مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فِيهِنَّ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ لَمۡ يَطۡمِثۡهُنَّ إِنسٞ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَآنّٞ} (56)

ثم قال تعالى : { فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، فبأي آلاء ربكما تكذبان } وفيه مباحث :

( الأول ) : في الترتيب وأنه في غاية الحسن لأنه في أول الأمر بين المسكن وهو الجنة ، ثم بين ما يتنزه به فإن من يدخل بستانا يتفرج أولا فقال : { ذواتا أفنان ، فيهما عينان } ثم ذكر ما يتناول من المأكول فقال : { فيهما من كل فاكهة } ثم ذكر موضع الراحة بعد التناول وهو الفراش ، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه .

الثاني : فيهن الضمير عائد إلى ماذا ؟ نقول : فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) إلى الآلاء والنعم أي قاصرات الطرف ( ثانيها ) إلى الفراش أي في الفرش قاصرات وهما ضعيفان ، أما الأول فلأن اختصاص القاصرات بكونهن في الآلاء مع أن الجنتين في الآلاء والعينين فيهما والفواكه كذلك لا يبقى له فائدة ، وأما الثاني فلأن الفرش جعلها ظرفهم حيث قال : { متكئين على فرش } وأعاد الضمير إليها بقوله : { بطائنها } ولم يقل : بطائنهن ، فقوله فيهن يكون تفسيرا للضمير فيحتاج إلى بيان فائدة لأنه تعالى قال بعد هذا مرة أخرى : { فيهن خيرات } ولم يكن هناك ذكر الفرش فالأصح إذن هو ( الوجه الثالث ) وهو أن الضمير عائد إلى الجنتين ، وجمع الضمير هاهنا وثنى في قوله : { فيهما عينان } و { فيهما من كل فاكهة } وذلك لأنا بينا أن الجنة لها اعتبارات ثلاثة ( أحدها ) اتصال أشجارها وعدم وقوع الفيافي والمهامة فيها والأراضي الغامرة ، ومن هذا الوجه كأنها جنة واحدة لا يفصلها فاصل ( وثانيها ) اشتمالها على النوعين الحاصرين للخيرات ، فإن فيها ما في الدنيا ، وما ليس في الدنيا وفيها ما يعرف ، ومالا يعرف ، وفيها ما يقدر على وصفه ، وفيها مالا يقدر ، وفيها لذات جسمانية ولذات غير جسمانية فلاشتمالها على النوعين كأنها جنتان ( وثالثها ) لسعتها وكثرة أشجارها وأماكنها وأنهارها ومساكنها كأنها جنات ، فهي من وجه جنة واحدة ومن وجه جنتان ومن وجه جنات . إذا ثبت هذا فنقول : اجتماع النسوان للمعاشرة مع الأزواج والمباشرة في الفراش في موضع واحد في الدنيا لا يمكن ، وذلك لضيق المكان ، أو عدم الإمكان أو دليل ذلة النسوان ، فإن الرجل الواحد لا يجمع بين النساء في بيت إلا إذا كن جواري غير ملتفت إليهن ، فأما إذا كانت كل واحدة كبيرة النفس كثيرة المال فلا يجمع بينهن ، واعلم أن الشهوة في الدنيا كما تزداد بالحسن الذي في الأزواج تزداد بسبب العظمة وأحوال الناس في أكثر الأمر تدل عليه ، إذا ثبت هذا فنقول : الحظايا في الجنة يجتمع فيهن حسن الصورة والجمال والعز والشرف والكمال ، فتكون الواحدة لها كذا وكذا من الجواري والغلمان فتزداد اللذة بسبب كمالها ، فإذن ينبغي أن يكون لكل واحدة ما يليق بها من المكان الواسع فتصير الجنة التي هي واحدة من حيث الاتصال كثيرة من حيث تفرق المساكن فيها فقال : { فيهن } وأما الدنيا فليس فيها تفرق المساكن دليلا للعظمة واللذة فقال

{ فيهما } وهذا من اللطائف ( الثالث ) قاصرات الطرف صفة لموصوف حذف ، وأقيمت الصفة مكانه ، والموصوف النساء أو الأزواج كأنه قال فيهن نساء قاصرات الطرف ( وفيه لطيفة ) فإنه تعالى لم يذكر النساء إلا بأوصافهن ولم يذكر اسم الجنس فيهن ، فقال تارة : { حور عين } وتارة : { عربا أترابا } وتارة : { قاصرات الطرف } ولم يذكر نساء كذا وكذا لوجهين ( أحدهما ) الإشارة إلى تخدرهن وتسترهن ، فلم يذكرهن باسم الجنس لأن اسم الجنس يكشف من الحقيقة مالا يكشفه الوصف فإنك إذا قلت المتحرك المريد الآكل الشارب لا تكون بينته بالأوصاف الكثيرة أكثر مما بينته بقولك : حيوان وإنسان و( ثانيهما ) إعظاما لهن ليزداد حسنهن في أعين الموعودين بالجنة فإن بنات الملوك لا يذكرن إلا بالأوصاف .

