلى القول بدخولهم الجنة قيل : نراهم ولا يرونا عكس ما كانوا عليه في الدنيا ، وإليه ذهب الحرث المحاسبي ، وفي اليواقيت الخواص منهم يرونا كما أن الخواص منا يرونهم في الدنيا ، وعلى القول بأنهم يتنعمون في الجنة قيل : إن تنعمهم بغير رؤيته عز وجل فإنهم لا يرونه ، وكذا الملائكة عليهم السلام ما عدا جبريل عليه السلام فإنه يراه سبحانه مرة ولا يرى بعدها على ما حكاه أبو إسحق إبراهيم بن الصفار في فتاويه عن أبيه ، والأصح ما عليه الأكثر مما قدمناه وأنهم لا فرق بينهم وبين البشر في الرؤية وتمامه في محله ، وقرأ طلحة . وعيسى . وأصحاب عبد الله { يَطْمِثْهُنَّ } بضم الميم هنا وفيما بعد ، وقرأ أناس بضمه في الأول وكسره في الثانية . وناس بالعكس . وناس بالتخيير ، والجحدري بفتح الميم فيهما ، والجملة صفة لقاصرات الطرف لأن إضافتها لفظية أو حال منها لتخصيصها بالإضافة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.