وبعد أن أمر - سبحانه - بالوفاء بصفة عامة ، أتبع ذلك بالوفاء فى شئون البيع والشراء ، فقال - تعالى - : { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } .
والقسطاس : الميزان الذى يوزن به فى حالتى البيع والشراء .
قال صاحب الكشاف : قرئ { بالقسطاس } بكسر القاف وضمها . . قيل : كل ميزان صغر أو كبر من موازين الدراهم وغيرها .
وقال الآلوسى ما ملخصه : وهذا اللفظ رومى معرب . . وقيل : عربى . . وعلى القول بأنه رومى معرب - وهو الصحيح - لا يقدح استعماله فى القرآن فى عربيته المذكورة فى قوله - تعالى - : { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } لأنه بعد التعريب والسماع فى فصيح الكلام ، يصير عربيا ، فلا حاجة إلى إنكار تعريبه . . .
وقوله : { تأويلا } من الأول - بفتح الهمزة وسكون الواو - بمعنى الرجوع . يقال : آل هذا الأمر إلى كذا ، إذا رجع إليه .
والمعنى : وأتموا أيها المؤمنون الكيل إذا كلتم لغيرم عند بيعكم لهم ما تريدون بيعه ، وزنوا لهم كذلك بالميزان المستقيم العادل ما تريدون وزنه لهم .
وقيد - سبحانه - الأمر بوجوب إتمام الكيل والميزان فى حالة البيع ، لأنها الحالة التى يكون فيها التطفيف فى العادة ، إذ أن البائع هو الذى غالبا ما يطفف للمشترى فى المكيال والميزان ولا يعطيه حقه كاملا .
قال - تعالى - : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } أى : ذلك الذى أمرناكم به . من وجوب إتمام المكيال والميزان عند التعامل ، خير لكم فى الدنيا ، لأنه يرغب الناس فى التعامل معكم ، أما فى الآخرة فهو أحسن عاقبة ومآلا ، لما يترتب عليه من الثواب الجزيل لكم من الله - عز وجل - .
ومن الوفاء بالعهد إلى إيفاء الكيل والميزان :
( وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم . ذلك خير وأحسن تأويلا ) . .
والمناسبة بين الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والميزان ظاهرة في المعنى واللفظ ، فالانتقال في السياق ملحوظ التناسق .
وإيفاء الكيل والاستقامة في الوزن ، أمانة في التعامل ، ونظافة في القلب ، يستقيم بهما التعامل في الجماعة ، وتتوافر بهما الثقة في النفوس ، وتتم بهما البركة في الحياة . ( ذلك خير و أحسن تأويلا ) . . خير في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة .
والرسول [ ص ] يقول : " لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ، ليس به إلا مخافة الله ، إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك " .
والطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس ، وغش وخيانة في التعامل تتزعزع بهما الثقة ، ويتبعها الكساد ، وتقل بهما البركة في محيط الجماعة ، فيرتد هذا على الأفراد ؛ وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف .
وهو كسب ظاهري ووقتي ، لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين .
وهذه حقيقة أدركها بعيدو النظر في عالم التجارة فاتبعوها ، ولم يكن الدافع الأخلاقي ، أو الحافز الديني هو الباعث عليها ؛ بل مجرد إدراكها في واقع السوق بالتجربة العملية .
والفارق بين من يلتزم إيفاء الكيل والميزان تجارة ، ومن يلتزمه اعتقادا . . أن هذا يحقق أهداف ذاك ؛ ويزيد عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العملي إلى آفاق أعلى من الأرض ، وأوسع في تصور الحياة وتذوقها .
وهكذا يحقق الإسلام دائما أهداف الحياة العملية وهو ماض في طريقه إلى آفاقه الوضيئة وآماده البعيدة ، ومجالاته الرحيبة .
القول في تأويل قوله تعالى { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : وَ قضى أن أوْفُوا الكَيْلَ للناس إذَا كِلْتُمْ لهم حقوقهم قِبَلَكم ، ولا تبخَسُوهم وَزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ يقول : وقَضَى أو زنوا أيضا إذا وزنتم لهم بالميزان المستقيم ، وهو العدل الذي لا اعوجاج فيه ، ولا دَغَل ، ولا خديعة . وقد اختلف أهل التأويل في معنى القسطاس ، فقال بعضهم : هو القبان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا صفوان بن عيسى ، قال : حدثنا الحسن بن ذكوان ، عن الحسن : وَزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ قال : القَبّان .