المسألة الرابعة : { قاصرات الطرف } من القصر وهو المنع أي المانعات أعينهن من النظر إلى الغير ، أو من القصور ، وهو كون أعينهن قاصرة لا طماح فيها للغير ، أقول والظاهر أنه من القصر إذ القصر مدح والقصور ليس كذلك ، ويحتمل أن يقال : هو من القصر بمعنى أنهن قصرن أبصارهن ، فأبصارهن مقصورة وهن قاصرات فيكون من إضافة الفاعل إلى المفعول والدليل عليه هو أن القصر مدح والقصور ليس كذلك ، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أنه تعالى قال من بعد هذه : { حور مقصورات } فهن مقصورات وهن قاصرات ، وفيه وجهان ( أحدهما ) أن يقال : هن قاصرات أبصارهن كما يكون شغل العفائف ، وهن قاصرات أنفسهن في الخيام كما هو عادة المخدرات لأنفسهن في الخيام ولأبصارهن عن الطماح ( وثانيهما ) أن يكون ذلك بيانا لعظمتهن وعفافهن وذلك لأن المرأة التي لا يكون لها رادع من نفسها ولا يكون لها أولياء يكون فيها نوع هوان ، وإذا كان لها أولياء أعزة امتنعت عن الخروج والبروز ، وذلك يدل على عظمتهن ، وإذا كن في أنفسهن عند الخروج لا ينظرن يمنة ويسرة فهن في أنفسهن عفائف ، فجمع بين الإشارة إلى عظمتهن بقوله تعالى : { مقصورات } منعهن أولياؤهن وهاهنا وليهن الله تعالى ، وبين الإشارة إلى عفتهن بقوله تعالى : { قاصرات الطرف } ثم تمام اللطف أنه تعالى قدم ذكر ما يدل على العفة على ما يدل على العظمة وذكر في أعلى الجنتين قاصرات وفي أدناهما مقصورات ، والذي يدل على أن المقصورات يدل على العظمة أنهن يوصفن بالمخدرات لا بالمتخدرات ، إشارة إلى أنهن خدرهن خادر لهن غيرهن كالذي يضرب الخيام ويدلي الستر ، بخلاف من تتخذه لنفسها وتغلق بابها بيدها ، وسنذكر بيانه في تفسير الآية بعد .

المسألة الخامسة : { قاصرات الطرف } فيها دلالة عفتهن ، وعلى حسن المؤمنين في أعينهن ، فيجبن أزواجهن حبا بشغلهن عن النظر إلى غيرهم ، ويدل أيضا على الحياء لأن الطرف حركة الجفن ، والحورية لا تحرك جفنها ولا ترفع رأسها .

المسألة السادسة : { لم يطمثهن } فيه وجوه ( أحدها ) لم يفرعهن ( ثانيها ) لم يجامعهن ( ثالثها ) لم يمسسهن ، وهو أقرب إلى حالهن وأليق بوصف كمالهن ، لكن لفظ الطمث غير ظاهر فيه ولو كان المراد منه المس لذكر اللفظ الذي يستحسن ، وكيف وقد قال تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } وقال : { فاعتزلوا } ولم يصرح بلفظ موضوع للوطء ، فإن قيل : فما ذكرتم من الإشكال باق وهو أنه تعالى كنى عن الوطء في الدنيا باللمس كما في قوله تعالى : { أو لامستم النساء } على الصحيح في تفسير الآية وسنذكره ، وإن كان على خلاف قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه وبالمس في قوله : { من قبل أن تمسوهن } ولم يذكر المس في الآخرة بطريق الكناية ، نقول : إنما ذكر الجماع في الدنيا بالكناية لما أنه في الدنيا قضاء للشهوة وأنه يضعف البدن ويمنع من العبادة ، وهو في بعض الأوقات قبحه كقبح شرب الخمر ، وفي بعض الأوقات هو كالأكل الكثير وفي الآخرة مجرد عن وجوه القبح ، وكيف لا والخمر في الجنة معدودة من اللذات وأكلها وشربها دائم إلى غير ذلك ، فالله تعالى ذكره في الدنيا بلفظ مجازي مستور في غاية الخفاء بالكناية إشارة إلى قبحه وفي الآخرة ذكره بأقرب الألفاظ إلى التصريح أو بلفظ صريح ، لأن الطمث أدل من الجماع والوقاع لأنهما من الجمع والوقوع إشارة إلى خلوه عن وجوه القبح .

المسألة السابعة : ما الفائدة في كلمة { قبلهم } ؟ قلنا لو قال : لم يطمثهن إنس ولا جان يكون نفيا لطمث المؤمن إياهن وليس كذلك .

المسألة الثامنة : ما الفائدة في ذكر الجان مع أن الجان لا يجامع ؟ نقول : ليس كذلك بل الجن لهم أولاد وذريات وإنما الخلاف في أنهم هل يواقعون الإنس أم لا ؟ والمشهور أنهم يواقعون وإلا لما كان في الجنة أحساب ولا أنساب ، فكأن مواقعة الإنس إياهن كمواقعة الجن من حيث الإشارة إلى نفيها .