{ والذي قَدَّرَ فهدى } والتقدير : وضع الأشياء فى مواضعها الصحيحة ، بمقدار معين ، وبكيفية معينة . . تقتضيها الحكمة ، ويقرها العقل السليم .
وقوله : { فهدى } من الهداية . بمعنى الإِرشاد والدالالة على طريق الخبر والبر . أى : وهو - سبحانه - الذى جعل الأشياء على مقادير مخصوصة فى أجناسها ، وفى أنواعها ، وفى أفرادها . وفى صفاتها وأفعالها . . وهدى كل مخلوق إلى ما ينبغى له طبعا واختيارا ، ووجهه إلى الوظيفة التى خلقه من أجلها ، بأن أوجد فيه العقل والميول والإِلهامات والغرائز والدوافع التى تعينه على أداء تلك الوظيفة .
وحذف - سبحانه - المفعول فى قوله : { الذي خَلَقَ فسوى .
والذي قَدَّرَ فهدى } للعموم ، لأن هذه الأفعال تشمل جميع مخلوقاته - عز وجل - .
قال الآلوسى : { والذي قَدَّرَ . . } أى : جعل الأشياء على مقادير مخصوصة . . { فهدى } أى : فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه ، وينبغى له . . فلو تتبعت أحوال النباتات والحيوانا ، لرأيت فى كل منهما ما تحار فيه العقول ، وتضيق عنه دفاتر النقول .
وأما فنون هداياته - سبحانه - للإِنسان على الخصوص ، ففوق ذلك بمراحل . . وهيهات أن يحيط بها فلك العبارة والتحرير ، ولا يعلمها إلا اللطيف الخبير .
أتزعم أنك جرم صغير . . . وفيك انطوى العالم الأكبر
وقد فصل بعض العلماء الحديث عن مظاهر تقديره وهدايته - سبحانه - فقال : قوله - تعالى - : { الذي خَلَقَ فسوى . والذي قَدَّرَ فهدى } أى : الذى خلق كل شئ فسواه ، فأكمل صنعته ، وبلغ به غاية الكمال الذى يناسبه ، والذى قدر لكل مخلوق وظيفته وطريقته وغايته ، فهداه إلى ما خلقه لأجله ، وألهمه غاية وجوده ، وقدر له ما يصلحه مدة بقائه ، وهداه إليه . وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة فى كل شئ فى هذا الوجود ، ويشهد بها كل شئ فى رحاب هذا الكون ، من الكبير إلى الصغير .
فالطيور لها غريزة العودة إلى الوطن . . دون أن تضل عنه مهما بعد ، والنحلة تهتدى إلى خليتها ، مهما طمست الريح فى هبوبها على الأعشاب والأشجار كل دليل يرى . .
وسمك " السلمون " الصغير ، يمضى سنوات فى البحر ، ثم يعود إلى نهره الخاص به . .
وقوله : { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } قال مجاهد : هدى الإنسان للشقاوة والسعادة ، وهدى الأنعام لمراتعها .
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 5 ] أي : قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن عبد الله ابن عَمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله قَدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " {[29969]} .
وقوله : وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَى يقول تعالى ذكره : والذي قدّر خلقه فهدى .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عُني بقوله : فَهَدَى ، فقال بعضهم : هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ ، والبهائم للمراتع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : قَدّرَ فَهَدَى قال : هدى الإنسان للشّقوة والسعادة ، وهَدى الأنعام لمراتعها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : هدى الذكور لمأتى الإناث . وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى .
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله عمّ بقوله فَهَدَى الخبر عن هدايته خلقه ، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى ، وقد هداهم لسبيل الخير والشرّ ، وهدى الذكور لمأتى الإناث ، فالخبر على عمومه ، حتى يأتي خبر تقوم به الحجة ، دالّ على خصوصه . واجتمعت قرّاء الأمصار على تشديد الدال من قَدّر ، غير الكسائي فإنه خفّفها . والصواب في ذلك التشديد ، لإجماع الحجة عليه .
وقرأ جمهور القراء «قدّر » بشد الدال فيحتمل أن يكون من القدر والقضاء ، ويحتمل أن يكون من التقدير والموازنة ، وقوله تعالى : { فهدى } عام لوجوه الهدايات فقال الفراء : معناه هدى وأضل ، واكتفى بالواحدة لدلالتها على الأخرى ، وقال مقاتل والكلبي : هدى الحيوان إلى وطء الذكور الإناث ، وقيل هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي ، وقال مجاهد : هدى الناس للخير والشر ، والبهائم ، للمراتع . .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال مثالات ، والعموم في الآية أصوب في كل تقدير وفي كل هداية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.