وقال آخرون : هو العدل بالرومية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : القِسطاس : العدل بالرومية . وقال آخرون : هو الميزان صغر أو كبر وفيه لغتان : القِسطاس بكسر القاف ، والقُسطاس بضمها ، مثل القِرطاس والقُرطاس وبالكسر يقرأ عامّة قرّاء أهل الكوفة ، وبالضمّ يقرأ عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وقد قرأ به أيضا بعض قرّاء الكوفيين ، وبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، لأنهما لغتان مشهورتان ، وقراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار .
وقوله : ذلكَ خَيْرٌ يقول : إيفاؤكم أيها الناس من تكيلون له الكيل ، ووزنكم بالعدل لمن توفون له خَيْرٌ لَكُمْ من بخسكم إياهم ذلك ، وظلمكموهم فيه . وقوله : وأحْسَنُ تأْوِيلاً يقول : وأحسن مردودا عليكم وأولى إليه فيه فعلكم ذلك ، لأن الله تبارك وتعالى يرضى بذلك عليكم ، فيُحسن لكم عليه الجزاء . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأوْفُوا الكَيْلَ كِلْتُمْ وَزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ ذلكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلاً أي خير ثوابا وعاقبة .
وأخبرنا أن ابن عباس كان يقول : يا معشر الموالي ، إنكم وَلِيتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم : هذا المِكيال ، وهذا المِيزان . قال : وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «لا يَقْدِرُ رَجُلٌ على حَرَامٍ ثُمّ يَدَعُهُ ، لَيْسَ بِهِ إلاّ مَخافَةُ اللّهِ ، إلاّ أبْدَلَهُ اللّهُ فِي عاجِلِ الدّنْيا قَبْلَ الاَخِرَةِ ما هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذلكَ » .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأحْسَنُ تَأْوِيلاً قال : عاقبة وثوابا .
وقوله تعالى : { وأوفوا الكيل } الآية ، أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجر والكيل والوزن أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم ، وروي عن ابن عباس أنه كان يقف في السوق ويقول : يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم ، هذا المكيال وهذا الميزان .
قال القاضي أبو محمد : وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع ، لأن المشتري لا يقال له أوف الكيل ، هذا ظاهر اللفظ والسابق منه ، و { القسطاس } قال الحسن هو القبان ، ويقال القفان وهو القلسطون ، ويقال القرسطون ، وقيل : «القسطاس » الميزان صغيراً كان أو كبيراً ، وقال مجاهد { القسطاس } العدل ، وكان يقول هي لغة رومية ، فكأن الناس قيل لهم زنوا بمعدلة في وزنكم ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «القُسطاس » بضم القاف ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «القِسطاس » بكسر القاف ، وهما لغتان ، واللفظة منه للمبالغة من القسط{[7567]} ، والمراد بها في الآية جنس الموازين المعدّلة على أي صفة كانت ، قال أبو حاتم إنما قرأ بكسر القاف أهل الكوفة ، وكل قراءة لا تجاوز الكوفة إلى الحرمين والبصرة فاقرأ بغيرها ، وقرأت فرقة «القصطاس » بالصاد .
قال القاضي أبو محمد : وكان مذهب مجاهد في هذا وفي ميزان القيامة ، وكل ذلك أنها استعارات للعدل ، وقوله : في ميزان القيامة مردود ، وعقيدة أهل السنة أنه ميزان له عمود وكفتان .
وسمعت أبي رضي الله عنه يقول رأيت الواعظ أبا الفضل الجوهري في جامع عمرو بن العاص يعظ الناس في الوزن فقال في جملة كلامه إن هيئة اليد بالميزان عظة وذلك أن الأصابع تجيء منها صورة المكتوبة ألف ولامان وهاء فكأن الميزان يقول الله الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وعظ جميل ، و «التأويل » في هذه الآية المآل . قاله قتادة ، ويحتمل أن يكون «التأويل » مصدر تأول أي يتأول عليكم الخير في جميع أموركم إذا أحسنتم في الكيل والوزن ، والفرض من أمر الكيل والوزن تحري الحق ، فإن غلب الإنسان تعد تحريه شيء يسير من تطفيف شاذاً لم يقصده بذلك نزر موضوع عنه إثمه ، وذلك ما لا يكون الانفكاك عنه في وسع .
هذان حكمان هما الثاني عشر والثالث عشر من الوصايا التي قضى الله بها . وتقدم القول في نظيره في سورة الأنعام .
