فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فِيهِنَّ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ لَمۡ يَطۡمِثۡهُنَّ إِنسٞ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَآنّٞ} (56)

{ فيهن } أي في الجنتين المذكورتين ، لأن أقل الجمع اثنان أو لاشتمالها على أماكن وعلالي وقصور ومجالس ، قال الزجاج : وإنما قال { فيهن } لأنه عنى الجنتين وما أعد لصاحبهما فيهما من النعيم ، أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجني وقيل : { فيهن } أي في الفراش التي بطائنها من إستبرق قال أبو حيان : وفيه بعد ، لأن الاستعمال أن يقال على الفراش كذا ولا يقال في الفراش كذا إلا بتكلف . ولذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول ذلك ، وقال الفراء : كل موضع في الجنة جنة فلذلك صح أن يقال فيهن .

{ قاصرات الطرف } من إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تخفيفا إذ يقال قصر طرفه على كذا ، وحذف متعلق القصر للعلم به ، أي : إنهن يقصرن أبصارهن على أزواجهن المتكئين من الإنس والجن لا ينظرن إلى غيرهم ولا يرين سواهم والآية دلت على الحياء لأن الطرف حركة الجفن ، والحبيبة لا تحرك جفنها ولا ترفع رأسها وقد تقدم هذا في سورة الصافات قال ابن عباس : قاصرات الطرف عن غير أزواجهن قال الرازي : وانظر إلى حسن هذا الترتيب فإنه بين أولا المسكن وهو الجنة ، ثم بين ما يتنزه به وهو البستان والعيون الجارية ، ثم ذكر المأكول ، ثم ذكر موضع الراحة بعد الأكل ، وهو الفراش ، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه ، ولما كان الاختصاص بالشيء من أعظم الملذذات قال :

{ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } الضمير راجع إلى الأزواج المدلول عليهم بقاصرات الطرف ، وقيل : يعود إلى المتكئين ، والجملة نعت لقاصرات لأن إضافتها لفظية ، كقوله : { هذا عارض ممطرنا } أو حال لتخصص النكرة بالإضافة قال الفراء : الطمث الإفتضاض ، وهو النكاح بالتدمية ، يقال : طمث الجارية إذا افترعها ، وقيل : الطمث المس ، أي : لم يمسسهن ، قاله أبو عمرو وقال المبرد : أي لم يذللهن ، والطمث التدليل ، ومن استعمال الطمث فيما ذكره الفراء قول الفرزدق :

دفعن إلى ولم يطمثن قبلي وهن أصح من بيض النعام

وفي السمين : أصل الطمث الجماع المؤدي إلى خروج دم البكر ، ثم أطلق على كل جماع طمث وإن لم يكن معه دم ، وقيل : الطمث دم الحيض ، أو دم الجماع ، قال الواحدي : قال المفسرون : لم يطأهن ولم يغشهن ولم يجامعهن قبلهم أحد ، ولم يتسلط عليهن ، قال مقاتل : لأنهن خلقن في الجنة ، وقيل : إنهن من نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر ، أبكارا ، وقيل : هن الآدميات اللاتي متن أبكارا ، والأول أولى . قرأ الجمهور : يطمثن بكسر الميم ، وقرئ بضمها وبفتحها ، وفي هذه الآية ، بل في كثير من آيات هذه السورة ، دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا بالله سبحانه ، وعملوا بفرائضه ، وانتهوا عن مناهيه .

قال ابن عباس في الآية : لم يطمثهن لم يدن منهن ، أو لم يدمهن ، وفي الآية دليل على أن الجن يطمثون كما يطمثن الإنس ، فإن مقام الامتنان يقتضي ذلك إذ لو يطمثوا لم يحصل لهم الامتنان