السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فِيهِنَّ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ لَمۡ يَطۡمِثۡهُنَّ إِنسٞ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَآنّٞ} (56)

ولما كان ما ذكر لا تتم نعمته إلا بالنسوان الحسان قال تعالى : { فيهنّ } أي الجنان التي علم مما مضى أنّ لكلّ فرد من الخائفين منها جنتين ، فصح الجمع ؛ وقال الزمخشري فيهنّ في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى ، أو في الجنتين لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس ا . ه . قال أبو حيان : وفيه أي : الأوّل بعد لأن الاستعمال أن يقال على الفراش كذا ، ولا يقال في الفراش كذا إلا بتكلف ولذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول ذلك ؛ وقيل يعود على الجنتين لأن أقل الجمع اثنان وقال الفراء كل موضع في الجنة جنة فلذلك صح أن يقال فيهنّ { قاصرات الطرف } أي : الأعين على أزواجهنّ المتكئين من الأنس والجنّ .

قال الرازي وقوله قاصرات الطرف أي نساء وأزواج فحذف الموصوف لنكتة وهي أنه تعالى لم يذكرهنّ باسم الجنس وهو النساء بل بالصفات ، فقال تعالى : { حور عين } [ الواقعة : 22 ] { كواعب أترابا } [ النبأ : 33 ]

{ قاصرات الطرف } { حور مقصورات } [ الرحمن : 72 ] ولم يقل : نساء عربا ولا نساء قاصرات لوجهين : أما على عادة العظماء كبنات الملوك إنما يذكرن بأوصافهنّ ؛ وإما لأنهنّ لما كملن كأنهنّ خرجن عن جنسهنّ .

وقوله تعالى : { قاصرات الطرف } يدلّ على عفتهنّ وعلى حسن المؤمنين في أعينهنّ فيحببن أزواجهنّ حباً شديد يشغلهنّ عن النظر إلى غيرهم . قال ابن زيد : تقول لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد الله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك ، ويدلّ أيضاً على الحياء لأن الطرف حركة الجفن والحيية لا تحرّك جفنها ولا ترفع رأسها .

تنبيه : انظر إلى حسن هذا الترتيب فإنه تعالى بين أولاً : المسكن وهو الجنة ، ثم بين ما يتنزه به وهو البستان والأعين الجارية ، ثم ذكر المأكول فقال تعالى : { فيهما من كل فاكهة } ثم ذكر موضع الراحة بعد الأكل وهو الفراش ، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه .

ولما كان الاختصاص بالشيء من أعظم الملذذات لاسيما المرأة قال تعالى { لم يطمثهنّ } أي : لم يجامعهنّ ويتسلط عليهنّ ؛ يقال طمثت المرأة كضرب وفرح حاضت ، وطمثها الرجل افتضها ، وأيضاً جامعها { إنس قبلهم } أي : المتكئين { ولا جان } فكأنه قال : هنّ أبكار لم يخالطهنّ أحد فإنّ هذا جمع كلّ من يمكن منه جماع ، وفي ذلك دليل على أنّ الجني يغشى كما يغشى الإنسي ويدخل الجنة ويكون لهم فيها جنتان ، قال ضمرة : للمؤمنين منهم أزواج من الحور فالإنسيات للإنس والجنيات للجنّ ، وقال مقاتل لأنهنّ خلقن في الجنة فعلى قوله يكونون من حور الجنة ؛ وقال الشعبي : من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن خلق وهو قول الكلبي . أي : لم يجامعهنّ في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان ؛ وأمّا في الدنيا فقال مجاهد : إذا جامع الرجل ولم يسمّ ينطوي الجني على إحليله فيجامع معه . وقال القرطبي : لم يطمثهن لم يصبهنّ بالجماع قبل أزواجهنّ أحد ، وهذا شامل لنساء الجنة ولنساء الدنيا بعد إنشائهنّ خلقاً جديداً ، وقرأ الكسائي : يطمثهنّ بضم الميم في الموضعين بخلاف عنه وتخييراً في أحدهما ، وهما لغتان : يقال طمثها يطمثها ويطمثها إذا جامعها .