وزيادة الظرف في هذه الآية وهو { إذا كلتم } دون ذكر نظيره في آية الأنعام لما في ( إذا ) من معنى الشرطية فتقتضي تجدد ما تضمنه الأمر في جميع أزمنة حصول مضمون شرط ( إذا ) الظرفية الشرطية للتنبيه على عدم التسامح في شيء من نقص الكيل عند كل مباشرة له . ذلك أن هذا خطاب للمسلمين بخلاف آية الأنعام فإن مضمونها تعريض بالمشركين في سوء شرائعهم وكانت هنا أجدر بالمبالغة في التشريع .
وفعل ( كال ) يدل على أن فاعله مباشرُ الكيل ، فهو الذي يدفع الشيء المكيل ، وهو بمنزلة البائع ، ويقال للذي يقبض الشيء المكيل : مكتال . وهو من أخوات باع وابتاع ، وشرى واشترى ، ورهن وارتهن ، قال تعالى : { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } [ المطففين : 2 ، 3 ] .
و القُسطاس بضم القاف في قراءة الجمهور . وقرأه بالكسر حفص ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف . وها لغتان فيه ، وهو اسم للميزان أي آلة الوزن ، واسم للعدل ، قيل : هو معرب من الرومية مركب من كلمتين قسط ، أي عدل ، وطاس وهوَ كفة الميزان . وفي صحيح البخاري } « وقال مجاهد : القُسطاس : العدل بالرومية » . ولعل كلمة قسط اختصار لقسطاس لأن غالب الكلمات الرومية تنتهي بحرف السين . وأصله في الرومية مضموم الحرف الأول وإنما غيَّره العرب بالكسر على وجه الجواز لأنهم لا يتحرون في ضبط الكلمات الأعجمية . ومن أمثالهم « أعجمي فالعَب به ما شئت » .
ومعنى العدل والميزان صالحان هنا ، لكن التي في الأنعام جاء فيها { بالقِسط } فهو العدل لأنها سيقت مساق التذكير للمشركين بما هم عليه من المفاسد فناسب أن يذكروا بالعدل ليعلموا أن ما يفعلونه ظلم . والباء هنالك للملابسة . وهذه الآية جاءت خطاباً للمسلمين فكانت أجدر باللفظ الصالح لمعنى آلة الوزن ، لأن شأن التشريع بيان تحديد العمل مع كونه يومىء إلى معنى العدل على استعمال المشترك في معنييه . فالباء هنا ظاهرة في معنى الاستعانة والآلة ، ومفيدة للملابسة أيضاً .
والمستقيم : السوي ، مشتق من القَوام بفتح القاف وهو اعتدال الذات . يقال : قومته فاستقام . ووصف الميزان به ظاهر . وأما العدل فهو وصف له كاشف لأن العدل كله استقامة .
وجملة { ذلك خير } مستأنفة . والإشارة إلى المذكور وهو الكيل والوزن المستفاد من فعلي { كلتم } و { زنوا } .
و { خير } تفضيل ، أي خير من التطفيف ، أي خير لكم . فضل على التطفيف تفضيلاً لخير الآخرة الحاصل من ثواب الامتثال على خير الدنيا الحاصل من الاستفضال الذي يطففه المطفف ، وهو أيضاً أفضل منه في الدنيا لأن انشراح النفس الحاصل للمرء من الإنصاف في الحق أفضل من الارتياح الحاصل له باستفضال شيء من المال .
والتأويل : تفعيل من الأول ، وهو الرجوع . يقال : أولَه إذا أرجعه ، أي أحسن إرجاعاً ، إذا أرجعه المتأمل إلى مراجعه وعواقبه ، لأن الإنسان عند التأمل يكون كالمنتقل بماهية الشيء في مواقع الأحوال من الصلاح والفساد فإذا كانت الماهية صلاحاً استقر رأي المتأمل على ما فيها من الصلاح ، فكأنه أرجعها بعد التطواف إلى مكانها الصالح بها وهو مقرها ، فأطلق على استقرار الرأي بعد التأمل اسم التأويل على طريقة التمثيل ، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة .
ومعنى كون ذلك أحسنَ تأويلاً : أن النظر إذا جال في منافع التطفيف في الكيل والوزن وفي مضار الإيفاء فيهما ثم عاد فجال في مضار التطفيف ومنافع الإيفاء استقر وآل إلى أن الإيفاء بهما خير من التطفيف ، لأن التطفيف يعود على المطفف باقتناء جزء قليل من المال ويكسبه الكراهية والذم عند الناس وغضب الله والسحتَ في ماله مع احتقار نفسه في نفسه ، والإيفاء بعكس ذلك يكسبه ميل الناس إليه ورضَى الله عنه ورضاه عن نفسه والبركة في ماله فهو أحسن تأويلاً . وتقدم ذكر التأويل بمعانيه في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير .